تتابع كثيرٌ من وسائل الإعلام الغربية ما يجري في إثيوبيا بعين القلق والترقُّب؛ حتى إنَّ المقال الأخير في مجلة الإيكونومست البريطانية يوم 19 سبتمبر 2020م جاء بعنوان: “التحوُّل الديمقراطي في إثيوبيا في خطرٍ”.
كان وصول آبي أحمد إلى السلطة عام 2018م في نظر كثيرٍ من المراقبين، وحتى الإثيوبيين أنفسهم؛ بمثابة نقطة تحول فارقة في بلدٍ لم يشهد على مدى عقود طويلة سوى أنظمة حكم مستبدَّة وثورات وحروب أهلية.
بعد تولّيه منصب رئيس الوزراء الذي جاء إليه وكأنه محمول على أعناق الجماهير التي ضاقت ذرعًا بممارسات العهد القديم، بدا آبي أحمد وكأنه يخطّ بيديه بداية جديدة لإثيوبيا.
فقام بإطلاق سراح سجناء الرأي من السياسيين والصحفيين، ورحَّب بعودة قادة أحزاب المعارضة من المنفى وشجَّع المتمردين على إلقاء سلاحهم والانخراط في العمل السياسي.
وسرعان ما توجَّه إلى محيطه الإقليمي فأبرَم اتفاق سلام مع إريتريا، نال عليه لاحقًا جائزة نوبل للسلام في العام الماضي، كما تعهَّد بإجراء أول انتخابات حرَّة في البلاد.
لكنَّ الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن؛ إذ لم يتمكَّن آبي أحمد من إخماد نيران الانقسامات العِرْقِيَّة العميقة التي تُهدِّد بتمزيق إثيوبيا، ولم يُغيِّر من نهج الدولة العميقة وميلها لممارسة العنف والقمع، كما أنه قام بتأجيل الانتخابات إلى أجلٍ غير مسمَّى بحُجَّة تأثيرات جائحة كوفيد-19.
قصة الصعود الإثيوبي:
ولعلَّ السؤال الذي يطرح نفسه اليوم يتمثّل في قصة الصعود الإثيوبي التي تمَّ الترويج لها منذ العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، ولا سيما في الدوائر الغربية والأمريكية.
مفاد حديث الصعود أنَّ إثيوبيا عملاق إفريقيّ، ولا سيما في منطقة القرن الإفريقي في كثيرٍ من النواحي.
وتستمدّ إثيوبيا قوّتها من كونها ثاني أكبر دولة من حيث عدد السكان في القارة، وأيضًا من جيشها القويّ الذي يبلغ قوامه نحو170 ألف فرد، ومن حجم اقتصادها ونُموّه المطرد، ومن فكرة الاستثنائية الإثيوبية باعتبارها الدولة الإفريقية الوحيدة التي تمكَّنت من هزيمة العدوان الأوروبي عليها في معركة عدوة التاريخية.
ومنذ بداية الألفية، تمتّعت إثيوبيا بازدهارٍ اقتصاديّ؛ حيث بلغ متوسط نموّ الناتج المحلي الإجمالي السنوي فيها أكثر من 10%، وهو أحد أعلى المعدلات في العالم. وقد حافظت الدولة على هذا الأداء من خلال التحوُّل التدريجي بعيدًا عن قطاع الزراعة لصالح قطاعي الصناعة والخدمات.
ربما يرجع هذا النجاح، ولو جزئيًّا على الأقل، إلى الإصلاحات التي أُدْخِلَتْ في عهد ميليس زناوي؛ الذي دافَع عن نموذج التنمية الذي تقوده الدولة، والذي يجمع بين الاستثمار العام في مجالات مثل البنية التحتية والتعليم والمساعدات الأجنبية والاستثمار.
وكانت القيادة الإثيوبية تحاول محاكاة قصة النمور الآسيوية، مثل كوريا الجنوبية وتايوان، التي كانت تتبع إطارًا تنمويًّا مشابهًا.
وعلى الرغم من أن آبي أحمد اتَّجه نحو مزيدٍ من التحرير الاقتصادي، وقام بفتح أبواب الشركات الحكومية في مجالات مثل الطاقة والاتصالات والسفر الجوي أمام الاستثمار الأجنبي؛ فإن العديد من الصناعات الرئيسية لا تزال تديرها الدولة.
