في الوقت الذي تحاول قارة إفريقيا الحدّ من انتشار فيروس كورونا المستجد؛ تواجه ثلاث دول في منطقة غرب إفريقيا أزمةً سياسيةً؛ ففي كلٍّ من غينيا وساحل العاج يواصل الرئيسان “ألفا كوندي” و”الحسن واتارا” مساعيهما للبقاء على رأس السلطة؛ بتغيير الدستور، والترشح لفترة ولاية ثالثة؛ ممَّا أدَّى إلى تزايد الاحتجاجات ضد قرارهما. وفي مالي حدثت العملية الانقلابية الثانية في أقل من 10 سنوات؛ حيث أجبرت عناصر من القوات المسلحة رئيس البلاد “إبراهيم بوبكر كيتا” على تقديم استقالته.
وإذ تعني أزمة مالي أنّ الرئيس “إبراهيم بوبكر كيتا” قد أخفق في تحقيق حلمه الذي جهر به بعد شهر من توليه رئاسة البلاد في عام 2013م؛ عندما أعلن عن نهاية أيام تمرُّد الجنود الذين يقوِّضُون سلطة الحكومة والحكم المدني في العاصمة باماكو؛ فإنَّ دولة أخرى تواصل تأكيد مكانتها كإحدى الديمقراطيات الطويلة والمستقرة في المنطقة؛ ففي يوم 7 من ديسمبر القادم (2020م)، سينتخب الغَانيُّون رئيس البلاد وأعضاء الجمعية الوطنية؛ فـ”نانا أكوفو أدو” -رئيس الدولة الحالي وزعيم “الحزب الوطني الجديد” (New Patriotic Party) الحاكم- يسعى إلى إعادة انتخابه لفترة رئاسية ثانية وأخيرة، وهو ما يعني أنه سيواجه الدكتور “جون دراماني ماهاما”؛ الرئيس السابق الذي ضمن ترشيح حزبه “المؤتمر الوطني الديمقراطي” (National Democratic Congress) في فبراير 2019م لخوض هذه الانتخابات.
ترسيخ الحكم المدني في غانا:
تؤكد انتخابات غانا القادمة أن البلاد تستحق ثناءات الذين يعتبرونها واحدة من النماذج الديمقراطية في إفريقيا؛ حيث كانت البلاد في طريقها لترسيخ فترات الحكم المدني والاستقرار السياسي؛ فانتخابات ديسمبر القادمة 2020م ستكون سابع انتخابات عامة في غانا منذ العودة الكاملة إلى الحكم المدني في عام 1996م، وثامن انتخابات على التوالي منذ استئناف الديمقراطية وتعدُّد الأحزاب في عام 1992م.
ولعلَّ ما ساعد البلاد أن دستورها الحالي مبنيٌّ على تجاربها من الانتقلابات وفترات الحكم العسكري التي شهدتها البلاد؛ ففي عام 1966م انتهت الفترة المدنية الأولى (أو الجمهورية الأولى) بعد الاستقلال عندما قاد “جوزيف أنكرا” انقلابًا عسكريًّا على “كوامي نكروما” وحزبه الحاكم. وقد عاد الحكم المدني بعد انتخابات 1969م؛ حيث ترأس رئيس الوزراء “كوفي أبريفا بوسيا”، والرئيس الاحتفالي “إدوارد أكوفو أدو” حكومة البلاد، ليقوِّض انقلابًا آخر قاده “إغناتيوس كوتو” في عام 1972م الحكم المدني في البلاد.
وقد فاز “هيلا ليمان” برئاسة البلاد في انتخابات 1979م بعد دستورٍ جديدٍ، ولكنَّه حكم لمدة عامين فقط؛ حيث أُطِيحَ من الحكم عبر انقلاب “جيري رولينغز” في ديسمبر 1981م. وما زال الغَانيُّون إلى اليوم يثنون على فترة حكم “رولينغز” العسكري الذي امتدَّ إلى أكثر من عقد؛ رغم صرامته وتقييده لبعض الأنشطة السياسية.
وقد عادت سياسة التعددية الحزبية في غانا بعد وضع دستور جديد أيَّده الغَانيُّون في استفتاء عام 1992م بنسبة 92.59٪ من الأصوات، وأسَّس “رولينغز” حزبًا جديدًا باسم “مؤتمر الحوار الوطني” (National Democratic Congress)، وخاض من خلاله كلاً من: انتخابات عام 1992م التي قاطعتها جميع أحزاب المعارضة الرئيسية، وفاز فيها كرئيس مدني، وكان بداية الفترة المدنية الحالية والجمهورية الرابعة؛ ثم انتخابات عام 1996م بمشاركة الأحزاب المعارضة، وقد أُعِيد انتخابه فيها لفترة رئاسية ثانية وأخيرة.
