تمهيد:
إن التمييز على أساس العِرْق، والتنمية لا يجتمعان؛ شأنهما شأن التمييز في اللغة والدين والجنس، وقد تم تبنّي أطروحة أن المشكلات التنموية التي تعاني منها منطقة إفريقيا جنوب الصحراء كانت بسبب المستعمر. غير أن هذا الطرح -وفقًا لكثير من الباحثين- يُعتبر جزءًا من مسبّبات التخلُّف، التي يعود جزء آخر منها إلى أسباب ذاتية؛ يُعتبر التمييز العرقي جزءًا منها. وبالتالي فإن فَهْم العواقب الاقتصادية للسياسة العرقية أمر بالغ الأهمية لصياغة سياسات تنموية فعَّالة.
ومن هذا المنطلق، استهدفت المقالة الوقوف على الأثر السلبي الذي تلعبه القبلية في تأخُّر التنمية في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، من خلال المحاور التالية:
- المحور الأول: العِرْق وتعطيل بناء الدولة في إفريقيا جنوب الصحراء.
- المحور الثاني: التمييز العِرْقي وإعاقة التنمية في إفريقيا جنوب الصحراء.
- المحور الثالث: الاستنتاجات والسيناريوهات والتوصيات.
المحور الأول:
العِرْق وتعطيل بناء الدولة في إفريقيا جنوب الصحراء
أولًا: حالة الاندماج التنموي في إفريقيا جنوب الصحراء
تُواجه منطقة إفريقيا جنوب الصحراء العديد من الأمراض الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وقد قيل في الماضي: إن العديد من المشكلات التي تُحاصر المنطقة تنبع من الاستغلال المتعمَّد من جانب الدول الإمبريالية للموارد البشرية والطبيعية لأكثر من أربعة قرون. ولا يزال هذا الاستغلال والاستعباد مستمرين، وإن كان بطريقة أكثر دقةً وإتقانًا. ورغم تحقيق الاستقلال إلا أن التقدُّم المُحرَز في مجالات التحرُّر الاقتصادي كان ضئيلًا. وقد أدَّى هذا إلى إعادة استعمار المنطقة من خلال المساعدات المشروطة، وتنظيم أسعار صادرات المنطقة من جانب الدول الإمبريالية.
ورغم أن أطروحة المؤامرة كانت مقبولة لبعض الوقت، وخاصةً في أثناء النضالات ضد الاستعمار؛ إلا أن بعض الأفارقة اليوم قد تقبَّلوا حقيقة مفادها أن العديد من المشكلات التي تواجهها بلدانهم هي مشكلات ذاتية. والواقع أن القتل الصارخ وغير المُبرَّر للأفارقة على يد الأنظمة الإفريقية الفاسدة، بعد تحقيق الاستقلال السياسي؛ أعاد إلى الأذهان حقيقة أن مثل هذه العوامل أسهمت بلا أدنى شك في الأداء الضعيف في مجالات التنمية. والآن أصبح الأفارقة من ذوي العقول السليمة أكثر حذرًا في عزو مِحَن إفريقيا بالكامل إلى الاستعمار الجديد. وعندما نُحلِّل الكوارث السياسية والاقتصادية، فمن الواضح أن أحد أسباب البؤس التنموي هو البؤس العِرْقي.([1])
يُوجد في إفريقيا أكثر من 3000 قبيلة، مما يُمثِّل تشكيلًا متعدِّد الثقافات، فضلًا عن الاختلافات السياسية([2]). تتمتع هذه المجموعات بتفضيلات استثنائية فيما يتعلق بظروف معيشتها ومعاييرها لتحقيق البقاء وأنماط الحياة، وما إلى ذلك. ومن الصعب تحقيق التوزيع الاقتصادي العادل للجميع؛ لأن هذه التشكيلة غير المتجانسة أثَّرت على السياسة الإفريقية بشكل كبير؛ حيث تستبعد الانقسامات المؤسسية الأشخاص الذين ينحدرون من خلفية قبلية معينة من الحصول على قدرٍ متساوٍ من الامتيازات والفرص التي تتمتع بها القبائل المهيمنة. وبصرف النظر عن التاريخ الاستعماري لإفريقيا، من الفصل العنصري والتهميش؛ فإن ظهور القَبَلية أصبح ممارسة اجتماعية تُملي هيكل الحكومة والسياسة، وتُعيق التنمية([3])
وعند التعامل مع التنمية، من الأهمية بمكان أن يتمتع القادة بمؤهلات النزاهة والأخلاق والاحتراف، والقدرة على تنفيذ إصلاحات التنمية. والمجتمعات التي تفشل في حلّ الخلافات القبلية تَحُدّ من قدرتها على التنمية. وتُعدّ رواندا حالة مُعبِّرة لكيفية تصاعد الخلاف القبلي البسيط إلى إبادة جماعية، ولكن بعد التجربة المروعة، تدخلت الحكومة، ونفَّذت سياسات وقائية وإستراتيجيات للتكامل الاجتماعي؛ حتى أضحت من بين أفضل البلدان أداءً اقتصاديًّا.
