ثمة انحياز إعلاميّ غربيّ واضح في التعامل مع القضايا الإفريقية. فلا غرو أن تصبح الكثير من الأخبار التي نسمعها ونشاهدها عن إفريقيا سلبية للغاية، وتدعو للتشاؤم؛ ابتداءً من الحروب الأهلية والصراعات العنيفة المسلحة، ومرورًا بنقص الغذاء والمجاعة وانتشار الأوبئة، وانتهاء بتفشّي الفساد ونُظُم الحكم التسلطية.
تتصدّر قصص الرعب والعنف من منطقتي الساحل والقرن الإفريقي عناوين الصحف ومنصات الأخبار، لكنَّ قصص النجاح العديدة غير العادية للناس في إفريقيا نادرًا ما تتصدّر الأخبار.
ثمَّة حاجة ماسَّة لتقديم رواية أخرى حول إفريقيا بعيدًا عن سردية الفشل والمعاناة والاستبداد؛ صحيح أن إرث الاستعمار والتخلّف قد أعاقَ الإنجازات الإفريقية، ومع ذلك فإنَّ هناك قصصًا للنجاح تُظهر أنَّ العديد من الأفارقة ينتصرون على الرغم من هذه المشاكل.
لا شكَّ أن شروط التجارة والديون غير العادلة والتكالب الدولي القديم والجديد تساهم جميعها في عدم تحقيق إفريقيا لإمكاناتها، ولكنَّ العديد من الروّاد الأفارقة يساهمون بقصصهم المُلْهِمَة مع ذلك في تطوّر بلدانهم وفي النهوض بقارتهم الإفريقية بشكلٍ عامّ.
الثورة الرقمية والحلم الإفريقي:
على الرغم من أن إفريقيا تخلّفت عن الركب العالمي خلال الثورات الصناعية الماضية؛ فإن الوضع يبدو مختلفًا مع الثورة الصناعية الرابعة، وهو ما يعني إمكانية أن يكون القرن الحادي والعشرين قرنًا إفريقيًّا.
لقد أدَّت الثورة الرابعة -التي تتميز بدمج العوالم الرقمية والبيولوجية والمادية، فضلاً عن الاستخدام المتزايد للتقنيات الجديدة؛ مثل: الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية والروبوتات، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وإنترنت الأشياء، والتقنيات اللاسلكية المتقدمة- من بين أمور أخرى إلى دخول إفريقيا حقبة جديدة لن تتّضح عواقبها بعد.
فهل بإمكان الأفارقة خوض غمار ثورة رقمية ناجحة؟
كانت التحسينات في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في إفريقيا مدفوعة إلى حدّ كبيرٍ بتوسيع الخدمات المالية الرقمية المتنقلة؛ إذ تمتلك القارّة ما يقرب من نصف حسابات الأموال التي يتمّ تحويلها عبر الهاتف المحمول في العالم خلال عام 2018م.
ومن المرجّح أن تشهد أسرع نموّ في الخدمات المالية عبر الهاتف المحمول حتى عام 2025م. كما أن الذكاء الاصطناعي وتقنية التعاملات الرقمية (البلوك تشين) يجذبان أيضًا الاهتمام في إفريقيا؛ حيث يتمتّعان بالقدرة على مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها المجتمعات الإفريقية.
وهناك العديد من المجالات الأخرى التي يمكن أن تكون فيها التقنيات الرقمية محورية، وتقود إلى تغييرات كبرى في حياة الأفارقة.
كوفيد-19 والحلول الذكية:
لعل السؤال الذي يطرحه تحدّي كوفيد-19 يتمثل في كيفية تحويل هذه الجائحة إلى فرصة من خلال الحلول الرقمية؟
من الواضح أن علينا التعايش مع الفيروس حتى التوصّل إلى لقاح فعّال، وهو ما يعني حاجة الدول الإفريقية إلى فتح حدودها، والتخفيف من الإجراءات الاحترازية التي اتّخذتها لمواجهة تفشّي المرض الوبائي. بَيْدَ أنَّ المشكلة التي ينبغي حلّها هي: كيف يمكن الاعتماد على الاختبار الذي يتم إجراؤه في أيّ مكان في القارة، ونتائج الاختبارات الرقمية التي أُجريت في معامل معترَف بها بشكل متبادل في مختلف البلدان الإفريقية، للسفر عبر الحدود.
