احتجزت السلطات الرواندية في 31 أغسطس 2020م “بول روسيساباغينا” (Paul Rusesabagina)، المنشق البارز الذي اشتهر بسبب فيلم “فندق رواندا” الذي روى قصته بإنقاذ المئات من الروانديين؛ وذلك بعدما أصدر مكتب التحقيقات الرواندي مذكرةً دوليةً بالقبض عليه على خَلفية تُهَمٍ تشمل الإرهاب.
وعملية اعتقال “روسيسابغينا” تُحيط بها عدة تساؤلات؛ فقد كانت لدى مؤيّدي الرئيس الرواندي “بول كاغامي” بمثابة خطوةٍ مهمةٍ في سبيل احتواء أزمة أمنية محتملة. بينما تحسبها المنظمات الحقوقية حلقةً جديدةً من سلسلة تراجع الحريات والحقوق الإنسانية في عهد الرئيس “كاغامي” الذي يُوصَف لدى بعض الباحثين السياسيين بـ”المُصْلِح المُستبدّ”، خاصةً وأن “روسيساباغينا” نفسه قد قال في الماضي بأنه ضحيةُ حملةِ تشهيرٍ من رواندا؛ بسبب معارضته للحكومة.
اختطاف أم اعتقال؟
نال “بول روسسابغينا” -الذي يحمل جنسية بلجيكية، ويقيم في الولايات المتحدة الأمريكية- شهرةً عالميةً بعد صدور فيلم “فندق رواندا” في عام 2004م، والذي حكى عن جهوده في إنقاذ 1268 شخصًا بإيوائهم في فندق ” Milles Collinesالفاخر الذي كان يديره وقتذاك في كيغالي؛ حيث تفاوض بشكلٍ يوميّ مع ضباط الجيش الرواندي؛ حتى تجاوز الإبادة الجماعية سالمًا مع اللاجئين الموجودين في الفندق.
وقد كانت الرواية الرسمية لدى حكومة رواندا حتى يوم الأحد الماضي أن “روسيسابغينا” البالغ من العمر 66 عامًا قد غادر الإمارات العربية المتحدة طواعيةً على متن طائرةٍ خاصةٍ، وأنه اعْتُقِلَ بعد عودته إلى رواندا. وقد ظهر بعد أيام من إعلان اعتقاله في مقر مكتب التحقيقات الرواندي وهو مُقيَّد اليدين.
على أن القضية اتخذت منحًى آخر عندما قالت “كارين كانيمبا” – ابنة “روسيساباغينا”- في منشور على فيسبوك بأنَّ والدها مختطفٌ مِن قِبَل السلطات الرواندية أثناء زيارته لدبي، وأنه “أُخِذَ (دون إرادته) بتسليم استثنائي إلى رواندا”. وهو ما أجبرَ الرئيس الرواندي “بول كاغامي” على التراجع عن رواية حكومته، وأكَّد بشكل غير صريح في مقابلة تلفزيونية بأن “روسيساباغينا” وقع فريسة خدعة أقنعته بالصعود إلى الطائرة، دون تحديد طبيعة الخدعة، وأنه بالتالي لا يلوم سوى نفسه.
“لقد كانت (العملية) في الواقع بلا عوائق ولا عيوب. الأمر يبدو كما لو أنك أطعمتَ شخصًا مَّا بقصة كاذبة تتناسب جيدًا مع روايته لما يريدها ويتابعها، ثم وجد نفسه في مكان كهذا”؛ هكذا قال الرئيس “كاغامي”.
مُهدِّد لأمن رواندا:
كانت إدارة الرئيس “كاغامي” تحاول اعتقال “روسيساباغينا” منذ عام 2010م؛ حيث فشلت رواندا في إقناع سلطات الولايات المتحدة الأمريكية وبلجيكا للمساعدة في عملية القبض عليه؛ وقد بدأت المشكلة بين “كاغامي” و”روسسابغينا” عندما انتقد الأخير نظام “كاغامي” في مناسبة العرض الرسمي الأول لفيلم “فندق رواندا” في ملعب بـكيغالي، وتطوّرت معارضته فيما بعد إلى افتراضه خيار الكفاح المُسلَّح ضد الحكومة.
