تطرح تجربة ملاوي في الانتقال الديمقراطي خلال العام المنصرم نقطةَ تحوُّل فارقة في أهمية الدور الذي تمارسه المؤسسات الرسمية المستقلة، ولا سيما مرفق القضاء، في الدفاع عن الإرادة الشعبية وحمايتها.
ففي مايو 2019م، أُعيد انتخاب الرئيس بيتر موثاريكا لولاية ثانية، بنسبة ضئيلة من الأصوات على منافسه الرئيسي لازاروس تشاكويرا. بَيْدَ أنَّ هذه الانتخابات شابَها العديد من المخالفات؛ مثل الاستخدام المكثّف للكورريكتور (مصحّح اللون) على أوراق الاقتراع، وهو ما دعا إلى وصفها في اللغة الدارجة بأنها انتخابات “الممحاة أو الأستيكة”.
وبعد أشْهُر من التوتر والمظاهرات وأعمال العنف؛ أحالت المعارضةُ الأمرَ إلى المحكمةِ، التي ألغت إعادة انتخاب الرئيس موثاريكا على أساس الاحتيال، وأمرتْ بإعادة الانتخابات في غضون خمسة أشهر.
وصفت الحكومة هذه الخطوة بأنها “انقلاب قضائي”، لكنَّها اضطرت في نهاية المطاف تحت تصاعُد حدّة الضغوط الشعبية إلى الامتثال لقرار المحكمة.
ومع ذلك حاولت الحكومة جاهدةً النيل من استقلال مؤسسة القضاء؛ حيث أجبرت رئيس القضاة على أخذ إجازة؛ نظرًا لأنه لم يستنفذ رصيد إجازاته، وهو ما يعني عمليًّا إحالته للتقاعد؛ نظرًا لأن تاريخ تقاعده يقع في فترة الإجازة المقترحة.
رفضت المؤسسات الحقوقية والقضائية هذا التدخل، واعتبرت أن هذه مسألة إجرائية تدخل في اختصاص القضاء نفسه، ولا دخل للسلطة التنفيذية بها.
وبالفعل أُجريت الانتخابات في ظل إجراءات كوفيد19 الاحترازية، وهو ما منع وفود مراقبة الانتخابات الأجنبية من القدوم إلى ملاوي. بَيْدَ أنَّ وعي الشعب واستقلال القضاء وقف حائلاً أمام تزوير إرادة الناخبين هذه المرة، ولتقدّم ملاوي درسًا إفريقيًّا مهمًّا في الدفاع عن المؤسسات المستقلة.
ظاهرة الاستبداد الانتخابي:
ماذا يعني ذلك في سياق التحول الديمقراطي في إفريقيا، وزيادة حدة الانقسام بين أفراد النُّخَب الحاكمة تجاه نتائج الانتخابات العامة؟
الملاحَظ أنه على الرغم من تراجع نسبة الانقلابات العسكرية في إفريقيا عما كانت عليه خلال الحرب الباردة؛ إلا أن معظم الدول الإفريقية تشهد بدرجة أو أخرى ظاهرة “الاستبداد الانتخابي”؛ حيث تغطّي مظهرية وشكلانية عمليات التصويت واقع غياب الديمقراطية الحقيقية.
تتم الانتخابات بشكل منتظم، ولكنها عادةً ما تكون نتائجها مزوّرة وموضع نزاع بين أطراف المعارك الانتخابية. وتصنّف منظمة “فريدوم هاوس” سبع دول إفريقية فقط على أنها “حرة”، وهي أدنى نسبة منذ عام 1990م. وعادةً ما تكون دول جنوب وغرب إفريقيا أكثر حرية من تلك الموجودة في المنطقتين الشرقية والوسطى.
وقد قامت بضع دول إفريقية بالانفتاح السياسي في العامين الماضيين؛ على سبيل المثال لا الحصر: أطاح السودانيون بالرئيس عمر البشير، المتَّهم بارتكاب “جرائم الإبادة الجماعية”. كما بدأت الحكومات الجديدة في أنجولا وموريتانيا والجزائر في اتخاذ إجراءات جديدة لتوسيع نطاق الممارسة السياسية في الفضاء العام.
لكنَّ الاتجاه العام مخيّب للآمال. وينطبق هذا بشكل خاص على البلدان التي كان يُنظَر إليها ذات مرة على أنها نقاط مضيئة وقصص نجاح، مثل بنين وزامبيا، أول دولتين إفريقيتين (باستثناء موريشيوس) شهدتا انتقالاً سلميًّا للسلطة عبر صناديق الاقتراع في عام 1991م.
في بنين، تبدو الممارسة العملية، وكأننا نشهد “ديمقراطية النسكافيه” التي قد تبدو سريعة، ولكن طعمها مرّ.
أما في زامبيا، فقد اعتمد الرئيس إدوارد لونغو، من بين خطوات أخرى، على السلطة القضائية للسماح له بالترشح للمرة الثالثة في عام 2021م.
ويطرح ” الرئيس البلدوزر” جون ماغوفولي في تنزانيا منذ عام 2015م مثالاً آخر على تقييد الحريات العامة؛ حيث تم اعتقال أعضاء برلمانيين وصحفيين معارضين، وإغلاق وسائل الإعلام، وإصدار قوانين لتكميم أفواه المنشقين.
والمثير للاهتمام أن المناخ الدولي الراهن، ولا سيما بعد جائحة كورونا؛ لا يشجّع على دعم عمليات التحول الديمقراطي في إفريقيا.
الصين -وهي الأكثر نفوذًا- لا تهتم بقضية الحريات العامة، أو بمن يحكم في إفريقيا. إنها تُقرض المزيد من الأموال وتبيع أسلحة إلى إفريقيا، كما يدير الحزب الشيوعي دورات تدريبية للأحزاب الحاكمة في جميع أنحاء القارة، بما في ذلك تلك الموجودة في جنوب إفريقيا وأنغولا وناميبيا وتنزانيا وإثيوبيا.
كما أن روسيا تتوجه إلى البلدان الهشَّة الغنيّة بالموارد. ومنذ عام 2018م، عمل المستشارون العسكريون الروس في جمهورية إفريقيا الوسطى الغنية بالماس.
الولايات المتحدة هي الأخرى في ظل إدارة ترامب باتت تنظر بعين القلق إلى كلّ من النفوذ الصيني والروسي وتحاول احتواءه. ولم يرد ذكر “الديمقراطية” في الخطاب الذي حدّد “استراتيجية إفريقيا” لإدارة ترامب في ديسمبر 2018م؛ وهو تغيير ملحوظ ولو من الناحية الشكلية عن الإدارات السابقة.
لعل ذلك كله يضع مسؤولية كبيرة على الأفارقة في كفاحهم من أجل مزيد من الحرية والديمقراطية، وكما يقول المفكر النيجيري الكبير كلود أيك: “إن مسؤولية إصلاح البيت الإفريقي تقع على قاطنيه”.
الفصل بين السلطات والتحوُّل الديمقراطي:
من المتعارف عليه لدى دارسي العلوم السياسية أنَّ مبدأ الطبيعة الثلاثية للسلطات في الدولة “trias politica”، والذي تم التوكيد عليه في الديمقراطيات الحديثة، ينطوي على فصل السلطات، وتقسيم سلطات الدولة إلى ثلاثة فروع: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية.
ويخالف هذا المبدأ فكرة اندماج السلطات في النظام البرلماني؛ حيث تتداخل السلطتان التنفيذية والتشريعية.
تاريخيًّا تم تطوير فلسفة الفصل بين السلطات من قبل فيلسوف التنوير الفرنسي شارل دي مونتيسكيو، والتي نُشرت في كتابه “روح القوانين” عام 1748م. وقد كان لهذه الفلسفة تأثير كبير على الدستور الأمريكي (1789م)، وعلى الثورة الفرنسية (1791م)، كما انعكست بشكل واضح على الفلسفة السياسية في العديد من الدول الأوروبية.
ويُعدّ فصل السلطات إحدى ركيزتي الدولة الحديثة. والركيزة الأخرى هي الفصل بين الدولة والدين. ووفقًا لمونتسيكيو، “عندما تتَّحد السلطات التشريعية والتنفيذية في يد شخص واحد أو هيئة واحدة، تنتفي الحرية؛ وتثور المخاوف؛ خشية أن يقوم الملك أو مجلس الشيوخ بسنّ قوانين استبدادية، وتنفيذها بطريقة استبدادية”.
أعطى مونتسكيو وغيره من فلاسفة وعلماء السياسة وضعًا خاصًّا لمرفق القضاء في الحكومة؛ باعتباره الركيزة الحاسمة في نموذج الحكم الديمقراطي الذي يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات.
يقول في ذلك: “لا توجد حرية إذا لم يتم فصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية”. “… ستكون هناك نهاية لكل شيء، إذا كان نفس الرجل أو نفس الهيئة، سواء من النبلاء أو من الشعب، يمارس هذه السلطات الثلاثة، تلك التي تسنّ القوانين، وتلك التي تنفّذ القرارات العامة، وتلك التي يتقاضى أمامها الأفراد”.
وقد انتهى على وجه التحديد إلى القول بأن “استقلال القضاء يجب أن يكون حقيقيًّا، وليس فقط شكليًّا”.
واستنادًا إلى هذا السياق، يمكننا تحديد دور أو وظيفة مرفق القضاء في سياق عملية التحول الديمقراطي في إفريقيا، بناءً على مواقف وأحكام المحاكم العليا أو المجالس الدستورية بشأن النزاعات الانتخابية في عدد متزايد من الدول الإفريقية؛ مثل نيجيريا وكوت ديفوار وكينيا ومالاوي وغينيا بيساو.