وعليه، فإن انتخابات 1992م هي آخر الانتخابات، وأكثرها إثارة للجدل في غانا؛ بسبب شكاوى الأحزاب المعارضة الرئيسية. وقد نجحت البلاد بعد ذلك (في أعوام 2000 و2004 و2008 و2012 و2016) في إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية سلمية وحُرَّة ونزيهة دون مخاوف أمنية وفقًا للترتيبات الدستورية.
رئاسيات 2020 بين “أكوفو-أدو” و”ماهاما”:
مما يجعل انتخابات ديسمبر 2020م اختبارًا حقيقيًّا للتنافسيَّة السياسية في غانا منذ عام 1992م، إلى جانب انتخابات عام 2000م؛ أن الأوضاع السياسية ومطالب الناخبين قد انتقلت من المطالبة بتغيير نظام الحكم وطبيعة القيادة إلى تقييم الأداء بين فترات حكم الحزبين السياسيين الرئيسيين اللذين يحكمان غانا منذ عام 1992م. كما أن هذه الانتخابات ستكون المرة الثالثة التي يواجه فيها الغريمان “نانا أكوفو أدو” و”جون ماهاما” بعضهما البعض؛ حيث فاز “ماهاما” عندما كان نائب الرئيس في انتخابات عام 2012م على “أكوفو أدو”؛ ليردَّ الأخير الهزيمة على الأول في عام 2016م بسبب استياء الناخبين من حكومة “ماهاما” التي عانت من التباطؤ الاقتصادي الناجم عن الانخفاض العالمي في أسعار السلع التصديرية الرئيسية واستشراء الفساد.
ويمكن إيجاز بعض العوامل التي ستؤثر في الانتخابات العامة القادمة؛ بالنظر إلى تطورات المشهد السياسي في غانا ووجهات نظر الغانيين في إدارة الرئيس الحالي “أكوفو أدو”، فيما يلي:
1- ديموغرافية الناخبين المسجلين الجدد:
في يونيو الماضي حسمت المحكمة العليا في غانا النزاع الطويل بين الائتلاف الذي يقوده حزب “المؤتمر الوطني الديمقراطي” (NDC) المعارض وبين حزب “الحزب الوطني الجديد” (NPP) الحاكم حول إعداد وتجميع سجلّ جديد للناخبين؛ حيث أجازت المحكمة خطة مفوضية الانتخابات بتجميع السجل الجديد. وفي يوم 6 أغسطس (2020م) أعلنت المفوضية أنها قد سجَّلت أكثر من 15 مليون غانيّ للتصويت في الانتخابات القادمة.
وقد كان موقف المعارضين لتجميع السجلّ الجديد أن توقيتها غير مناسب وتكلفتها هائلة. وأشاروا إلى أن السجل القديم هو السجل نفسه الذي استُخْدِمَ في انتخابات عام 2016م والتي فاز فيها الرئيس الحالي “أكوفو أدو” بفارق كبير، كما أن هيئة الهوية الوطنية تجمّع أيضًا قاعدة جديدة لبيانات المواطنين (والمقيمين)، وستحلّ هذه القاعدة محل سجل الناخبين في المستقبل.
وفي المقابل، جادل “الحزب الوطني الجديد” الحاكم ومؤيدو خطة مفوضية الانتخابات بأن تعديل السجلّ القديم وتحسينه لن يجدي نفعًا؛ فسجل الناخبين الجديد مطلوب؛ لأن السجل القديم (والذي تم تجميعه في 2012م) غير آمنٍ، وإنفاق مبالغ معيَّنة على تجميع سجل جديد أولى من إنفاقها على مجرد تحسين سجل خالٍ من المميزات الحديثة.
2- المقارنة بين إنجازات “ماهاما” و “أكوفو أدو”:
كان الزعيم “كوامي نكروما” بالنسبة للغانيين معيارًا ذهبيًّا لأيّ رئيس آخر، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالإنجازات والمشاريع الضخمة. وقد فطن “جون ماهاما” إلى هذه الحقيقة عندما دعا الرئيس الحالي “نانا أكوفو-أدو” في يوم 19 أغسطس الجاري إلى مناظرة علنيَّة حول مشاريع الإدارة الحالية في البنى التحتية.
وتتابين الآراء حول إنجازات حكومة الرئيس الحالي “أكوفو-أدو”؛ فهناك مَن يرى أنه تعهَّد في حملته عام 2016م بسياسات شعبوية وبرامج لم يتمكن من تنفيذها؛ حيث قدمت حكومته 510 وعودًا للغانيين. وهناك من حدَّد نسبة أدائه (من 2017م – 2019م) في 48.74 في المئة – وهي نسبة أكبر من أداء حكومة غريمه “جون ماهاما” التي قُدِّرَت بـ47 في المئة في السنة الثالثة من حكومته آنذاك.
