عندما وصلتْ مفاوضات سدّ النهضة إلى طريقٍ مسدودٍ بعد انسحاب إثيوبيا من مفاوضات واشنطن في فبراير الماضي؛ اقترحت مجموعة الأزمات الدولية في مارس اتفاقًا جزئيًّا حول قواعد الملء الأوّل للخزان، ثم يتم بعد ذلك التفاوض على القضايا المتبقية، مثل: معالجة الجفاف وآلية فضّ المنازعات المستقبلية.
وبالفعل اقترح رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، في 10 أبريل الماضي، اتفاقًا مؤقتًا لتغطية قواعد ملء خزان سدّ النهضة خلال مرحلة اختبار التوربينات على مدى عامين.
ولعل التبرير المطروح -والذي دعمته مجموعة الأزمات الدولية- يشير إلى أن مثل هذا الاتفاق يمكن أن يكون وسيلة للحدّ من التوترات، وبناء الثقة أثناء التفاوض بشأن الاتفاق الشامل.
بَيْد أنَّ هذا الاقتراح قُوبِلَ بالرفض القاطع مِن قِبَل السودان ومصر، بحسبان أنه نهج جزئيّ يسمح لإثيوبيا بتجنُّب الالتزام باتفاق شامل بشأن سد النهضة، وهو ما يضرّ بمصالحهما المائية على المدى الطويل. وبعد شكوى كل من مصر والسودان لمجلس الأمن الدولي حول سد النهضة الإثيوبي؛ باعتبار أنه قد يهدِّد السِّلم والأمن في الإقليم؛ نظرًا لتعنُّت ومراوغة الحكومة الإثيوبية؛ تم الاتفاق على إحالة الملف إلى الاتحاد الإفريقي. وبعد عقد قمتين مصغَّرتين لهيئة مكتب الاتحاد الإفريقي، والاتفاق على استئناف المفاوضات من أجل التوصل لاتفاق شامل؛ كان رد الفعل الإثيوبي هو القفز إلى الوراء والعودة إلى نقطة الصفر.
اقترحت إثيوبيا مرة أخرى -بعد اتخاذها قرارًا أحاديًّا بإتمام ملء المرحلة الأولى للسد- تبنّي نهج التفاوض الجزئي التدريجي. وتحاول هذه المقالة التعرُّف على خصائص نهج التسوية الجزئي في العلاقات الدولية، ومضار تطبيقه على حالة المفاوضات الثلاثية بين دول حوض النيل الشرقي بشأن سد النهضة.
نَهْج التفاوض الجزئي التدريجي:
لا شك أن الأخطار التي تهدِّد الأمن والسِّلم الدولي جرّاء النزاعات الإقليمية تُمثّل أحد الموضوعات الكبرى في أدبيات العلاقات الدولية. فقد تتطوَّر هذه النزاعات بشكلٍ عنيف لتصل إلى حالة الحرب. ولعل ذلك يتضح من الحديث المتكرر عن حروب المياه القادمة في منطقة حوض النيل، ولا سيما بعد وصول المسار التفاوضي إلى طريق مسدود.
وإذا افترضنا عدم وجود نزاع عسكريّ نَشِط؛ فإن النزاعات الإقليمية -مع ذلك- تؤثر سلبًا على الدول المعنية؛ من خلال إضعاف التبادل الاقتصادي وغيره من أشكال التعاون الجماعي. وعليه يُصبح من المفيد دراسة كيف ومتى يمكن تسوية هذه النزاعات. وهنا تبرز بعض المحدِّدات التي لا غِنَى عن دراستها؛ مثل: أهمية القضية، وتاريخ الصراع، وطبيعة نظام الحكم في الدول المتنازعة، والسياق القانوني الوطني والدولي. كما يتم التركيز بشكل خاصّ على دور الطرف الثالث في تسهيل الوصول إلى اتفاقات للتسوية السلمية.
