قضت محكمة فرنسية على تيودورين أوبيانغ، نجل ونائب رئيس غينيا الاستوائية، بالسجن لمدة ثلاث سنوات مع إيقاف التنفيذ وغرامة قدرها 30 مليون يورو (34.78 مليون دولار) إثر إدانته بنهب المال العام من دولته الغنية بالنفط في غرب افريقيا, ليعيش هو بتلك الأموال حياة المرح والترف – على الرغم من أن أكثر من نصف سكان بلده يعيشون في فقر.
جاء هذا الحكم – الذي يعدّ عقابا أقل شدة من العقوبة التي اقترحها المدعون العامون – بعد تحقيق طويل أجرته السلطات الفرنسية في مزاعم بأن أوبيانغ اختلس 175 مليون دولار من بلده لشراء سيارات فاخرة وعقارات وممتلكات أخرى في فرنسا. وسيتم الآن ضبط هذه الأصول والممتلكات بما فيها القصر المكون من 101 غرفة ومبلغ 123 مليون دولار الواقع بالقرب من الشانزليزيه، والذي تقول حكومة غينيا الاستوائية إنه مبنى دبلوماسي.
وقد حاولت حكومة غينيا الاستوائية مرارا تقويض جهود التحقيق في القضية. وكانت أهم هذه المحاولات في 14 يونيو عام 2016 عندما أعلنت محكمة العدل الدولية أن غينيا الاستوائية قد رفعت دعوى ضد فرنسا أمامها تتعلق بالتهم الموجهة لـ”أوبيانغ”.
خلفية القضية
كان تيودورين أوبيانغ هو النائب الأول لرئيس غينيا الاستوائية ونجل رئيس البلاد، تيودورو أوبيانغ نغويما مباسوغو (الذي اكتسب لقب أطول فترة رئاسية في العالم لرئيس دولة حيث يحكم منذ عام 1979).
وفي الوقت الذي تم فيه رفع الدعوى ضده، كان أوبيانغ مسؤولا عن الدفاع والأمن، قبل أن يتم ترقيته إلى منصبه الحالي في 22 يونيو 2016م.
ولم يكن الأب الرئيس والابن نائب الرئيس غريبين عن اتهامات الفساد, إذ أقيمت ضدهما قضايا مختلفة بشكل متكرر.
ففي عام 2014، تنازل أوبيانغ الابن عن جزء من ممتلكاته في الولايات المتحدة في تسوية مع عدة أشخاص، وتشمل قضية مصادرة الأصول التي رفعتها وزارة العدل الأمريكية ضده مجموعته من تذكارات وعقارات “مايكل جاكسون”. وتفيد التقارير أيضا بأنه أقيم ضده تحقيق جنائي في إسبانيا, إضافة إلى قضية عن حقوق الإنسان والفساد ضد غينيا الاستوائية في اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب.
أما التحقيق الفرنسي ضد أوبيانغ, فقد نشأ من شكوى جنائية قدمتها “الشفافية الدولية فرنسا” و “شيربا SHERPHA “، وهما منظمتان غير حكوميتين لمكافحة الفساد.
وتتركز دعاوى المنظمتين في كون نائب رئيس غينيا الاستوائية سرق خزانات بلاده واستثمر العائدات في فرنسا.
وقد بدأت السلطات الفرنسية تحقيقا بعد حكم لمحكمة النقض عام 2010 والذي أكد على أحقية المنظمتين غير الحكوميتين بتقديم الشكاوى الجنائية.
وفي 13 يوليو عام 2012، أصدرت فرنسا أمرا دوليا بالقبض على أوبيانغ.
