أثنى الكثيرون على قرار المحكمة العليا الكينية في الأول من سبتمبر الماضي بإلغاء الانتخابات الرئاسية وعقد انتخابات جديدة في غضون 60 يوما بسبب مخالفات واسعة النطاق, معتبرين ذلك وقتذاك أولوية هامة “للديمقراطية الأفريقية” وسيادة القانون.
ولكن الانتخابات الجديدة بعد عقدها أثبتت العكس, ناهيك من تزايد خطورة الأوضاع منذ ذلك القرار إلى اليوم.
وعلى الرغم من أن حكم المحكمة، الذي صدر بموجب قوانين دستورية جديدة واضح وصريح, إلا أنه أدخل العملية في مواجهة مريرة؛ ما بين استقالة مسؤولين من اللجنة الانتخابية قبيل إجراء الانتخابات بدعوى أن اللجنة لا تسطيع القيام بإجراء انتخابات نزيهة في تلك الفترة المحددة, وبين اشتداد الصدام بين المرشحَين الرئيسيين الذين ينحدران من السلالات السياسية المتنافسة والمتجذرة في مختلف الجماعات الإثنية في البلاد.
وفي خطوة استباقية بعد قرار المحكمة, تقدم زعيم المعارضة رايلا أودينغا بإعلان أنه لن يشارك في عملية الانتخابات الجديدة إلا بعد توافر الشروط والإصلاحات في لجنة الانتخابات الوطنية التي حددها. لكن اللجنة واصلت إجراء الانتخابات وفاز فيها للمرة الثانية الرئيس منتهي الولاية أوهورو كينياتا بفترة ولاية ثانية كرئيس كينيا رغم المقاطعة من خصمه الرئيسي.
وحصل كينياتا على أكثر من 98 في المائة من الأصوات – وفقا لما ذكرته اللجنة الانتخابية الكينية، حتى وإن كانت نسبة الإقبال ضئيلة ولم يكن هناك تصويت في اثنتي عشرة دائرة انتخابية بسبب احتجاجات مؤيدي أودينغا زعيم تحالف (ناسا) المعارض.
وفي إطار تحديها للتطورات الجديدة ووردا على إعلان فوز خصمها للمرة الثانية, رفعت المعارضة من مستوى حملتها للضغط على الحكومة ولإجبارها على تنظيم انتخابات أخرى, حيث أصدرت بيانا يشمل الشركات الثلاث الأولى التي تطالب من أنصارها أن يقاطعوها. ومن ضمن هذه الشركات المستهدفة ما هي مملوكة لأسرة كينياتا.
ونتيجة لرفض رايلا أودينغا زعيم المعارضة، لقبول إعادة انتخاب الرئيس كينياتا، فقد شهد اقتصاد كينيا المهيمن في شرق أفريقيا, أسوأ أزمة في عقد من الزمن. ومن المتوقع أن يساهم إطلاق “حركة المقاومة الوطنية” – التي أعلنها أودينغا في 31 أكتوبر – في إطالة هذه الأزمة.
نموّ منخفض
توقع البنك الدولي في أبريل من العام الجاري أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي في كينيا ليصل إلى 5.5٪، وهو ما يمثل انخفاضا بنسبة 0.5٪ عن توقعات عام 2016.
“تمشيا مع أدائها القوي في السنوات الأخيرة، ومرة أخرى كان النمو الاقتصادي في كينيا قويا في عام 2016، ويصل إلى ما يقدر بـ 5.9٪ – أعلى مستوى في خمس سنوات. ويدعم ذلك وجود بيئة مستقرة للاقتصاد الكلي، وانخفاض أسعار النفط، والحصاد المواتي المبكر، وانتعاش السياحة، وتدفقات التحويلات المالية القوية، وطموح الاستثمار العام,” قالت دياريتو غاي، المديرة الدولية للبنك الدولي في كينيا.
وتابعت مسؤولة البنك الدولي قائلة: “مع ذلك، تواجه كينيا حاليا الرياح المعاكسة التي من المرجح أن تضعف نمو الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017م”.
وحذر وزير الخزانة الكيني هنري روتيتش في شهر سبتمبر الماضي من أن فترة الانتخابات المطولة والجفاف يضران بالإنتاج والإنفاق والإيرادات الضريبية، مشيرا إلى أن توقعات النمو الاقتصادي لهذا العام – نسبة 5.5 في المائة- قد يتعين تعديلها نحو الانخفاض.
ويتضح عدم يقين المستثمرين والتخوف في الأسواق المالية بكينيا, من انخفاض مؤشر نيروبى للأوراق المالية لجميع الأسهم – حيث يعتبر الأعلى انخفاضا في القارة الافريقية، وثاني أسوأ أداء في العالم منذ إعلان بطلان نتائج الانتخابات في 1 سبتمبر، وفقا للبيانات التي جمعتها بلومبرج. وانخفضت أيضا السندات الدولية الحكومية المستحقة في عام 2024 منذ ذلك الحين، حيث العائدات ترتفع بمقدار 41 نقطة أساسية لتصل إلى 6.43 في المئة.