ومع ذلك، فإنّ الدور المُلْزِم للطرف الثالث في النزاعات أمر غير شائع. لقد أظهرت بعض الدراسات على عينة من النزاعات الدولية أجرتها ميخائيلا ماتيس Michaela Mattes أن حوالي 4% فقط من محاولات التسوية كانت نتاج جهود ملزمة من أطراف ثالثة، و24% نتاج ترتيبات غير ملزمة، وأكثر من 70% من خلال المفاوضات المباشرة.
ونظرًا لأهمية الجهود الثنائية، ومنهج التفاوض المباشر بين أطراف النزاع؛ يصبح من المهم دراسة كيف يمكن لأطراف النزاع أنفسهم حلّ نزاعاتهم سلميًّا.
أحد الخيارات المطروحة التي قد تختارها الأطراف هو تجزئة خلافاتهم، والتعامل معها في تسويات جزئية متتالية وفقًا للنهج الجزئي التدريجي Piecemeal Approach. ولعلَّ ذلك يطرح السؤال حول إيجابيات وسلبيات الاتفاقات المحدودة. ويعني هذا النهج في أبسط مستوياته الأساسية (إبرام تسوية جزئية) أن دولة واحدة على الأقل من الدول مستعدَّة لتقديم تنازلات في جزء من قضايا النزاع، والطرف الآخر على استعداد لقبول الشروط المقترحة، ولعل ذلك يفترض وجود إرادة سياسية لدى أطراف النزاع.
في الوقت نفسه؛ يشير التفاوض على صفقة جزئية محدودة إلى أن التسوية الشاملة قد لا تكون ممكنة بعدُ. في مثل هذه المواقف التفاوضية يبدو من الأفضل تصوُّر محاولات التسوية على أنها مباريات ذات مستويين؛ يتمثل المستوى الأول في موافقة ممثِّلي الدول أطراف التفاوض، أما المستوى الثاني فهو يشير إلى الجمهور والنُّخَب في الدول المتنازعة.
ولا شك أنَّ التسويات الشاملة تقتضي موافقة من المستويين، وعليه فإن العقبات التي تواجه أيًّا من المستويين يمكن أن تقوّض التوصُّل إلى صفقة شاملة؛ فعلى المستوى الأول، قد تكون التسوية معقدة بسبب انعدام الثقة بين الأطراف. ربما يتردد القادة في التوصُّل إلى تسوية شاملة تحلّ النزاع بأكمله؛ لأنهم يخشون (1) أن الخصم لن يلتزم بتنفيذ الاتفاقية (إصرار إثيوبيا على عدم إلزامية الاتفاق من الناحية القانونية)، وبالتالي سيضيع الوقت والجهد المبذول في المفاوضات، ويرتب فشلاً سياسيًّا أمام الجمهور. قد ينتج عن ذلك، (2) أن الخصم سوف ينظر إلى التنازلات على أنها نقاط ضعف، وسيصبح أكثر جرأة للمطالبة بحقوقٍ أخرى لم تكن موضوعًا للنزاع من قبل، (3) ربما يستفيد الخصم من مكاسبه لزيادة قدراته العسكرية.
عندما تمنع تلك المخاوف بشأن التبعات فكرة التسوية الشاملة، قد تختار الأطراف نهج الصفقة الجزئية. الميزة هنا أنه في حالة فشل مثل هذه الصفقة، فإن تكلفة التفاوض والفشل السياسي أمام الجمهور تكون محدودة. علاوة على ذلك، يمكن للتسويات الجزئية أن تبني الثقة بين الأطراف، وتُمهّد الطريق لتعاون أكثر شمولاً. ومن المعروف أن الفكرة القائلة بأن “الخطوات التعاونية الأصغر يمكن أن تُعزّز تعاونًا أعمق”؛ هي فكرة راسخة في أدبيات العلاقات الدولية. وغالبًا ما تُعزَى عملية رفض تقديم تنازلات في النزاعات الدولية المعقدة إلى ديناميكيات السياسة الوطنية (المستوى الثاني). إذ يمكن للمشاعر العامَّة غير المواتية والمعارضة النخبوية أن تُشكِّل عقبات كبيرة أمام التسوية الشاملة؛ سواء في النُّظُم الديموقراطية أو غير الديمقراطية.