لكن أوبيانغ في خطوة أخرى وبالتحديد في عام 2011 – أي بعد حكم محكمة النقض عام 2010 الذي مهد الطريق لملاحقته – باع قصره الباريسي لحكومة غينيا الاستوائية. ثم أكدت غينيا الاستوائية أن الممتلكات التي اشترتها من أوبيانغ صارت منذ ذلك اليوم فصاعدا جزءا من مباني سفارتها في فرنسا. غير أن الخطوة لم تعرقل المناورة ولم تعجب قاضي التحقيق الفرنسي، مما أدى إلى أن يصدر قرارا بالاستيلاء على المبنى (القصر) في عام 2012.
وبالنسبة لدعوى غينيا الاستوائية التي أقامتها ضد فرنسا (في عام 2016) تضمنت النقاط التالية:
1-تشكل الإجراءات الجنائية الفرنسية تدخلا غير قانوني في شؤونها الداخلية لأن المخالفات المزعومة تندرج ضمن الاختصاص القضائي الخاص بغينيا الاستوائية.
2- ويحق لـ”أوبيانغ” التمتع بالحصانة من الاختصاص الجنائي الفرنسي.
3- الاستيلاء على المبنى بعد بيعها لحكومة غينيا الاستوائية وصيرورتها ضمن سفاراتها ينتهك اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961.
وفي حكم مؤقت صدر في ديسمبر 2016، أمرت محكمة الأمم المتحدة دولة فرنسا بإعطاء الممتلكات نفس الحماية التي توفرها لجميع المواقع الدبلوماسية الأخرى. مما يعني أن السلطات الفرنسية ليست باستطاعتها مصادرتها للمزاد العلني إلا بعد أن تقرر المحكمة في لاهاي المسألة.
لمن الممتلكات بعد استردادها؟
تعد هذه القضية الأولى من نوعها فيما يتعلق بقضيةٍ رفعتها منظمة الشفافية الدولية و شيربا ضد قادة الكونغو برازافيل وغابون وغينيا الاستوائية مع اتهامهم بالفساد وإساءة استخدام الثقة واختلاس كل منهم خزانات البلدان لمصلحتهم الخاصة.
وقد أشاد المحامي ويليام بوردون من منظمة “شيربا” بقرار المحكمة الفرنسية، قائلا لشبكة “فرنسا إلى إفريقيا” التابعة لصوت أمريكا: “إن ما يهم هو أن المحكمة اتخذت قرارا قويا للغاية، ووجهت رسالة، أولا رسالة إلى كل المستبدين وكبار الشخصيات الذين يستخدمون قوتهم لإثراء أنفسهم من جهة ويُفقّرون سكان البلدان من جهة أخرى، ورسالة إلى النظام المصرفي أيضا”.
وفيما يتعلق بالأصول المضبوطة، رفض بوردون أي اقتراح بإعادته إلى غينيا الاستوائية، قائلا: “أشارت المحكمة إلى أن القوانين الدولية والفرنسية لا تسمح كما هي عليه بإعادة الممتلكات إلى بلد مثل غينيا الاستوائية، لأن ذلك من شأنه أن يكافئ المجرمين. ولن نعيد لأسرة أوبيانغ ما اتهموا باختلاسه. لذلك علينا أن نخترع آليات لا وجود لها حاليا، لإعادة الأصول إلى الشعب.”
وأشارت بعض أفراد السلطات في غينيا الاستوائية إلى أنهم سعداء بنتيجة الحكم القضائي في باريس. وقال وزير الخارجية اجابيتو امبا موكوى “إن العدالة قامت بعملها. ولم تكن في السابق إدانة على هذا النحو. أنا سعيد. وسيساعد كثيرا في تحسين العلاقة بين غينيا الاستوائية وفرنسا. لقد كانت فرنسا دائما شريكا متميزا وهاما في غينيا الاستوائية. وبطبيعة الحال، كان هذا سؤالا مؤلما، ووفقا لقرار المحكمة والمعلومات التي لدينا الآن، لم يتم إدانة نائب الرئيس”.