كما أن أزمة الانقسام وعدم الاستقرار السياسي غير المُدارة هي السبب الجذري للهجرة داخل إفريقيا وخارجها؛ حيث يهاجر الناس هربًا من الترهيب والخوف وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي. وتواجه إفريقيا “هجرة أدمغة” هائلة؛ حيث يمتلك مهاجروها المهارات والقدرات الكافية للمساهمة في التنمية، ولكنهم يشعرون بعدم التقدير وعدم الاعتراف، وهؤلاء الأفراد مُستبعَدون بشكل هامشي من الأدوار الإستراتيجية في بلدانهم فكان لذلك تداعيات سلبية على التنمية.([4])
يتنقل الأفارقة بانتظام بين بلدان مختلفة؛ بحثًا عن الفرص والمأوى والبقاء. وقد نمت الهجرة داخل إفريقيا من 12.5 مليون في عام 2000م إلى 19.4 مليون عام 2017م. وينتقل المهاجرون إما طواعية أو مُجبَرين بسبب ظروف مثل الصراع، وعدم الاستقرار السياسي ونقص فرص العمل. ([5])
ثانيًا: القبلية والممارسات السياسية
إن التحدي الذي يُواجه الديمقراطية في إفريقيا لا يتمثل في التنوع العرقي، بل في إساءة استخدام سياسات الهوية لتعزيز المصالح القبلية، وكسب الولاءات لأسباب شخصية. ومخاطر الاختلاف العِرْقي ملحوظة في كثير من المواقف، وخاصةً عندما تنشأ حالات الصراع أثناء الانتخابات، ويُقتَل الناس أو يُهَّددون لممارسة حقهم الديمقراطي. والقادة السياسيون يستغلون علاقاتهم القبلية لتعزيز الأجندات الشخصية والمحسوبية.
والأحزاب السياسية تُعرَّف من خلال تراثها التاريخي والمناطق القبلية التي نشأت منها. ونادرًا ما تُمنَح الأدوار الرئيسية فيها لأيّ شخص من خارج القبيلة. ويُعامَل النجاح في الانتخابات باعتباره انتصارًا قَبليًّا. وعندما يتم تمكين هذه القبائل، فإنها تَحشد بشكل إستراتيجي ما يكفي من الموارد للسيطرة على هياكل السلطة، والشركات المملوكة للدولة، والجيش، وامتيازات التعدين، والمشتريات العامة، والوزارات، والهيئات التنظيمية، والجامعات، والمِنَح الدراسية، والبرامج الاقتصادية، وما إلى ذلك. ويتعرض الناس لمعاملة دونية في بلدانهم على أساس خلفياتهم القبلية أو يتم نَبْذهم بسبب انتماءاتهم السياسية.([6])
ثالثًا: القبلية كعامل مُعطِّل لبناء الدولة
لقد أدَّى ظهور الحكم الاستعماري إلى تدمير السلام المستقر والتضاريس المزدهرة التي عاشها الأفارقة القدماء. وقد بدأت المغامرة الاستعمارية بغرث وجهات نظر مختلفة حول تاريخ الأفارقة الذي لا يعرفون عنه إلا القليل؛ حيث تم غسل أدمغتهم، وبالتالي فإن معظمهم يُعادُون القِيَم الثقافية والمعايير والمعرفة التي كانت موجودة قبل سنوات من ولادتهم. وينظرون إلى العالم الغربي باعتباره السلطة العليا؛ لأنه يمتلك التكنولوجيا والخبرات العلمية وحتى خلق التكنوقراط. ولقد ناضلت إفريقيا منذ زمن بعيد من أجل بناء الأمة لمساعدة الأفارقة على استعادة مَجْدهم وقدراتهم المفقودة، ولكنّ تقدم بناء الأمة الإفريقية قد أحبطته بعض المفاهيم السلبية التي ساعدت على استعبادهم عقليًّا؛ ومن بين هذه المفاهيم “القبلية”.