وبغضّ النظر عن الآراء والتقييمات المعارضة لفيلم “فندق رواندا”؛ بسبب ميله إلى الإثارة أكثر من الواقع، ولعدم توافقه مع روايات الناجين الآخرين من الإبادة الجماعية؛ فقد زاد الطين بلة عندما قام “رويسساباغينا” في 4 يوليو 2017م -الذكرى السنوية لـ”تحرير” رواندا من قبل “الجبهة الوطنية الرواندية”- بدمج الحزب الذي أسَّسه، وهو “حزب الديمقراطية في رواندا” (PDR-Ihumure) مع حركة مسلحة معروفة بـ “CNRD – Ubwiyunge“، وشكّلا معًا حزب “الحركة الرواندية من أجل التغيير الديمقراطي” (MRCD).
وفي عام 2018م انضم إلى الحزب الجديد جناح شِبْه عسكري، وهو “الحركة الثورية الرواندية” (RRM) التي كان يقودها “كالكستي نسابيمانا” الملقَّب بـ”سانكارا”. فكان “بول روسيساباغينا” رئيس حزب MRCD، بينما كان “سانكارا” نائبه الثاني والمتحدث باسم “قوات التحرير الوطنية” (FNL) الجناح العسكري للحزب الجديد.
على أنه في عام 2019م حدث شيء مختلف تمامًا؛ فقد اعتقلت السلطات الرواندية “كالكستي نسابيمانا” (سانكارا) في جزر القمر بعد صدور مذكرة اعتقال دولية ضده، ووجَّهَت إليه هو و”روسيساباغينا” ورفاقهما تُهَمًا كثيرةً عن الانتهاكات والهجمات المنسوبة إلى الحركة المسلحة – معتمدة على تصريحات “سانكارا” نفسه في وسائل الإعلام المختلفة التي ادَّعى فيها ارتكاب أفعال شنيعة ضد نظام الرئيس “كاغامي”.
وبالفعل، اعترف “سانكارا” في مايو 2019م بأنه ارتكب جميع التُّهَم البالغة 16 تهمة الموجهة إليه، وأبدى استعداده لإعطاء المحققين الروانديين معلومات عن جرائم “بول روسيساباغينا”، وهو ما يُعَقِّد وَضْع “روسيساباغينا” الحالي في القضاء الرواندي؛ نظرًا للقائمة الطويلة من التُّهَم الكبيرة الموجهة إليه، والتي تتعلق بالإرهاب والابتزاز والفساد، وغير ذلك.
وإذا كان “روسيساباغينا” لا يزال محتجزًا إلى الآن لدى الشرطة في كيغالي منتظرًا المحاكمة، فقد أعلنت عائلته بأن الحكومة قد رفضت مرتين لقاء محاميه الخاص. وهناك من المراقبين من يرى أنه قد يواجه عقوبة سجن طويلة في نهاية إجراءات القضاء ضده إذا ثبتت إدانته.
خَصْم سياسيّ شرس:
يذهب البعض إلى أن اعتقالَ “بول روسيساباغينا” محاولةٌ من الرئيس “بول كاغامي” لإسكات منافسٍ سياسيّ محتمل، وأحد أبرز منتقديه المنشقين الذي يتمتَّع بقبول لدى المجتمع الدولي وثناءات الحكومات الغربية، خصوصًا وأن شهرته كأحد أبطال الإبادة الجماعية زادت بشكل لافتٍ بعد صدور “فندق رواندا”، وحصل في عام 2005م على وسام الحرية الرئاسي من الرئيس الأمريكي “جورج بوش”.
جدير بالذكر أن الحكومة الرواندية دائمًا ما تصف “روسيساباغينا” بـ”مُخَرِّب خطير ينكر في كثير من الأحيان الحقيقة بشأن الإبادة الجماعية”. بل وصرّح الرئيس “كاغامي” قبل إحياء ذكرى الإبادة الجماعية في أبريل عام 2006م بأنه يجب على “روسيساباغينا” ألّا يستغلّ أكذوبة كونه بطلاً؛ لأن ذلك خطأ تمامًا؛ سواء “قال ذلك الأمريكيون أو الأوروبيون أو أيّ شخص آخر”.