ربما يتطلب الأمر المزيد من الوقت والتكلفة لكل مسافر من أجل إجراء اختبارات عند الوصول، واختبارات قبل المغادرة، واختبارات أثناء العبور!
لمواجهة هذه الإشكاليات المتعلقة بالسفر عبر القارة؛ يشجّع الاتحاد الإفريقي والمركز الإفريقي لمكافحة الأمراض والوقاية منها الدول الأعضاء على تبنّي منصة بانا بايوس PanaBIOS على الهاتف المحمول والتي طوّرتها شركة كينية ناشئة؛ حيث يتم تبادل نتائج اختبارات كوفيد-19 في جميع أنحاء القارة.
يعني ذلك أن المسافرين لا يحتاجون إلى إجراء اختبارات متكررة طالما أنهم قادمون من دولة انضمَّت أيضًا إلى المنصة.
وتُعدّ غانا هي الدولة الإفريقية الوحيدة التي تستخدم هذه الخدمة. ولا شك أن هذه التكنولوجيا التي تمَّ تطويرها محليًّا في إفريقيا تستطيع أن تثبت للعالم الذي اعتاد على تهميش إفريقيا في النظام الدولي أن الأفارقة قادرون على تحويل السردية المتشائمة السائدة.
محاور الحلول الذكية وتحدياتها:
في غانا، كان للتقنيات الرقمية تأثير على قطاع الزراعة. لقد نجحت شركات التكنولوجيا الزراعية في إنشاء مشاريع تجارية جديدة، وتجديد نماذج أعمال الشركات الحالية الناضجة.
وتدعم شركات التكنولوجيا الزراعية هذه المزارعين ببيانات التسعير، والتمويل الجماعي، وأنشطة الاتصال. كما أنهم يربطون المزارعين بالمشترين، بالإضافة إلى مساعدتهم في تحديد ما يُميّزهم عن المنافسين. كما تمارس التقنيات الرقمية دورًا مهمًّا في القطاع الزراعي في نيجيريا أيضًا.
على سبيل المثال تعمل كلّ من “برايم ويف”، وهي شركة هندسية توفّر المعدات لشركات معالجة الأرز، و”شركة الوابل للتجارة”، وهي مطحنة أرز، معًا لابتكار حلول تكنولوجية جديدة. وتهدف هذه الحلول إلى تحسين أداء معالجة الأرز.
ويمكن تطبيق الحلول المبتكرة التي توصلت إليها الشركة لمعالجة الأرز على نطاق أوسع عبر القطاع الزراعي. ومع ذلك، كان على هذه الشركات التغلُّب على التحديات التنظيمية والمؤسسية في هذا القطاع.
ومن جهة أخرى أصبحت التقنيات الرقمية أيضًا جزءًا من الفنون والإعلام والترفيه، لا سيما في كينيا ونيجيريا.
ومع ذلك لا تزال البنية التحتية الرقمية لإفريقيا في مراحل نموها الأولى. طبقًا لتقديرات عام 2018م، كان 30٪ فقط من سكان القارة لديهم إمكانية الوصول إلى الإنترنت. كما أن أقل من 40٪ من السكان في إفريقيا جنوب الصحراء يمتلكون هواتف ذكية، وهو عدد أقل بكثير من معظم المناطق الأخرى في العالم. كما تراجعت المهارات الرقمية؛ حيث سجّلت إفريقيا 3,6 على المؤشر الذي يستخدمه المنتدى الاقتصادي العالمي، مقارنة بـ4,7 لكل من آسيا وأوروبا، و5,5 للولايات المتحدة.
وبشكل عام بلغ متوسط درجة النضج الرقمي للشركات في إفريقيا 29 درجة (وهو مقياس يتكون من 100 درجة محتملة)، مقارنة بـ55 بالنسبة لآسيا، و51 لأوروبا ، و49 للأميركتين معًا.