عادةً ما تعالج التسويات الجزئية الخلافات الطفيفة، بينما يتم تجاهل القضايا الأكثر إثارة للجدل، وعندما يتم التركيز على الجزء “السهل” من النزاع، فإن إجراءات بناء الثقة تصبح غير مضمونة، وهو ما يعني صعوبة حلّ العناصر الأكثر تعقيدًا للنزاع الأساسي. هناك أيضًا احتمال أن تُفْضِي الاتفاقات المحدودة إلى زيادة حدة الصراع نتيجة لِـمَا يُطلق عليه “تأثير البالون المضغوط: pressed balloon effect“: إذ قد تؤدي تسوية الجوانب السهلة للنزاع إلى تحويل التركيز إلى مناطق أخرى متنازَع عليها، مما يؤدي إلى تفاقم التوترات بشأن هذه القضايا التي لم يتم حلها.
ومن جهة أخرى؛ فإنه نظرًا لأن النهج التدريجي تنكشف عوراته بمرور الوقت، يصبح لدى المعارضين فرصة كبيرة للتعبئة العامة، وتقويض المزيد من الخطوات في عملية التسوية الشاملة. أضف إلى ذلك؛ أنه إذا قررت الأطراف المُضِيّ قُدُمًا بشأن بعض القضايا المتنازَع عليها، وترك جوانب أخرى من النزاع للنظر فيها في المستقبل؛ فقد يرسّخ هذا من الاعتقاد العام بأن بعض القضايا مستعصية على الحل وميؤوس منها. ونتيجة لذلك، قد يمتنع الطرفان عن أيّ محاولة جادة للتفاوض؛ خوفًا من أن يكون الفشل محتومًا.
مضار النهج الجزئي في حالة سد النهضة:
يمثل الإعلان الرسمي في 3 فبراير 2011م عن بناء سد النهضة على النيل الأزرق في جوهره رسالة سياسية لمصر تحديدًا بأنها لن تستطيع بعد ذلك مَنْع إثيوبيا من بناء مشروعات كبيرة على النيل. ومنذ ذلك الوقت، وعلى مدى نحو عقد من الزمان؛ استمرت إثيوبيا على نفس النهج؛ حيث رفضت وقف بناء السد لحين التوصل لاتفاقٍ.
كما ظلت الحكومات الإثيوبية المتعاقبة تتحدث عن المظلومية التاريخية، وحقها الطبيعي في موارد النيل، في نفس الوقت الذي قامت فيه بتعبئة الجماهير حول السدّ؛ باعتباره رمزًا للكرامة الوطنية. تم استخدام الموسيقى والغناء لتمجيد السدّ، وبثّ رسالة مفادها أن النهر (أباي) أصبح عاملًا للتنمية الوطنية، وتعبئة الجماهير خلف هذا المشروع الوطني. ولعل أغنية تيدي أفرو بعنوان: “إذا اختبروا مدى صبري في آباي” (الاسم الأمهري للنيل الأزرق) تقدم مثالاً واضحًا على ما نقول. تقول كلمات الأغنية: “لن يتنازل أي مواطن عن آباي … تقدم، فأنا أمتلك آباي. تقدم، فقد مددت يدي وقلت لنتشارك. تقدم، على كل ظلم حتى وان كرهت مصر ذلك. تقدم، حتى الحب، عندما ينفذ الصبر ينفجر“.
ومن الواضح أن كلمات الأغنية تؤكد على عددٍ من المعاني والمفاهيم المهمة في الثقافة السائدة عن نهر النيل في الوجدان الإثيوبي العام في مرحلة ما بعد سد النهضة: أولها ملكية النهر (أباي)؛ فهو نهر إثيوبي خالص، ولعل ذلك يفسّر لنا طبيعة الخطاب الرسمي الإثيوبي حول النهر باعتباره بحيرة تجري في الداخل الإثيوبي.
ثانيًا أنه يكفي مصر ما حصلت عليه في الماضي؛ فقد روى النهر وديانها، ولن تستطيع أن تتوسع خارج هذه الوديان بعد ذلك.