إن المجموعات العرقية في المنطقة لها ثقافات متعددة تُشكّل أيديولوجياتها. مما أدى إلى انخراطها في التمييز القبلي الذي أدَّى إلى سلسلة من الحروب وغذَّى الإرهاب، كما حدث في رواندا وسيراليون وجنوب إفريقيا ونيجيريا وجنوب السودان، وغيرها. وقد نجحت هذه المجموعات القبلية بطرق مختلفة في تأمين وسائل لتأكيد سيادة مجموعاتها القبلية في المجتمع الإفريقي. وصلت تلك الوسائل إلى الاستعانة بالمستعمِر من أجل المصالح القبلية الضيقة، مقابل فشل بناء الأمة الإفريقية.([7])
رابعًا: مخاض بناء الأمة واستغلال الانقسام
بُنيت الدول القومية في أوروبا والأمريكيتين من خلال مرحلتين من الصراع؛ أولًا، كانت هناك حرب الاستقلال ضد الإمبراطوريات أو القوى الاستعمارية. وثانيًا، الصراع الداخلي والحرب الأهلية. ومع ذلك، فقد مُنِحَ الاستقلال لعدد كبير من دول إفريقيا جنوب الصحراء. وكثيرًا ما وجدت هذه القوى أن الرضوخ للاستقلال السياسي كان وسيلة لتحقيق التوازن بين مصالحها، مما يسمح لها بالحفاظ على نفوذ سياسي واقتصادي كبير دون أعباء الحفاظ على الوجود العسكري والقمع المؤسسي. وتم قبول الدول المستقلة كأعضاء كاملين في المجتمع الدولي، ولكن الولاءات القبلية والدينية ظلت قائمة. وكانت هذه الاختلافات في قلب صراعات مروعة مثل حرب بيافرا في نيجيريا والإبادة الجماعية في رواندا. وعلى النقيض في بعض الحالات التي طورت حركات ثورية وسياسية كما في المستعمرات البرتغالية السابقة تمكنت من تحييد الانقسامات القبلية.([8])
استخدمت المنظمات الإرهابية هذه العوامل لنشر أيديولوجياتها وتنمية شبكاتها. ومن الأمثلة التي تستحق الذكر؛ التمرد في مقاطعة كابو ديلجادو في موزمبيق، والذي اندلع في أواخر عام 2017م. فقد اجتمعت الانقسامات القبلية والدينية والاجتماعية والاقتصادية في هذا الصراع. وكانت قبيلة “المواني” هي خصم لشعب الماكوندي، الذي كان مصدرًا لمعظم مقاتلي جبهة تحرير موزمبيق (فريليمو) في كفاحها ضد البرتغاليين. واليوم، يتمتع شعب الماكوندي بتمثيل كبير داخل التسلسل الهرمي للدولة بداية من الرئيس. وقد أدَّى العداء التاريخي بين القبائل إلى جعل شعب “المواني” أكثر ميلًا إلى الانخراط في أعمال عدائية ضد الحكومة، التي يعتبرونها من قبيلة الماكوندي. ولا تزال عوامل الهوية القبلية والعرقية تطارد جنوب إفريقيا؛ حيث يُنظَر إلى الأغلبية من السود والبيض والهنود، ومؤخرًا الجالية الصينية، على خلفية عرقهم، وعلى المستوى السياسي، يميلون إلى التصرف وفقًا لهوياتهم العرقية. حتى القوات المسلحة لديها حصص للمجموعات المختلفة، ونيجيريا لديها أكثر من 200 مجموعة قبلية وانقسام ديني بين الإسلام في الشمال والمسيحية في الجنوب.([9])
غير أن أنجولا قد خضعت لعملية بناء أمة أكثر تقليدية؛ حيث بدأت انتفاضة ضد الاستعمار عام 1961م. ثم اندلعت حرب أهلية طويلة، ولم تتوقف إلا في عام 2002م، بانتصار حكومة الحركة الشعبية لتحرير أنغولا على متمردي يونيتا. وكانت إحدى عواقب الحرب إزالة الانتماء القبلي. فقد دفعت الناس من الريف إلى المدن، التي كانت تعتبر أكثر أمانًا. واختلط الوافدون الجدد بالسكان الحضريين، مما أدَّى إلى زيادة الاتصال بين الأعراق. وعلى الرغم من الصعوبات الاقتصادية الحالية، فإن أنجولا هي واحدة من أكثر المجتمعات تكاملًا واستقرارًا في إفريقيا جنوب الصحراء.