وفي حين كان بإمكان الشركات الاستعداد لانعدام اليقين على المدى القصير الذي أوجدته الانتخابات، إلا أنها لا تستطيع أن تفعل الكثير حيال الاضطرابات والعنف طويل الأمد. وهذا يعني أنه يتعين اقتطاع العمليات الانتخابية المستقبلية فى كينيا من أجل حماية تضرر الاقتصاد والأعمال بالاضطرابات المتكررة.
“التحرر الاقتصادي”
أطلق المشرعون المتحالفون مع حزب (ناسا) المعارض برنامج “التحرر الاقتصادي” يوم الجمعة لدعوة الكينيين إلى العكوف عن استخدام بضائع وخدمات كل من شركة “سفاريكوم” – وهى شركة الاتصالات المتنقلة المهيمنة في البلاد؛ بروكسيد، أكبر شركة لمنتجات الألبان؛ وبيدكو أفريكا، الشركة المصنعة للزيوت الصالحة للأكل وغيرها من المنتجات الاستهلاكية.
وحثّ المشرعون مؤيديهم على مقاطعة المنتجات التي تصنعها شركات لها علاقات وثيقة بحزب اليوبيل الحاكم. وأكدوا في مؤتمر صحفي بالعاصمة نيروبي إن مقاطعة المنتجات والخدمات من تلك الشركات تهدف إلى إعادة تنشيط الإصلاحات الانتخابية والإدارية في كينيا.
“إننا نطلق اليوم برنامج التحرير الاقتصادي من خلال المقاطعة المستهدفة للشركات والمؤسسات المستفيدة من النظام الحالي وأنصاره,” قال المشرعون في بيان مشترك.
وأضاف البيان أن “لدينا قائمة طويلة وشاملة للشركات المحلية والعالمية والتي سنقوم بإعلانها على فترات”.
ويعتزم (ناسا) أيضا عقد “تجمع الشعب” وتنظيم الاحتجاجات كجزء من حملته لإجراء انتخابات جديدة بحلول نهاية يناير.
خسائر تتكبدها الشركات
بالنظر إلى الاضطرابات والأزمة السياسية القائمة, فقد يكون لجوء المعارضة إلى دعوة مناصريها لمقاطعة الشركات الناشطة في كينيا الأكثر خطورة من بين خططها المعلن عنها. بل أكد رئيس جمعية الأعمال الكينية أن أعضاء الجمعية مرهقون وأن الشركات تعرضت لخسائر كبيرة.
وقال نديريتو موانجى رئيس مجموعة هود يوم الثلاثاء الماضي, إن الوقت قد حان لإعادة المركز الاقتصادي لشرق إفريقيا إلى طبيعته بعد فوز أوهورو كينياتا. وإنه يتعين على الشرطة والقضاء معالجة “قضية الإفلات من العقاب”, وإنه يطالب بأن تتمكن الشركات من العمل دون إضرارها بالاحتجاجات العنيفة التي أدى بعضها إلى نهب الممتلكات وتدميرها.
أما سفاريكوم المحدودة – إحدى الشركات التي تدعو المعارضة إلى مقاطعتها, فهي ترى أن عدم اليقين السياسي الذى اجتاح فترة الانتخابات الرئاسية في كينيا قد أثر في أدائها مع أنها أكبر شركة في منطقة شرق إفريقيا, وذلك بعد أن أعلنت تباطؤا في نمو أرباحها في النصف الأول ونمو الخدمات المصرفية المتنقلة.
وارتفعت مبيعات شركة (M-Pesa) – وهي شركة تحويل الأموال سريعة النمو والتي تتخذ من نيروبي مقرا لها – بنسبة 16 في المئة لتصل إلى 30.1 مليار شلن (291 مليون دولار) في الأشهر الستة إلى شهر سبتمبر, مقارنة مع نسبة 34 % العام الماضي, حيث تضاءلت التحويلات المالية بين الأفراد خلال الانتخابات.
وسجلت شركة سفاريكوم – وتملك مجموعة فوداكوم في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا نسبة 35٪ منها – زيادة 9.5٪ في صافي الدخل في النصف الأول لتصل إلى 26.2 مليار شلن، وهي انخفاض عن 32٪ في العام السابق. ومع ذلك، ارتفعت أسهمها بنسبة 2٪ لتصل الى 25.75 شلن عند الإغلاق في نيروبي يوم الجمعة، حيث تقدر الشركة بـ 1 تريليون شلن.
وقد نفت سفاريكوم في سبتمبر ادعاءات “التحالف الكيني المعارض الذي دعا أنصاره إلى مقاطعة الشركة لإخفاقها في نقل جميع نتائج التصويت إلى السلطة الانتخابية.
ورغم تأثر اقتصاد كينيا بشدة بالأزمة, وتباطؤ النمو، وانخفاض مؤشر مديري إلى أدنى مستواه على الإطلاق نظرا لتأجيل المستثمرين والشركات قراراتهم المتعلقة بالاستثمار, فإن المعارضة لا تبالي بما تشير إليه الأرقام الاقتصادية المتدهورة والتي تمس حياة الكينيين, اللهم إلا باستجابة الحكومة على مطالبها. أو كما قال جيمس وانداي أحد أعضاء مجلس “ناسا” الذي كشف النقاب عن المقاطعة الاقتصادية: “لا يوجد ثمن غال يمكنه دفعه (للحصول على) الديموقراطية”.