وفيما يتعلق بالقصر ذي 101 غرفة, أشار وزير الخارجية موكوى إلى أن محكمة العدل الدولية قد حلت القضية. “لقد حكمت محكمة العدل الدولية بالفعل على هذه النقطة بقولها إنها مقر دبلوماسيتنا، إنها سفارة غينيا الاستوائية، وهذه السفارة تتمتع بامتيازات، شأنها في ذلك شأن جميع السفارات، استنادا إلى اتفاقية فيينا. لذلك حتى لو كان هناك قرار اليوم، فإنه سيتم تسويتها بسرعة.”
“حكم فاشل” و “إظهار القوة”
وعلى الرغم من الموافقة النسبية للحكم من قبل وزير خارجية غينيا الاستوائية, فإن الحزب الحاكم في البلاد يصف الحكم الصادر عن المحكمة الفرنسية بـ”الفشل” بالنسبة للمنظمتين غير الحكوميتين اللتين رفعتا الدعوى ضدّ أوبيانغ.
إن “الحكم فشل حقيقي للمنظمتين غير الحكوميتين والمعارضة المزيفة التي كانت نيتها الوحيدة زعزعة استقرار مؤسسات غينيا الاستوائية,” يقول الحزب الحاكم, الحزب الديمقراطي لغينيا الاستوائية في بيان على التلفزيون الوطني.
وقال محامى أوبيانغ, سيرجيو ايسونو ابيسو تومو, إن القضية كانت ذات دوافع سياسية و “سوء استخدام للسلطة” من جانب فرنسا التي “لا تزال تريد أن تظهر أنها قوة [عالمية]”.
خيبة أمل ودعوة لتغيير القانون الفرنسي
من جانبه, أبدى النائب المعارض بلاسيدو ميكو سعادته بحكم الإدانة ولكنه في الوقت نفسه قدّم شعوره بخيبة أمل من الحكم.
“إنني فزع من مستوى وكمية الفساد في غينيا الاستوائية والإفلات من العقاب,” يعلق ميكو مضيفا: “أرى ذلك كل يوم ولكنني أدرك أن القاضي قد لا يكون لديه نفس الأدلة التي توجد عندي. إذا كان القاضي لديه معرفة مباشرة كالتي لدينا نحن مواطني هذا البلد، فقد يكون الحكم أكثر قسوة”.
وأوضح ميكو أن القاضي ربما يفكر في “العلاقات الدبلوماسية” القائمة بين فرنسا ومالابو مما جعله يقضي لصالح الحكم بالسجن مع إيقاف التنفيذ.
وقد دعت منظمة الشفافية الدولية التي أقامت القضية مع شيربا، إلى استخدام الممتلكات والأصول المضبوطة لصالح شعب غينيا الاستوائية وعدم تحويلها إلى خزائن الدولة الفرنسية.
ومن المقرر أن يقترح رئيس المنظمة مارك اندريه فيفر تغييرات على القانون الفرنسي لجعل ذلك ممكنا خلال اجتماع يعقد في الجمعية الوطنية الشهر المقبل.
واستنادا إلى القانون الذي اعتمدته سويسرا في عام 2015، يقترح أن توضع الأموال المضبوطة في حساب خاص يمول مشاريع خاصة في البلد بالتنسيق مع المنظمات غير الحكومية الفرنسية والغينية.
وفي حين يرى بعض المحللين الأفارقة أن هذا الحكم نجاح نسبي, إلا أنه أيضا قد يؤدي إلى تأزم العلاقات الدبلوماسية بين غينيا الاستوائية وفرنسا, إضافة إلى أن إقامة الحكم في فرنسا إشارة واضحة إلى عدم وجود أو ضعف المؤسسات القضائية الأفريقية.
أما الأموال والممتلكات المضبوطة, فقد يعود أمرها في النهاية كتلك الأموال والأصول الأفريقية العالقة في البنوك الأوروبية والأجنبية والتي لا تزال تلك الدول تبدي عدم الاستعداد لإعادتها.