وأثناء الحرب الباردة، كانت الطبيعة الثنائية القطبية للجغرافيا السياسية تعني وجود المزيد من التسامح مع الأنظمة الاستبدادية. وبفضل جيوشها القوية وسلطتها المركزية، تمكَّنت مثل هذه الحكومات من مواجهة التفتت السياسي والصراع بين الأعراق. ومع سقوط هذه الأنظمة وترسيخ الديمقراطية، عادت الصراعات القبلية إلى الظهور في أماكن مثل رواندا وسيراليون وليبيريا والكونغو الديمقراطية. وفي مثل هذه البلدان، لا تزال الولاءات القبلية تهيمن على الانتماء السياسي. وإن بلدانًا مثل نيجيريا وجنوب إفريقيا والكونغو الديمقراطية تُواجه تحديات خطيرة ناجمة عن العداءات العرقية والقبلية.([10])
المحور الثاني
التمييز العرقي وإعاقة التنمية في إفريقيا جنوب الصحراء
أولًا: القبلية والتنمية الشاملة
شهدت القارة الإفريقية منذ استقلالها أحداثا كثيرة، كان أبرزها النزاعات الإثنية، التي طغت على المشهد الإفريقي في الفترة التي تلت الاستقلال؛ حيث سجلت أكثر من 18 دولة إفريقية نزاعًا إثنيًّا حتى عام 2017م فقط، مما أعاق تحقيق التنمية على الرغم من الثروات الهائلة. تصدر النزاع على الموارد قائمة أسباب النزاعات، وفي ظل هذا الصراع الإثني، أصبحت عملية التنمية صعبة التحقيق، فبالرغم من كل الجهود ما زالت تتعثر في عراقيل كبيرة وتتأثر بظواهر عديدة في مقدمتها النزاعات الإثنية؛ لأن التنمية بمختلف مجالاتها تفترض مجتمع مستقر، فالإنسان لا يتَّجه إلى الاهتمام بالمشاركة السياسية وهو في بيئة لا تتوفر فيها شروط السلامة الشخصية. فلا يمكن له العمل من أجل التنمية والحاجة الإنسانية الأولى غير متوفرة، وهي الحاجة إلى البقاء على قيد الحياة.([11])
وهناك تساؤل رئيسي؛ هل يضمن الإدماج العرقي دائمًا النمو الاقتصادي؟ والإجابة هي أنه من خلال دراسة 41 دولة إفريقية، أثبت الخبيران الاقتصاديان بيير بيشر وفريدريك غاسبارت أن الإدماج العرقي له تأثير إيجابي على الناتج المحلي الإجمالي، عندما تكون المؤسسات الديمقراطية المستقرة قائمة.([12])
وهو ما تأكد عند دراسة تأثير العرقية في التعبئة السياسية وتوزيع الموارد في حالة الانتخابات الرئاسية لعام 2013م في كينيا؛ حيث خلقت سياسات الهوية حوافز للتعبئة السياسية وتوزيع الموارد بطرق لها ارتباط مباشر وغير مباشر بالتنمية الاقتصادية؛ حيث وفَّرت تلك الحالة منصة مفيدة لدراسة كيف تستمر سياسات الهوية في تشكيل الوصول إلى الموارد وتوزيعها مع ديناميكياتها المصاحبة؛ حيث تبين أن العرقية إذا لم يتم تأمينها، فقد تؤدي في النهاية إلى عدم المساواة وإضعاف نسيج التنمية الاقتصادية.([13])
ثانيًا: القبلية والتنمية المالية