ويُضَاف إلى ما سبق أن مؤيدي “روسيساباغينا” يستدلون بحوادث مختلفة اعتقل فيها الرئيس “كاغامي” معارضيه السياسيين، بمن فيهم “ديان رويغارا” التي واجهت خلالها ابتزازات واعتقالاً مِن قِبَل السلطات الرواندية بعد إعلان نيَّة ترشحها للانتخابات الرئاسية في مايو 2017م؛ فالرئيس “كاغامي” –في وجهة نظر منتقديه- لا يحتمل أيّ معارضة داخل بلاده، بينما يستغل المناسبات العالمية ووسائل الإعلام الدولية للترويج لبلاده كرائدة في مجال “حقوق المرأة” وحماية البيئة، ولتلميع صورته كبطل حربٍ أعاد بناء رواندا بعد أن قاد الجيش الذي أوقف الإبادة الجماعية عام 1994م. وهو الآن يقضي فترة ولايته الثالثة كرئيس البلاد، ويمكنه البقاء في الحكم حتى عام 2034م بعد تغييره للدستور في عام 2015م.
وبالنسبة لـ “بول روسيسباغينا”، فإن عائلته تصرّ على أنه لا توجد علاقة بينه وبين الحركة المسلحة المتَّهمة بتنفيذ الهجمات، مؤكدة أنه شخص مُسالِم لا يُؤيّد العنف.
تواطؤ غربي:
تسود أجواء اعتقال “روسيساباغينا” شعور عام لدى المنشقين السياسيين؛ وهو أن الولايات المتحدة الأمريكية وبلجيكا (وغيرهما) متواطئتان مع السلطات الرواندية، وذلك بسبب سكوت الدولتين بشأن القضية وطريقة خداع “روسيساباغينا” والتجسّس عليه واختراقه مِن قِبَل الحكومة الرواندية باستخدام تكنولوجيا المراقبة في الأيام التي سبقت اعتقاله.
وقد أشارت صحيفة “دي ايست أفريكان” إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد رفضت الرد على أسئلتها التي طلبت فيها التعليق على اعتقال “بول روسيساباغينا” ومحاكمته الوشيكة، بينما فضّلت بلجيكا إصدار بيان فقط قالت فيه: إنها لم تكن متورطةً في اعتقاله.
وعليه، فإن الملجأ الأخير لـ “روسيساباجينا” قد يكون في أيدي النظام القضائي الرواندي؛ إذ تشكو “كيتي كورت” المتحدثة باسم عائلته من خطورة وضعه الذي جعله هاربًا عن زيارة بلده الأم لمدة 15 عامًا على الأقل؛ لأنه كان يعرف “أن ذهابه إلى كيغالي قد يؤدي إلى قتله أو اختفائه أو سجنه”.
ومع ذلك، فقد أثار القلق على سلامة “روسيساباغينا” ودعوات بعض الشخصيات لإطلاق سراحه إلى طلب “تيبور ناغي” -كبير مسؤولي وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون إفريقيا- والسيناتور “تيم كين” من فرجينيا من السلطات الرواندية ضمان حصوله على محاكمة عادلة؛ فكان ردّ الرئيس “كاغامي” يوم الأحد الماضي: إنه لا يوجد ما يدعو للقلق؛ لأن المحاكمة ستُجْرَى بصورة عادلة وعلنية، وأضاف: نحن في رواندا “نريد أيضًا تصحيح الأمور”.
ــــــــــــــــــــــــــــ
للمزيد:
Ivan R. Mugisha.(2020). US leaves Rusesabagina in Rwanda’s hands، Belgium is silent. The EastAfrican:
Waldorf، L. (2009). Revisiting Hotel Rwanda: genocide ideology، reconciliation، and rescuers. Journal of Genocide Research، 11(1)، 101-125.
Stephanie Kirchgaessner، & Jason Burke (2020).Rwanda dissidents suspect Paul Rusesabagina was under surveillance. The Guardian UK:
Abdi Latif Dahir. (2020). Rwanda Hints It Tricked ‘Hotel Rwanda’ Dissident Into Coming Home. The New York Times: https://nyti.ms/324g7Uz
Dan Ngabonziza. (2019). Developing Story: Callixte Nsabimana Pleads Guilty To All 16 Charges. KT Press:
Andres Schipani. (2020).‘Hotel Rwanda’ hero was not kidnapped، says Paul Kagame. Financial Times: https://on.ft.com/3bHkQP9
Deutsche Welle. (2020).’Hotel Rwanda’ hero Paul Rusesabagina arrested on terrorism charges:
Neil Edwards. (2019). Alongside Real Progress، Kagame’s Human Rights Abuses Persist. Council On Foreign Relations: https://on.cfr.org/325jgDp
Radio Ubumwe: Wishes of the new year 2019 of Mr Paul Rusesabagina MRCD-UBUMWE and FLN’s president: