بينما ينشغل الجميع بمواجهة جائحة كوفيد-19، والتفكير في مرحلة عوالم ما بعد الجائحة؛ فإن هجمات داعش الإفريقية على شمال موزمبيق تهدِّد بإغراق المنطقة في حالةٍ من الفوضى وخَلْق بؤرة عُنْف مُسَلَّح جديدة في إفريقيا.
لقد أدَّى الصراع العنيف، الذي اندلع في مقاطعة كابو ديلغادو في خريف عام 2017م، إلى مقتل أكثر من ألف شخص، وتشريد مائة ألف آخرين اضطرُّوا إلى الفرار من منازلهم.
وفي يومي 23و24 مارس 2020م، تمكَّن نحو أربعين مسلحًا من تنظيم الدولة في وسط إفريقيا من احتلال وسط مدينة موكيمبوا دا برايا في مقاطعة كابو ديلغادو؛ حيث استهدفوا المنشآت الحكومية، بما في ذلك الثكنات الأمنية والعسكرية. وفي 25 مارس، داهمت مجموعة من المسلحين بلدة أخرى؛ حيث قاموا بتدمير مقرّ شرطة المنطقة. ويُقدّر عدد القتلى من أفراد قوات الأمن في موزمبيق في الهجومين بنحو 30 شخصًا.
ولا شك أن عمليات التوغُّل والتمدُّد المسلَّح في مقاطعة كابو ديلغادو الغنية بالغاز الطبيعي تُظهر كيف استطاعت داعش كسب معركة العقول والقلوب بين السكان المحليين، في نفس الوقت الذي أدَّت فيه هجماتها العنيفة المتكررة إلى خفض معنويات الجنود الحكوميين والتسبُّب في أزمة إنسانية في أفقر إقليم من أقاليم موزمبيق.
ونحاول في هذا المقال فَهْم السياق المركَّب والمعقَّد الذي أدَّى إلى تصاعد هذه الأزمة.
تقع جمهورية موزمبيق في منطقة الجنوب الإفريقي على طول ساحل المحيط الهندي، وتشترك في الحدود مع كلٍّ من إيسواتيني وملاوي وجنوب إفريقيا وتنزانيا وزامبيا وزيمبابوي. على أن الموقع الساحلي لموزمبيق يمنحها أهميةً جغرافيةً واستراتيجيةً ليس على الصعيد الإقليمي فحسب، باعتبارها ممرًّا تجاريًّا إلى أسواق أخرى، ولكن أيضًا على المستوى القارّيّ؛ حيث تربط إفريقيا بعالم الشرق الرحيب.
بعد حصولها على الاستقلال عن البرتغال في عام 1975م، نشبت حرب أهلية وحشية خلال الفترة (1977-1992م) بين جبهة تحرير موزمبيق (فريليمو) والمقاومة الوطنية الموزمبيقية (رينامو)، والتي أسفرت عن مقتل ما يقرب من مليون شخص ونزوح خمسة ملايين آخرين.
وقد وضعت هذه الحرب أوزارها بتوقيع الطرفين المتحاربين على اتفاق سلام عام 1992م. سرعان ما نفضت البلاد عنها أوزار الماضي، وكادت تتحوَّل إلى قصة نجاح إفريقية بعد نحو عقدين من السلام والاستقرار.
ففي خلال الفترة ما بين عامي 2004 و2015م، شهدت البلاد نموًّا اقتصاديًّا مستقرًّا بمعدل 8٪ سنويًّا لتصبح واحدةً من أسرع عشرة اقتصادات نموًّا في العالم، وكان من المتوقع أن تستمر في مسار هذا النموّ الواعد بعد اكتشاف حقول الغاز قبالة سواحل البلاد عام 2017م. فما الذي حدث خطأ؟
الزحف الإرهابي وأحلام قيام الدولة :
يفيد اقتراب التتبُّع في معرفة آثار عدوى الإرهاب عبر منطقة ساحل الشرق والجنوب الإفريقي. لقد شهدت منطقة شمال موزمبيق في عام 2015م ظهور مجموعة مسلحة عنيفة تعرف باسم “أهل السنة والجماعة” أو “أنصار السنة”، وهي جماعة متشددة تنتشر في المقام الأول في مقاطعة كابو ديلغادو.
وبحسب المصادر المحلية، كان الزعيمان الأبرز لهذه الجماعة المتطرفة نور أدرماني وجعفر علوي، وكلاهما من موكيمبوا دا برايا. لا يُعرَف الكثير عن الرجلين، لكنَّ المصادر المحلية تعتقد أنهما تأثرا بأتباع الداعية الكيني عبود روغو الذي كان على صلة بتفجيرات السفارة الأمريكية في نيروبي ودار السلام عام 1998م، واتُّهِمَ بتمويل حركة الشباب في الصومال قبل اغتياله في مومباسا عام 2012م.