بتقييم الارتباطات بين القبلية والتنمية المالية في 60 دولة باستخدام متوسطات البيانات من عام 2000 إلى عام 2010م. باستخدام مؤشر القبلية لقياس القبلية، وبقياس التنمية المالية من منظور الوساطة المالية وتطورات سوق الأوراق المالية. فقد وجدت دراسة Kodila-Tedika أن القبلية مرتبطة سلبًا بالتنمية المالية، وأن حجم السلبية أعلى بالنسبة لتطور الوساطة المالية مقارنة بتطوُّر سوق الأوراق المالية. وأن حجم السلبية للقبلية على التنمية المالية قصيرة الأجل أعلى من العلاقة المقابلة مع التنمية المالية طويلة الأجل؛ لأنه من المرجح أن يقع القطاع المصرفي في قبضة الممارسات القبلية. وتتضمَّن بعض المبررات الأخرى: (أ) إن تطوير سوق الأوراق المالية أكثر عولمةً (أو انفتاحًا) مقارنة بتطور سوق الوساطة المالية و(ب) غياب أسواق الأوراق المالية العاملة بشكل جيد في العديد من البلدان النامية. وتنطبق هذه النتائج بشكل خاص على البلدان الإفريقية؛ حيث تنتشر آفة القبلية بشكل أكثر وضوحًا.([14])
كما أن هناك مجموعة كبيرة من الأعمال التي توثق التأثيرات غير التوافقية للوصول المالي على عدم المساواة في الدخل. وعلى الرغم من هذه الأدبيات الواسعة وسيطرة التفتت العرقي في دول إفريقيا جنوب الصحراء، وبتقييم تأثير التفتت العرقي على العلاقة بين عدم المساواة في الدخل والوصول المالي. في عينة من سبعة وثلاثين دولة في إفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة 1990-2019م، لوحظ أن التفتت العرقي يعيق الوصول المالي للحد من عدم المساواة. وتظل النتائج مستقرة بعد العديد من اختبارات الحساسية المتعلقة بالفساد والتحضر ومحو الأمية المالية والعوامل الاجتماعية والجغرافية.([15])
ثالثًا: القبلية وسوق العمل
يعيش أكثر من نصف سكان إفريقيا تحت تأثير السلطات العرقية التقليدية، وترتبط الفوارق الاقتصادية المعاصرة بين المجموعات العرقية بشكل كبير بقوة هذه المؤسسات العرقية. التي لها آثار واقعية على التنمية؛ حيث يبرز التفاوت العرقي كعامل رئيسي في التخلُّف المستمر. وتعمل مؤسسات الدولة الضعيفة على تفاقم هذه المشكلة؛ حيث تكون سيطرة الدولة على المناطق الريفية ضئيلة، ويستمر الزعماء التقليديون في الهيمنة على تخصيص الأراضي وإعادة توزيعها. ونجد أن الأفراد من المجموعات العرقية المرتبطة بالأحزاب السياسية التي تضمن التمثيل البرلماني المحلي هم أكثر احتمالاً للتوظيف. وعلى وجه التحديد، فإن هؤلاء الأفراد هم أكثر احتمالاً للتوظيف بنسبة 2 إلى 3 نقاط مئوية من المجموعات العرقية التي لا تحصل أحزابها على تمثيل.
وبفحص التوظيف عبر القطاعات المختلفة، تتركز تأثيرات التوظيف المترتبة على اكتساب ممثل عرقي محلي في القطاع الزراعي، مع عدم ملاحظة أيّ تغييرات كبيرة في التصنيع أو الخدمات أو التوظيف في القطاع العام. ويتماشى هذا النمط مع الدور المزدوج الذي يلعبه الزعماء العرقيون في السياسة الإفريقية كوسطاء سياسيين يمكنهم حَشْد أبناء العرق للحصول على الدعم السياسي والتصويت، وكسلطات أساسية بشأن تخصيص الأراضي. وهذا يشير إلى أن التمثيل السياسي يؤثر على قدرة الأفراد على الانخراط في أنشطة زراعية مُوجَّهة ذاتيًّا. ومع ذلك، لا توجد أدلة على أن هذا العمل الحر المتزايد يترجم إلى زيادة ملكية الأراضي أو تلقي تعويضات عينية.