وفي الوقت نفسه، راهنت الحكومة الإثيوبية على عددٍ من مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق، والتي تَمَّ دَعْم الكثير منها بأكثر من 12 مليار دولار من التمويل الصينيّ منذ عام 2000م. وتشمل هذه المشروعات الطرق الكبرى، وشبكات السكك الحديدية، وسدّ النهضة الإثيوبي الكبير، الذي بدأ العمل فيه في عام 2011م على ضفاف النيل الأزرق.
هل تصبح إثيوبيا نمرًا من ورق؟
لقد أظهرت بعض السياسات الطموحة التي ينتهجها آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي، أنها قد تشكّل في الواقع تهديدًا لأمن واستقرار إثيوبيا القومي.
فثمة غموض يحيط بمستقبل “الفيدرالية العرقية”، كما أنَّ هناك شكوكًا متزايدة حول التزام الحكومة الفيدرالية بالتنفيذ الكامل لبرنامج الإصلاح، ومدى جدية ونزاهة إجراء الانتخابات العامة في عام 2021م، وقبل ذلك ضرورة إجراء التعداد السكاني بهدف إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية، وهو ما يمكن أن يُشْعِل حدَّة المنافسة العرقية.
كما يُلاحظ أنَّ الأحزاب السياسية الرئيسية في البلاد هي أيضًا ذات أساس عرقيّ، ويمكن لمثل هذه المنافسة أن تُقوِّض المكاسب التنموية التي تحقَّقت في العقد المنصرم.
ويمكن الإشارة إلى عددٍ من التحديات الكبرى التي تُواجه إثيوبيا خلال المرحلة القادمة:
أولاً: تراجع قدرة الدولة على تقديم السِّلع والخدمات العامة: صحيح أن القوة البشرية تُمثّل أحد مصادر قوة إثيوبيا في محيطها الإقليمي، لكنَّها أيضًا مسؤولية من حيث تحوُّلها في لحظة معينة إلى قوة دافعة للاستياء العام نظرًا لعدم قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية وتلبية احتياجات العديد من الشباب وفقراء الريف الذين يتدفقون على المدن والمراكز الحضرية بأعدادٍ متزايدة.
كما أنَّ تغيُّر المناخ، وتدهور الأراضي، والمسألة الفلاحية، ونقص الخدمات الأساسية، كلها تدفع باتجاه التوسُّع الحضريّ الهائل وغير المستدام، مع كُلّ ما يصاحب ذلك من مضاعفات من الازدحام ومشاكل الإسكان وسوء خدمات الصحة العامَّة والبطالة.
صحيح أنَّ الحكومة الفيدرالية حاولت تحسين البنية التحتية الحضرية، ويرجع الفضل في ذلك جزئيًّا إلى الاستثمارات الصينية، وقدَّمت إسكانًا لذوي الدخل المنخفض، ونظام نقل عام ميسور التكلفة، وتوسَّعت في التعليم العالي، بما في ذلك إنشاء 11 جامعة جديدة في السنوات الخمس الماضية وحدها.
لكنْ مِن غير المرجَّح أن يعالج هذا البرنامج الإصلاحيّ الحكوميّ أزمة الفقر، التي تُعَدّ أكبر مشكلة تُواجِه البلاد؛ حيث يعيش أكثر من 22 مليون شخص تحت خطّ الفقر الوطنيّ. كما أنها لم تواكب زيادة نِسَب التحضُّر المرتفعة.
ثانيًا: أدَّت إشكالية “الفيدرالية العِرْقِيَّة” التي ينصّ عليها الدستور إلى نتائج ومشاعر مختلطة، ويبدو أنَّ النُّخْبَة الحاكمة الحالية غير مقتنعة تمامًا بأنها الطريقة الأكثر فاعلية لإدارة مثل هذا البلد بالغ التنوُّع والتعقيد. هناك معضلة الحفاظ على نظام الفيدرالية العرقيَّة مع ما يتضمّنه من خطر إبقاء الإثيوبيين منقسمين حسب العِرْق وليس بما هو مشترك بينهم في إطار هوية مشتركة، أو التخلُّص التدريجي من هذا النظام بمرور الوقت من خلال زيادة قبضة حكومة أديس أبابا على الحكومات الإقليمية.
لا توجد إجابات مباشرة لهذه المعضلة، لكنَّها تظل الشيء الوحيد الذي قد يقود إثيوبيا إلى طريق التمرُّد والعنف الإقليمي؛ إذا لم تقم الدولة بتبنّي خيارات رشيدة. يقول النُّقّاد: إنَّ الفيدرالية العرقية لم تكن مصمَّمة بشكلٍ حقيقيّ لتوزيع السلطة على جميع المناطق، ولكنَّها كانت في الأساس آلية لتوطيد السلطة في أيدي الحكومة الفيدرالية من خلال الاعتماد على حكومات إقليمية موالية للمركز.