بعد وفاة الشيخ روغو، هاجرت مجموعة من أتباعه جنوبًا، وعبرت في النهاية الحدود التنزانية إلى موزمبيق؛ حيث نجحت في تجنيد الشباب في منطقة كابو ديلغادو التي تعاني من مظالم اجتماعية واقتصادية متعددة. تردَّد دعاة الحركة على المساجد المحلية وشجَّعوا الشباب على ترك المدارس الحكومية، مع إغرائهم بالأموال من أجل المشاركة في الهجمات الإرهابية.
تعكس مسيرة التطرُّف في شمال موزمبيق نفس خبرة بوكو حرام في نيجيريا والغرب الإفريقي؛ حيث تكون البداية من خلال الدعوة إلى التطبيق الحرفي للتعاليم الإسلامية، ومعاداة الخطاب الصوفي المداهن للسلطة، ثم ينتهي الأمر إلى تكفير الجميع، وحمل السلاح في مواجهة كل من الدولة والمجتمع.
جاء أغلب أعضاء جماعة “أهل السنة والجماعة” من قبيلة كيمواني التي تم تهميشها اجتماعيًّا واقتصاديًّا، حتى إنها تكسب أقواتها من خلال وسائط التجارة غير المشروعة.
ويتحدث معظم المسلحين في المنطقة الشمالية اللغات البرتغالية، والكيموانية، والسواحيلية، وبصرف النظر عن حاجز اللغة؛ فإنهم لا يثقون بقوات الشرطة المحلية والجيش، التي يأتي أفرادها في الغالب من مناطق الجنوب. كما أنَّ هناك عددًا كبيرًا من المقاتلين من تنزانيا والصومال ومنطقة البحيرات العظمى، الذين هاجروا بحثًا عن فرص أفضل.
وتبدو بدايات الحركات المسلحة العنيفة في السياق الإفريقي واحدة أو متماثلة إلى حدّ كبير، وهو ما يجعل المكون الأممي المعولم أحد المتغيرات المهمة في عملية الفهم والتحليل.
كان سبيل الخلاص المتصور لهؤلاء الدعاة هو استبدال المؤسسات الحكومية بهياكل أخرى بمقتضى “الشريعة الإسلامية” من أجل تأسيس دولة الإمارة الإسلامية. فهم يرفضون استخدام الرموز الوطنية والمسيحية ويميزون أنفسهم باعتبارهم “الفرقة الناجية”؛ من خلال ارتداء عمامات ذات رؤوس بيضاء، وحلق رؤوسهم، وإعفاء لحاهم، وارتداء سراويل قصيرة تقف عند أسفل الركبتين مباشرة.
مع مرور الوقت، انتقلت المجموعة من هذه الحالة التطهرية لتصبح أكثر راديكالية؛ حيث أقامت معسكرات في مناطق نائية. تلقَّى الأعضاء تدريبات عسكرية على أيدي أفراد خدموا سابقًا في قوات الشرطة والجيش الوطني، وكذلك على أيدي مقاتلي حركة الشباب من الصومال وكينيا وتنزانيا. كما سافر بعض الأعضاء إلى الخارج للتدريب في معسكرات تابعة لحركة الشباب الصومالية.
ثنائية الإرهاب والجريمة المنظمة:
من الملاحظ في تحوُّلات الظاهرة الإرهابية في إفريقيا: وجود علاقة بين المظالم التاريخية التي تعاني منها المجتمعات المحلية والأنشطة الإجرامية. ومن المعروف أن الشمال الموزمبيقي يقع في نطاق ما يُعرَف بساحل الهيروين في شرق إفريقيا؛ حيث يتم التعامل مع المخدرات وغيرها من المواد المهربة (مثل العاج والأخشاب والياقوت) عن طريق البحر أو البر عبر الحدود بين تنزانيا وموزمبيق، بشكل رئيسي؛ حيث تنقل إلى مابوتو وجنوب إفريقيا بعد ذلك. وكثيرًا ما يكون أفراد الشرطة والمسؤولون الحكوميون ضالعين في أنشطة التهريب.
ونظرًا لوجود نسبة كبيرة من البطالة يستطيع أمراء الجريمة تجنيد الشباب العاطلين عن العمل في شبكاتهم الإجرامية من خلال حوافز مالية مغرية، وهكذا يتمكَّن المتطرفون من التحرُّك والعمل بحُرِّيَّة في المنطقة؛ من خلال وجود حواضن اجتماعية توفِّر لهم الملاذ الآمن.
ولا شك أن فهم العلاقة بين المكون الأيديولوجي الراديكالي والتكتيكات الإجرامية لهذه الجماعات العنيفة يُعدّ مفيدًا في تطوير استجابات مناسبة وفعَّالة. لقد تحوَّلت كثير من هذه الجماعات الراديكالية عن مثاليتها الأيديولوجية لصالح استخدام العنف غير المشروع كوسيلة لجمع المال.
يتضح ذلك من حالة جيش الرب للمقاومة بزعامة جوزيف كوني، أو من العلاقة الوثيقة بين داعش والقاعدة وجماعات الجريمة المنظَّمة في الساحل الإفريقي. ولعل ذلك هو ما دفع بعض الباحثين إلى المطالبة بنزع الغطاء الديني عن هذه الجماعات التي كانت تقتل باسم الرب، ثم تحولت لتقتل من أجل المال.