وتتفق هذه النتائج مع أنظمة حيازة الأراضي القائمة على المجتمع السائدة في إفريقيا، والتي تفتقر عادة إلى سندات ملكية الأراضي الرسمية. وفي الوقت نفسه، يوجد بعض الأدلة على أن الأفراد من العرقيات التي قد لا يُفضّلها الحزب الفائز يميلون إلى إعادة تخصيص مواردهم بعيدًا عن الزراعة نحو العمل في قطاع الخدمات. وتدعم هذه النتائج الفرضية القائلة بأن الأفراد من الجماعات العرقية المرتبطة بالحزب الفائز قد تحسَّنت قدرتهم على الوصول إلى الأراضي الزراعية، مما يُسهّل معدلاتهم الأعلى من العمل الحر في الزراعة.([16])
رابعًا: القبلية وفشل الاصلاح الاقتصادي
إن الرفاهية في المجتمعات المقسمة عرقيًّا تعتمد على الموارد المملوكة للقطاع الخاص، وكذلك على الصالح العام، أي التعاون بين المجموعات العرقية المختلفة. وقد يكون للإصلاحات الاقتصادية المصمَّمة لتحسين الكفاءة في تخصيص الموارد المملوكة للقطاع الخاص تأثير غامض على الرفاهة إذا كان لها تأثير سلبي على التعاون بين الأعراق والاستقرار السياسي. وقد يُوفِّر هذا تفسيرًا إضافيًّا لسبب فشل الإصلاحات في عدد من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء.([17])
خامسًا: القبلية والتفاوت في توزيع الدخل
كان التنوع العرقي أحد الأسباب الأساسية لعدم المساواة في الدخل، لكنّ دور المؤسسات كعامل وسيط في العلاقة بين العرق وعدم المساواة لم يحظَ بالاهتمام العلمي الذي يستحقه. وبالوقوف على تلك العلاقة بين “التنوع العرقي” وعدم المساواة في 26 دولة إفريقية جنوب الصحراء خلال الفترة 1996-2015م. وكشفت النتائج أن التأثيرات الوسيطة للإعدادات المؤسسية معيبة، مما يجعل من الصعب للغاية تعديل التأثيرات الصاخبة للتباين العرقي واللغوي والديني على عدم المساواة. فضلًا عن ذلك فإن التأثيرات السلبية التي تُفرزها التنوعات العرقية واللغوية والدينية على التفاوت تفشل في التخفيف من تأثير التفاوت في الدخل حتى عندما تتفاعل مع المؤسسات.([18])
سادسًا: القبلية وعدم المساواة في الحصول على الصحة والتعليم
أثارت الحروب التي اندلعت في تسعينيات القرن الماضي مخاوف من أن الانقسامات العرقية والانتماءات الدينية المتداخلة قد تؤدي إلى توسيع فجوة التفاوت في الصحة، وباختبار تأثير التفاوت العرقي على فرص بقاء الأطفال على قيد الحياة في 11 دولة من جنوب الصحراء منذ ثمانينيات القرن العشرين. أظهر التحليل أن الاختلافات العرقية في معدلات وفيات الأطفال ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتفاوت الاقتصادي في العديد من البلدان، وخاصة في بلدان الساحل. وتدعم النتائج وضع مفهوم العرق في طليعة النظريات والتحليلات المتعلقة بوفيات الأطفال في إفريقيا، والتي تتضمن اعتبارات اجتماعية، وليس وبائية بحتة.([19])
وفي البحث عن العوامل وراء التفاوت المتزايد في المنطقة، لاحظ الباحثون في البنك الدولي أن الموقف يمكن تفسيره بظروف موروثة خارجة عن السيطرة تشمل بشكل أساسي مستوى تعليم الوالدين، ومكان الميلاد، والعِرْق، وصناعة الوالدين والدين. عند قيامهم بالتحقيق في التفاوتات الاقتصادية في المسوحات التي أُجريت في 18 دولة على أساس متوسط الاستهلاك للفرد. وحوالي نصف مليون شخص تتراوح أعمارهم بين 15 عامًا وما فوق. وأظهرت النتائج أن المحسوبية العرقية التاريخية والمحسوبية السياسية من حيث حصول بعض المناطق أو المجتمعات على ميزة الوصول إلى التعليم العالي بشكل أفضل بكثير من نظيراتها تعمل على تغذية عدم المساواة في الفرص في العديد من البلدان في الإقليم.([20]
المحور الثالث
الاستنتاجات والسيناريوهات والتوصيات
إن التنمية تتعزز، بتوفير السلام المجتمعي وبعد أن تتحقق يترسخ الاستقرار والأمن والاستغلال الأمثل للموارد البشرية والطبيعية. وهناك العديد من الأسباب التي طُرحت لتفسير الوعكة الاقتصادية التي تعاني منها بلدان المنطقة. وقد تم التقليل من قدرة العِرْق أو تجاهله في هذا التفسير. ويختار كلّ من الساسة والأكاديميين التعامل مع عواقب العرق وليس مع السبب الجذري نفسه. وستظل التنمية مجرد حلم بعيد المنال إذا لم يتم إعطاء مشكلة العرق الاهتمام الكافي مِن قِبَل كل من يريد تنمية القارة.