ثالثًا: استخدام كلمات التهديد المشحونة عاطفيًّا بجوّ المعارك للدفاع عن أباي وعدم التفريط فيه.
رابعًا: استحضار الانتصارات الإثيوبية في الماضي؛ لترهيب من يجرؤ على تحدي أباي.
في ظل هذا المناخ لا يمكن التمييز بين المستوى الرسمي والمستوى الشعبي الذي يقترحه نهج التفاوض الجزئي؛ فالمفاوض الإثيوبي على المستوى الرسمي يحاول أن يكون أكثر راديكالية من الخطاب الشعبوي، وذلك من أجل كسب الشرعية السياسية. وفي ظل انقسام الداخل الإثيوبي بعد قرار تأجيل الانتخابات العامة حتى عام 2021م، ومعارضة إقليم التيغراي الذي تعالت فيه أصوات المطالبة بالانفصال؛ تصبح الإرادة السياسية منعدمة، وتغيب الثقة المتبادلة بين أطراف النزاع.
إنَّ التسوية الجزئية تعني -في جوهرها- فرض سياسة الأمر الواقع، وهو ما تسعى إليه إثيوبيا؛ فقد بدأت ببناء السد نفسه بقرار أحادي، واتخذت قرار الملء في المرحلة الأولى بإرادتها المنفردة. ولعل هذا النهج قد يدفع إلى تفجير الإقليم كله؛ نظرًا لترك القضايا الجوهرية، وتكريس الاعتقاد بأنه لا يمكن الوصول إلى حلّ أبدًا. سوف تتصاعد حدّة الغضب المصري تجاه إثيوبيا التي تخطّط للمضي قُدُمًا حتى بدون اتفاق، بل وتعلن أنها سوف تقوم ببناء سدود أخرى مستقبلية على النيل الأزرق.
إن النيل هو شريان حياة مصر، ولذلك يُعدّ سدّ النهضة مسألة قد تُمثل تهديدًا وجوديًّا للمصريين. ربما يُضارّ نحو خمسة ملايين مزارع، وينخفض الإنتاج الزراعي بمقدار النصف، وهو ما يزيد من زعزعة استقرار مصر التي لا تزال تواجه تحديات أمنية واقتصادية كبرى. وعليه فإن الحل الجزئي في هذه الحالة بالنسبة لدولتي المصب يُعدّ أسوأ من حالة عدم التوصل لاتفاقٍ.
لقد ركَّزت الدعاية الإثيوبية بشكل مفرط على الظلم التاريخي، وعمدت إلى التقليل من أيّ آثار ضارة محتملة على كل من مصر والسودان. وبملاحظة منصّات التواصل الاجتماعي تويتر وفيسبوك نجد حملات دعائية واسعة النطاق من جانب واحد تدعم سد النهضة. استخدم هؤلاء المغردون هاشتاج إنه سدي! #Itsmydam، للتأكيد على رغبة الإثيوبيين في استعادة السيطرة على سدهم. واستخدم سيليشي بيكيلي، وزير المياه والري والطاقة الهاشتاغ عدة مرات ليقول “الكثير من النساء يقطعن مسافات طويلة، ويحملن الحطب”، أو “يوجد 60 مليون إثيوبي لا يحصلون على الكهرباء”، و”سد النهضة هو الحل”.
ومن الواضح أن الحملات الحكومية التي ترعاها الدولة تدعم هذه المنصات الدعائية؛ فلقد تبنَّت السفارة الإثيوبية في المملكة المتحدة شعار “#إنه سدي” في حسابها على وسائل التواصل الاجتماعي، وكتبت: “يقف سد النهضة كمنارة أمل لجميع الأفارقة. إن استخدام السد لإنتاج الطاقة الكهرومائية، دون استهلاك المياه، يسمح لها بمواصلة تدفقها إلى السودان ومصر، وهو يمكننا أخيرًا بإضاءة جميع دول حوض النيل”.
في ظل هذا المناخ السياسي المتوتر تصبح احتمالات التسوية عسيرة وصعبة المنال. وهو ما يعني أن أمام مصر والسودان معركة طويلة وشاقة.