تحويل الجائحة إلى فرصة في التجارة البينية القارية:
منذ ظهور جائحة كوفيد-19، قامت مفوضية الاتحاد الإفريقي، مثل معظم المنظمات الحكومية الدولية حول العالم، بتحويل معظم أنشطتها عبر الإنترنت.
في هذا السياق، تعتقد المفوضية أنه من أجل الوفاء بالجدول الزمني الحالي لتفعيل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية في الأول من يناير 2021، وقرار القادة الأفارقة بشأن متابعة إجراءات التنفيذ، يجب أن تُجرَى مفاوضات منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية المعلقة عبر الإنترنت أيضًا.
حددت الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي عددًا من المخاوف بشأن استخدام الأنظمة الافتراضية، لا سيما فيما يتعلق بموثوقية البنية التحتية والأمن والسرية.
في هذا الصدد، تلقت مفوضية الاتحاد الإفريقي العديد من عروض الدعم للمساعدة في معالجة هذه المخاوف التي جاءت من القطاع الخاص على الصعيد القاري، ولا سيما منصة التجارة والدبلوماسية الافتراضية الإفريقية (AVDP)، وهي نفسها جزء من منصَّة التكامل الافتراضي الإفريقي المَرِن من أجل إفريقيا نابضة بالحياة (أفريفا AVRIVA).
يهدف مفهوم “أفريفا” إلى حشد الدعم نحو حملة لإبقاء منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية على المسار الصحيح باستخدام التكنولوجيا؛ من خلال تمكين الدول الأعضاء من المشاركة بشكلٍ فعّال وآمن في المفاوضات المتعلقة بمنطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية.
سيساعد ذلك على ضمان أن تكون البلدان الإفريقية قادرةً على الوفاء بالموعد الجديد لبدء التجارة بموجب اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية في 1 يناير 2021م على النحو الذي حدَّده رؤساء الدول والحكومات الإفريقية، الذين يلتزمون بشدة بإعادة جدول أعمال منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية إلى المسار الصحيح بعد تأجيل بدء التنفيذ الذي كان مقررًا في 1 يوليو 2020م.
هذا مع الأخذ في الاعتبار أيضًا أن جميع التحليلات والدراسات تؤكّد أنَّ منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية تمثل أفضل بوليصة تأمين واستراتيجية فعالة في إفريقيا للتعافي من جائحة كوفيد -19.
خاتمة:
في العام الماضي (2019م) صدر عن سلسلة “دراسات بالجريف لريادة الأعمال في إفريقيا” كتابٌ مُهِمّ بعنوان: ريادة الأعمال الرقمية في إفريقيا جنوب الصحراء: التحديات والفرص والآفاق”.
يسعى هذا الكتاب الرائد إلى فَهْم سبب وكيفية تقدُّم بعض المؤسسات الرقمية في إفريقيا بينما الشركات الأخرى إما في حالة ركود أو تراجع.
ويعالج المشاركون في هذا المؤلَّف المُحرَّر مجموعةً من دراسات الحالة التفصيلية؛ لبيان ودراسة التحديات والحواجز الموجودة، وكيف تتعامل بعض الشركات الرقمية البارزة مع إشكاليات العمل في بيئة أعمال معادية. وفي الوقت الذي أتاحت فيه المنصات الرقمية فرصًا متساوية للشركات الصغيرة، يواصل العديد من روّاد الأعمال الرقميين في إفريقيا الكفاح في مواجهة البيئات المحلية المليئة بالفساد وأوجه القصور الاقتصادية الأخرى.
ولا شك أن ذلك الوضع يدفع النقاش قُدُمًا من خلال معالجة التحديات والفرص، مع التركيز بشكلٍ خاصّ على كيفية قيام الشركات الرقمية الإفريقية بتشكيل المشهد وصياغة بداية جديدة لإفريقيا.
فهل يستطيع الأفارقة استغلال الفرصة هذه المرة، وجعل الثورة الرقمية بدايةً صحيحةً للقارَّة من أجل تصحيح وضعها الهامشيّ في النظام الدولي؟
ذلك هو التحدّي الحقيقيّ.