وفي حين لم تحظَ بعض القطاعات باهتمامٍ كافٍ من حكومة “أكوفو-أدو” الحالية – كقطاعي الزراعة والصحة؛ فإن “جون ماهاما” سيحتاج إلى تبرير فشله في برامجه الخاصة قبل عام 2016م، خاصةً وأن الحكومة الحالية أيضًا تستثمر بقوة في برامج المدارس الثانوية المجانية للجميع وعدة مشاريع أخرى قَيْد التنفيذ لتوسيع دائرة البنية التحتية، وهو ما سيؤثر في آراء الناخبين.
3- الاقتصاد والبطالة:
بالرغم من الإنجازات التي تعلنها حكومة الرئيس “نانا أكوفو-أدو”، لا تزال حالة الاقتصاد من المواضيع الرئيسية التي يشكو منها الغَانيُّون، ومن المرجَّح أن تقرَر أيضًا نتيجة الانتخابات نظرًا للأوضاع المعيشية الحالية بسبب أزمة فيروس كورونا.
وقد أشار المسح الذي أجرته مؤسسة Afrobarometer في ديسمبر 2019م إلى أن الغانيين يعتبرون البطالة وإدارة الاقتصاد من المخاوف الخمسة الرئيسية التي تُواجه البلاد؛ فـ30 في المئة فقط من المستجيبين في المسح اعتقدوا أن الظروف الاقتصادية كانت جيّدة إلى حدّ ما أو جيدة جدًّا، و66 في المئة رأوا أن الحكومة الحالية تقوم بعمل سيئ في سدّ فجوات الدخل وتحسين العدالة الاجتماعية، و54 في المئة رأوا أن الحكومة لم تخلق وظائف كافية، بينما رأى 59 في المئة أن البلاد تسير في الاتجاه الخاطئ.
على أنّ الرئيس “أكوفو-أدو” يرى أن السبب وراء نتائج تلك الدراسة -سابقة الذكر- أن البلاد لا تزال متأثرة بتداعيات أخطاء سلفه “جون ماهاما”. كما أن مسؤولي الحكومة أيّدوا موقفهم مرارًا بالإشارة إلى المؤشرات الاقتصادية الإيجابية؛ كانخفاض التضخم، وارتفاع الناتج المحلي الإجمالي، وانخفاض العجز الحكومي.
ومع ذلك؛ فإنَّ تلك المؤشرات الاقتصادية الإيجابية لا تؤثر في أرض الواقع على حياة المواطنين. وقد بدأت المعارضة في حملاتها الانتخابية تستفيد من حالة عدم الرضا عن الظروف المعيشية، وارتفاع معدل البطالة بين الشباب، واتّساع فجوة الدخل.
4- الفساد ومحاسبة المسؤولين على النفقات:
من المتوقع أن تُؤثّر قضية الفساد في الانتخابات العامة القادمة؛ نظرًا للدور الذي لعبته في انتخابات عام 2016م؛ فبعد فوز “أكوفو أدو” وتولّيه السلطة، عيَّن مدعيًا عامًّا خاصًّا لمتابعة قضايا الفساد وأنشأ مكتبًا لمكافحة الكسب غير المشروع، وهي خطوة رحَّب به الغَانيُّون.
على أن بعض مسؤولي حكومة “أكوفو-أفو” أيضًا متَّهَمُون بالفساد والتبذير؛ حيث أظهرت منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي أعضاء الحكومة وهم يقودون سيارات فاخرة وعلى متن يَخْتٍ في جنوب فرنسا، بينما يعاني المواطنون من اقتصاد فاترٍ.
إضافة إلى أن نتائج مسح Afrobarometer أظهرت أيضًا أن 53 في المئة من الغانيين شعروا أن الفساد قد ازداد في عام 2018م. بينما اعتقد 40 في المئة من المشاركين أن الحكومة تقوم بعملٍ جيدٍ أو جيّد جدًّا في مكافحة الفساد.
وفي حين يرى البعض صعوبة فوز حزب المعارضة الرئيسي في الانتخابات القادمة؛ نظرًا إلى افتقار مرشحه “ماهاما” إلى موارد هائلة لتحفيز قاعدته؛ فإنَّ الخبرات السياسية التي يتمتَّع بها الحزب وشعبيته على المستوى المحلي أكبر بكثير مما يتمتع به حزب “أكوفو-أدو” الحاكم.