إنه بعد أعمال العنف التي أعقبت انتخابات 2007م في كينيا، والتي أودت بحياة أكثر من ألف شخص، تبنَّت البلاد في عام 2010م دستورًا جديدًا يقوم على ترسيخ مبدأ الفصل بين السلطات؛ من خلال العديد من الضوابط والتوازنات، وهو ما حدَّد بشكل كبير سلطات رئيس الدولة.
وقد تم حسم نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2013م التي أعلن فيها فوز الرئيس أوهورو كينياتا من قبل المحكمة العليا بعد أن طعن منافسه المخضرم رايلا أودينغا في النتيجة.
تكرر الأمر مرة أخرى، حينما أحيل ملف الانتخابات الرئاسية في أغسطس 2017م بين الخصمين السياسيين كينياتا وأودينجا أيضًا إلى المحكمة العليا، والتي ألغت هذه المرة فوز المرشح كينياتا، مستشهدة بالمخالفات الجسيمة التي شابتها، وأمرت بإعادة التصويت الذي فاز به كينياتا في نهاية المطاف.
وفي غينيا بيساو أيَّدت المحكمة العليا فوز زعيم المعارضة عمرو سيسوكو إمبالو في انتخابات 29 ديسمبر 2019م، ورفض الطعن الذي قدَّمه منافسه دومينغوس سيمويس بيريرا من الحزب الحاكم، وهو ما يعني تثبيت إرادة الناخبين.
وقد شهدت نيجيريا نزاعًا قضائيًّا في انتخابات 23 فبراير 2019م؛ التي نافس فيها الرئيس الحالي محمد بوخاري و72 مرشحًا آخر. فقد أحال مرشح المعارضة الرئيسي الحاج أتيكو أبو بكر النزاع للمحكمة العليا التي أيدت الأحكام الصادرة عن المحاكم الدنيا، وأعلنت فوز بوخاري. كما حظيت العديد من نتائج انتخابات 29 ولاية من أصل 36 ولاية في نيجيريا، والتي أجريت في 9 مارس 2019م باهتمام المحكمة العليا.
تحدّي تسييس القضاء في إفريقيا:
قد لا نتفق مع القاضي البريطاني الأشهر اللورد ديننينغ، الذي دافع باستماتة عن نزاهة واستقلال القضاء في تعليقه على الإدانات الخاطئة لرجال برمنغهام الستة في عام 1988م، بقوله: “أن يبقى بعض الرجال الأبرياء في السجن أفضل من أن يتم الطعن في نزاهة النظام القضائي الإنجليزي”.
ربما يكون هذا الرأي مثيرًا للجدل، ولكنه يذهب فقط لإظهار التقدير الذي يتمسك بأهمية استقلال الذراع القضائية للحكومة. على أن الوضع يبدو مختلفًا في إفريقيا؛ حيث يمكن أن يؤدي تدخل القضاة في النزاعات الانتخابية إلى مزيد من التسييس لمرفق العدالة الذي يعاني أصلاً من مشكلات كبرى.
على سبيل المثال عملية توظيف القضاة أو الموظفين القضائيين تشجّع من الناحية الواقعية تدخل السلطة القضائية في السياسة، وبالتالي العملية الانتخابية.
ويتضح من تحليل نصوص بعض الدساتير الإفريقية أنها تمنح السلطة التنفيذية حقّ تعيين القضاة والموظفين القضائيين والاستغناء عنهم.
لذلك، لا يمكن استبعاد التدخل السياسي مهما كان خفيًّا. وفي بعض الحالات يحاول الساسة إفساد النظام القضائي أو “شراء” أحكام المحاكم.
في الواقع العملي، أصبح من المألوف بالنسبة للسياسيين تقويض العملية الانتخابية أو التلاعب بها، ثم مطالبة الخصوم المتضررين باللجوء إلى المحكمة لطلب الإنصاف، مع العلم أنهم على علم بكيفية التعامل مع هذه الجوانب القانونية.
وعليه يظل السؤال في ضوء خبرة ملاوي الأخيرة، والخبرات الأخرى المغايرة؛ هل يمثّل القضاء عاملاً للتحول الديمقراطي أم عائقًا أمام التغيير السلمي؟
لعلّنا نتذكر في هذا السياق قول القاضي النيجيري الكبير تشوكوديفو أوبوتا الذي لُقِّب بسقراط المحكمة العليا: “إذا كانت السلطة التشريعية فاسدة، فاذهب إلى القضاء من أجل إنصافك. وإذا كانت السلطة التنفيذية فاسدة، فاذهب إلى القضاء لإصلاح الوضع. (لكن) إذا كان القضاء نفسه فاسدًا، فأين تذهب؟!”.