ومع موجة الهوية القومية المتجدّدة في مختلف أنحاء العالم والصعوبات الأمنية والاقتصادية التي تواجهها القارة؛ فإن بلدان إفريقيا لا بد أن تعمل على تسريع تكاملها الوطني ومحاولة تعويض الانقسامات القبلية والدينية، خاصةً أن روح العصر جعلت الهويات الدينية والعرقية عوامل حاسمة للوحدة والصراع.([21])
وقد خلصت المقالة إلى أن القبلية مفهوم سلبي يعيق التقدم الذي تسعى إليه الأمم. فالقادة القبليون في الغالب يتبنون مواقف تخدم حاجتهم إلى الثروة والسلطة والشهرة، مما جعلهم يُهملون الأفراد ذوي الصفات العظيمة التي كان من شأنها أن تُسهم في نمو وتقدم البلدان، وبالتالي فإنهم يعينون أفراد قبائلهم وحلفائهم الذين هم في الغالب من الأفراد غير المؤهلين، ويحقرون العواقب السلبية التي قد تنشأ، وبالتالي يعيقون تقدم بناء الأمة([22]).
كما أن عدم القدرة على فرض سلطة الدولة إن كانت رشيدة على المناطق الطرفية والريفية يُشكّل تحديًا كبيرًا لتحسين قدرة الدولة الإفريقية على تحقيق الاندماج، ومِن ثَم التنمية. وفي الوقت نفسه، هناك اعتراف متزايد بالدور الذي يلعبه الزعماء العرقيون في تشغيل الاقتصادات المحلية في المناطق الريفية.
وكذلك تشير النتائج إلى أن السياسة المتعددة الأحزاب يمكن أن تعزز أهمية الروابط العرقية في النتائج السياسية والاقتصادية. ويشير التفاعل بين الهياكل السياسية الوطنية والعرقية إلى أنه مع ترسيخ العمليات الديمقراطية الرسمية، قد يشتد تأثير الانتماءات العرقية، مما يبلور كلاً من التمثيل السياسي والفرص الاقتصادية، وقد أظهرت الدراسات المختلفة أدلة على المحاباة العرقية في توفير الخدمات العامة مثل الطرق والمدارس والمستشفيات وملكية الأراضي.([23])
ولكن هل يمكننا إذن أن نتوقع من الدول الإفريقية متعددة الأعراق أن تتحرك بسرعة أكبر نحو “القومية”، فتصبح أكثر اتحادًا، مع اكتساب الدولة احتكارًا للولاء السياسي؟
إن مثل هذا السيناريو غير مُرجَّح في الأمد القريب، لعدة أسباب منها؛ أن تلك الاقتصادات مازالت تعتمد إلى حد كبير على العالم الخارجي، ونُخَبها غير مُوحَّدة، كما أن إدخال الديمقراطية الحزبية على النمط الأوروبي يؤدي إلى الانقسام، وفي أوروبا والأميركيتين، وُلِدَت الدولة من ممالك قوية ومؤسسات مركزية تتمتع بسلطة واضحة وتخدمها جيوش وطنية ضخمة، وهو ما لم يتحقق في الحالة الإفريقية. وغياب الوحدة الوطنية من شأنه أن يُهدِّد السلام والاستقرار والتنمية الاقتصادية.([24])
إلا أنه يمكن تقديم بعض التوصيات في هذا الشأن، وهي([25]):
- يجب أن يكون القادة الأفارقة وطنيين في التعامل مع الشؤون الإفريقية.
- يجب عليهم وضع سياسات دائمة تجبر القبلية للرضوخ للدولة.
- ينبغي للأفارقة بشكل عام أن يرسموا إستراتيجيات وتدابير مثل الاحتجاجات والحملات والمؤتمرات والندوات وورش العمل لتوعية القادة وأتباعهم بالآثار السلبية للقبلية التي أحبطت منذ فترة طويلة وتيرة بناء الدولة في إفريقيا.
- وعلى الصعيد السياسي، ينبغي استهداف الإصلاحات المؤسسية المصمَّمة خصيصًا للحوكمة الاقتصادية والسياسية والمؤسسية.([26])
- هناك حاجة إلى سياسات تأخذ في الاعتبار الدور المتطور للسياسات العرقية في المشهد التنموي؛ ونظرًا لأن تأثيرات التوظيف تظهر في المقام الأول في الزراعة، فينبغي للسياسات أن تُركّز على التوزيع العادل للأراضي والوصول إلى الموارد الزراعية، من خلال إضفاء الطابع الرسمي على أنظمة حيازة الأراضي وضمان عمليات تخصيص الأراضي الشفافة والشاملة.
- يمكن للإصلاحات الانتخابية التي تُعزّز التمثيل العادل لجميع المجموعات العرقية أن تساعد في التخفيف من التفاوتات العرقية في أسواق العمل.([27])
…………………………………………
[1]) Ndangwa Noyoo Ethnicity and development in sub-Saharan Africa Journal of Social Development in Africa, Vol. 15 No.2 July 2000.at:
https://citeseerx.ist.psu.edu/document?repid=rep1&type=pdf&doi=c447b6598063f1ba9518223b0883e25914426c5d.pp.55-56.