جذور الأزمة:
إذا كان اقتراب التتبُّع يفيد الباحث في التعرُّف على مظاهر الأزمة، وكيفية انتقال فيروس الإرهاب؛ فإن الاقتراب الاقتصادي والاجتماعي يساعدنا في فهم أسباب المرض نفسه. وهنا نقترح أربعة عوامل تُشكّل في مجموعها جوهر مركب الأزمة التي تعاني منها المنطقة: طبيعة الاقتصاد السياسي السائد، وما يُطْلَق عليه لعنة الموارد، وضَعْف قبضة الدولة الأمنية، وردود الفعل الإقليمية والدولية.
تشير كافَّة الدلائل إلى أنَّ مظالم سكان كابو ديلغادو الرئيسية هي التهميش الاقتصادي والثقافي من قبل الحكومة التي تسيطر عليها جبهة فريليمو وحلفائها السياسيين. في هذه العملية، يمكن استخدام الخطاب الراديكالي بشكل ذرائعيّ، جزئيًّا على الأقل، من أجل كسب التأييد الشعبي في السعي إلى التحرر الاقتصادي والسياسي.
إننا أمام حالة مشابهة إلى حدّ ما لحركة تحرير دلتا النيجر حينما تتحول اكتشافات النفط والغاز الطبيعي إلى نقمة على المجتمعات المحلية. لقد جلبت هذه الاكتشافات استثمارات أجنبية كبرى، قامت بدورها باستغلال المجتمعات المحلية، وهو ما يُعيد إلى الأذهان ممارسات الفترة الاستعمارية. قامت شركات كبيرة متعددة الجنسيات ببناء مرافق إنتاج ضخمة في إقليم كابو ديلغادو، والتي عادت بقليل من النفع على السكان المحليين. إذ عادة ما يتم شغل معظم الوظائف من قبل الأجانب القادمين من جنوب إفريقيا وأماكن أخرى، في حين تمت إعادة توطين الآلاف من الأشخاص بشكل قسري لجعل المنطقة الساحلية متاحة لأغراض الاستثمار.
في ظل هذه الأوضاع كان الشباب العاطل عن العمل ينخرط في أعمال السطو والتهريب لكسب لقمة العيش. لم يكن مستغربًا أنَّ حوالي 80٪ من الأفراد الذين يتم تجنيدهم مِن قِبَل مجموعة متطرفة عنيفة في إفريقيا لديهم إحساسٌ كبيرٌ بالمظلومية التاريخية، وعدم الثقة بشكل خاص تجاه مؤسسات الدولة الوطنية، ولا سيما الشرطة والجيش.
وعلى الرغم من جاذبية الخطاب الراديكالي المتطرف كدافع لتجنيد الشباب في الجماعات الإرهابية، فإن أغلب هؤلاء ربما لم يقرؤوا أيّ نصّ دينيّ فضلاً عن أنهم قد لا يمتلكون القدرة على فهمه.
ومن جهة أخرى اعتمدت الشركات الكبرى على قوات الأمن الخاصة؛ نظرًا لعدم قدرة الأجهزة الأمنية والعسكرية الوطنية عن توفير الحماية والأمن لها. وعلى سبيل المثال وصلت وحدة واجنر الروسية في سبتمبر 2019م إلى مطار ناكالا بشاحنات وطائرات بدون طيار وطائرة هليكوبتر، ثم انتشرت في منطقة القتال في شمال كابو ديلغادو.
ولعل المتغيّر الأخير المهمّ في فَهْم طبيعة الصراع في شمال موزمبيق يتمثل في الاستجابات الإقليمية والدولية، ولا سيما مِن قِبَل الجماعة الإنمائية للجنوب الإفريقي المعروفة باسم (الإيكواس) حيث تم عسكرة الأزمة دون النظر إلى أنماط الاستجابات السياسية الأخرى.
وعلى أيّ حالٍ؛ فإن التركيز على الحلول العسكرية فقط –على الرغم من أهميتها- في محاربة المدّ الإرهابي في موزمبيق قد لا يؤدي إلى تحقيق السلام على المدى البعيد.
ثمة حاجة إلى تبنّي الروايات المضادّة لمحاربة خطاب الكراهية والتطرف الذي تتبنَّاه تلك الجماعات، وهنا يمكن للمبادرات المحلية التي يقودها رجال الدين ومؤسسات المجتمع المدني أن يكون لها الدور الرئيسي.
على أن ذلك كله لن يجدي نفعًا دون دعم حكومة موزمبيق لمعالجة الدوافع الاجتماعية والاقتصادية الكامنة وراء التطرف في كابو ديلغادو من خلال الخطط التنموية والتعليمية والمهنية الهادفة لتطوير الإقليم وتحويل لعنة الموارد الطبيعية إلى نعمة يستفيد منها الجميع على قدم المساواة.