ثالثًا: مسألة الأورومو الذين يُشكّلون أكثر من ثلث سكان البلاد: يُعدّ آبي أحمد أول زعيم من الأورومو في تاريخ البلاد؛ حيث كان وصوله إلى السلطة يُبشِّر ببداية جديدة، خاصةً لقوميته العرقية. ورغم ذلك، كان من الواضح منذ البداية أنه سيجد صعوبة في الموازنة بين العديد من القضايا؛ بما في ذلك مظالم الأورومو، وتلك الخاصة بالجماعات العِرْقِيَّة الأخرى، ووحدة الدولة الإثيوبية.
ويُعدّ اغتيال الموسيقي هاتشالو هونديسا في أديس أبابا في 29 يونيو 2002م -وما أثاره من احتجاجات حاشدة في منطقة أوروميا، ممَّا أدَّى إلى مقتل المئات واعتقال الآلاف- مثالاً واضحًا.
وللسيطرة على هذه الاضطرابات، تم اعتقال أكثر من 3500 مشتبهٍ بهم، بينهم زعيم المعارضة جوهر محمد. وتخشى المنظمات الحقوقية من أن الحكومة الإثيوبية تقوم باستخدام وفاة الفنان كذريعة لتفكيك النظام الدستوري؛ من خلال فرض سياسة القمع، وهو ما يعني أن رئيس الوزراء آبي أحمد يتراجع اليوم خطوتين إلى الوراء بعد أن خطا خطوة قوية إلى الأمام.
رابعًا: مسألة التيغراي والتي تُهدِّد مستقبل الاتحاد الإثيوبي: لقد عارض حزب تيغراي الحاكم -الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي- إصلاحات آبي أحمد منذ البداية، بما في ذلك تحرُّكه لإدماج الائتلاف الحاكم وتحويله إلى حزب الازدهار، والقرار الأخير بتأجيل الانتخابات العامَّة.
وقد أصرَّت التيغراي بالفعل على أن تجري انتخاباتها الإقليمية في موعدها رغم معارضة الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا. من المحتمل أن تكون الجبهة الحاكمة في التيغراي، والتي تولَّت السلطة قبل مجيء آبي أحمد لما يقرب من ثلاثة عقود هي أخطر أعدائه السياسيين؛ حيث إنها تمتلك من الموارد والشبكات اللازمة لزيادة حدَّة الأزمات التي تواجهها الحكومة الإثيوبية.
على سبيل المثال: يقع إقليم التيغراي في الشمال على طول حدود إثيوبيا مع إريتريا. وثمة عداء مشترك بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والقيادة لحاكمة في إريتريا، وهذا يجعل الاتفاق الذي أبرمه رئيس الوزراء آبي مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي غير مقبول بالنسبة للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، التي أحبطت باستمرار عملية فتح الحدود البرية بين البلدين.
خلاصة الأمر أنَّ إثيوبيا تحاول أن تُثبت لنفسها وللغير أنها قوة إقليمية يُحْسَب لها ألف حساب؛ حيث وجدت نفسها في صراع من أجل الهيمنة على الشؤون الإقليمية للقرن الإفريقي وحوض النيل، لا سيما ضد كل من كينيا ومصر.
إنها تُظْهِر تارةً وجهها الإفريقي بحكم احتضانها مقرّ الاتحاد الإفريقي، وتقوم تارةً أخرى بدور قياديّ في الوكالة الحكومية الدولية للتنمية (إيجاد)، لا سيما فيما يتعلّق بمسائل السلام؛ صُنْع وحِفْظ السلام في جنوب السودان، وفي جهود الاتحاد الإفريقي لمحاربة جماعة الشباب في الصومال.
ومع ذلك عند قراءة كلّ من الديناميات السياسية المحلية والإقليمية، نجد أن إثيوبيا تخاطر بالتخلّي عن الإصلاحات التنموية والديمقراطية لصالح البحث عن الزعامة والمكانة الإقليمية.
إنَّ أساس قوة الدولة يبدأ من الداخل؛ حيث توجد قاعدة تأييد وطنية، وطالما ظلت المجموعات العرقية هي الأقوى فسوف يلوذ بها المواطنون طلبًا للدعم والحماية في نفس الوقت الذي تنغمس فيه النُّخَب الحاكمة في حوار عقيم حول الفيدرالية العرقية.