[2]) Editorial Team, 10 largest tribes in Africa, February 26, 2021.at:
[3]) Rodney Hoaeb, The Impact of Tribalism on Economic Development in Africa and Proposed Strategies for Social Integration, January 2022, Harvest Investment.at: https://www.researchgate.net/publication/357469786_The_Impact_of_Tribalism_on_Economic_Development_in_Africa_and_Proposed_Strategies_for_Social_Integration
[4]) bill belcher, An Introduction to Anthropology: the Biological and Cultural Evolution of Humans.at: https://pressbooks.nebraska.edu/anth110/chapter/political-systems/
[5]) Rodney Hoaeb, Op.cit.
[6]) Idem.
[7]) Okogu, J. O.and Umudjere, S. O, Foiled Factor of Africa Nation-Building. Journal of Education and Practice, Vol.7, No.7, 2016. ISSN 2222-1735 (Paper) ISSN 2222-288X (Online).at: https://files.eric.ed.gov/fulltext/EJ1095249.pdf.pp.92-94.
[8]) jaime nogueira pinto, Instability in sub-Saharan Africa: The ‘tribal’ factor, Geopolitical Intelligence Services AG, 2019.at:
https://www.gisreportsonline.com/r/africa-ethnic-divisions/
[9]) jaime nogueira pinto, Op.cit.
[10]) Idem.
[11]) عائشة بوعشيبة، أثر النزاعات الإثنية على التنمية في إفريقيا: دراسة حالة الكونغو الديمقراطية (الجزائر: جامعة باتة 1، كلية الحقوق والعلوم السياسية، رسالة دكتوراه غير منشورة، 2017-2018م).
[12]) Pierre Pecher and Uniting Economic Prosperity and Ethnic Inclusion in Africa.at: https://www.dialogueseconomiques.fr/en/article/uniting-economic-prosperity-and-ethnic-inclusion-africa
[13]) Jonyo, Fred, Ethnicity, Inequality and Economic Development in Sub-Saharan Africa: The Influence of Ethnicity in Political Mobilization and Resource Distribution: The Case of 2013 Presidential Elections in Kenya (January 30, 2024). Journal of Social and Political Sciences, Vol.7 No.1 (2024), Available at SSRN: https://ssrn.com/abstract=4710067
[14]) Kodila-Tedika, Oasis and Asongu, SimpliceTribalism and Finance, WP/20/092(f Kinshasa: Department of Economics, University of Kinshasa,2020).pp.1-15.
[15]) Valentine Soumtang Bimé and Itchoko Motande Mondjeli Mwa Ndjokou, Financial access and income inequality in Sub-Saharan Africa: Does ethnic fragmentation give new evidence?,.at:
https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0939362524000220
[16]) Francesco Amodio and etal, How ethnic politics shapes labour markets in Africa, 18.06.24.at: https://voxdev.org/topic/labour-markets/how-ethnic-politics-shapes-labour-markets-africa
[17]) Maurice Schiff, Ethnic Diversity and Economic Reform in Sub-Sahara Africa, Journal of African Economies, Volume 7, Issue 3, October 1998, Pages 348–362, at: https://academic.oup.com/jae/article-abstract/7/3/348/800089
[18]) azeem B. Ajide & Olorunfemi Y. Alimi & Simplice A. Asongu, 2019. “Ethnic Diversity and Inequality in sub-Saharan Africa: Do Institutions Reduce the Noise?” Working Papers 19/018, European Xtramile Centre of African Studies (EXCAS).
[19]) M Brockerhoff and P Hewett, Inequality of child mortality among ethnic groups in sub-Saharan Africa, Bull World Health Organ. 2000;78(1):30-41.at: https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/10686731/
[20]) Wachira Kigotho, Birthplace, parental education, ethnicity fuel inequalities.at: 02 April 2024.at: https://www.universityworldnews.com/post.php?story=20240331184345945
[21]) Ndangwa Noyoo .Op.cit.p.66.
[22]) Okogu, J. O.and Umudjere, S. O, Op.cit.
[23]) Francesco Amodio and etal.Op.cit.
[24]) jaime nogueira pinto, Op.cit.
[25]) Okogu, J. O.and Umudjere, S. O, Op.cit.
[26]) azeem B. Ajide & Olorunfemi Y. Alimi & Simplice A. Op.cit.
[27]) Francesco Amodio and etal.Op.cit.