تَمثل الشعار الأهم لمرحلة بناء الدولة الحديثة في إفريقيا خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في محاربة الأعداء الثلاثة: الفقر والجهل والمرض. وقد جسَّد الرئيس الليبيري ويليام تولبرت بشكلٍ رمزيّ حالةَ الحرب تلك على الأعداء الثلاثة للتنمية الوطنية. ففي اجتماع درامي لمجلس الوزراء ضمَّ رئيس مجلس النواب، ورئيس أركان الجيش، والقائد العام للحرس الوطني الليبيري والمستشار العسكري الأمريكي، أعلن الرئيس تولبرت قيام الأمة بشنّ حربٍ لا هوادة فيها على الجهل والفقر والمرض.
اتضح بعد ذلك أن النخب الحاكمة في الدول الإفريقية نجحت في تشخيص الأمراض الثلاثة، ولكنها فشلت في وصف الأعراض. بينما كان الجميع يتظاهر بخوض غمار المعركة؛ دخل الفساد خلسة إلى المشهد العام. لقد رحل الجنرالات والجنود الذين كانوا يقودون القتال، وبقيت الشرور الثلاثة كما هي في الواقع الإفريقي حتى اليوم.
ولعل ذلك يفسّر لنا سرّ تراجع إفريقيا وتقدُّم آسيا؛ ففي عام 1950م، كان متوسط دخل الأفارقة تقريبًا ضعف متوسط الدخل في آسيا. لم تكن إفريقيا بعيدة عن المتوسط العالمي للدخل (نحو 68%). بحلول عام 2016م، كان العكس صحيحًا؛ حيث أصبح متوسط الدخل الآسيوي يقرب من 80٪ من المتوسط العالمي، بَيْدَ أنَّ متوسط الدخل الإفريقي انخفض لنحو 40٪ من المتوسط العالمي.
لم يكن التحوُّل المثير في آسيا مفاجئًا تمامًا؛ فقد تخلت القوى الكبرى مثل الصين والهند عن سياساتها السابقة، وحشدت التمويل الخاص، وزادت من الاستثمار الأجنبي المباشر، ووضعت نفسها كاقتصادات تصدير. كما عزّزت بعض المناطق مثل سنغافورة وتايوان وهونغ كونغ الثروة والمكانة الآسيوية من خلال إعادة اختراع نفسها كمحاور مالية مركزية لا غِنَى عنها للاقتصاد الآسيوي.
أزمة كورونا و”ديستوبيا” الحرب على المرض:
لقد أظهرت أزمة كورونا مدى زيف شعارات ما بعد الاستقلال في إفريقيا؛ حيث لم تتحقق التنمية المنشودة ولا الوعود التي قطعها قادة الاستقلال على أنفسهم. إنَّ الأنظمة الصحية في إفريقيا ضعيفة وغير قادرة على مواجهة تحدِّي الأمراض والأوبئة التي تعصف بحياة الأفارقة. وفقًا لبعض التقديرات لا تمتلك 10 دول إفريقية (حوالي 20٪ من إجمالي دول القارة) أجهزة تنفس صناعي.
ومما يثير العجب أن جنوب السودان، الدولة التي يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة، لديها عدد أكبر من نواب الرئيس (خمسة) في الوقت الذي تمتلك فيه أربعة أجهزة تنفس صناعي فقط. كما يوجد في جمهورية إفريقيا الوسطى ثلاثة أجهزة تنفس فقط لسكانها البالغ عددهم نحو خمسة ملايين.
وعلى الرغم من أنَّ معدل انتشار فيروس كورونا المستجدّ لا يزال منخفضًا نسبيًّا في إفريقيا، إلا أنَّ الأنظمة الصحية لا تزال معرَّضة لحدوث تزايد في عدد الإصابات المؤكدة. ونظرًا لضعف البنية الصحية الإفريقية فإن تبعات أزمة كورونا قد تكون كارثية. على سبيل المثال تُشكل إفريقيا 16% من سكان العالم، ومع ذلك تنفق 1% فقط على الرعاية الصحية. وإذا علمنا أنه يوجد في إيطاليا 41 طبيبًا لكل عشرة آلاف شخص؛ فإن إفريقيا تشهد وجود طبيبين لكل عشرة آلاف شخص.
لقد كانت البدايات خاطئة في إفريقيا بعد الاستقلال؛ حيث أدَّت السياسات المتَّبعة إلى تسويق سرديات البؤس الإفريقي (الديستوبيا الواقعية والمتخيلة) في الخطاب الغربي السائد عن إفريقيا. كان الفوز بجوائز بوليتزر، والحصول على الإشادة الدولية، وجمع الأموال يرتبط بطريقة تقديم البؤس الحقيقي والمتخيل لإفريقيا من قبل بعض الكُتاب والمصورين والمنظمات غير الحكومية من القارة؛ حيث كان الأمر دومًا يتعلق دائمًا بتسويق الألم والحزن. ولعل ذلك يذكرنا برمزية قصة كيفن كارتر حينما ذهب إلى جنوب السودان عام 1993م، وتصويره طفلاً يعاني ألم الجوع في أرض جدباء، حاني الرأس كما لو كان في الصلاة، بينما يتربص به نسر قريب على أمل أن يحظى بغنيمة. لم تأسر هذه الصورة وجدان العالم الغربي، بمضامينها الإنسانية البائسة، ولكن بنوع من الفضول والإحسان لمعرفة هذا البؤس الأسود.
والعجيب أنَّ هذه “الديستوبيا” الإفريقية هي التي أسهم الغرب في تأسيسها من خلال تكالبه الذي لم ينقطع على استغلال الموارد الإفريقية. وعلى سبيل المثال؛ فإن الفساد في إفريقيا الذي بدأ على نطاق واسع باستغلال الموارد أدَّى إلى تواطؤ الشركات المتعددة الجنسيات والنخب الإفريقية الحاكمة. ومن الأمثلة على ذلك: فضيحة فساد “شل” و”إيني” التي شملت موظفين من كلا الشركتين وكبار المسؤولين النيجيريين. ولعل المبلغ المُوزَّع كرشاوى يتجاوز ميزانية الرعاية الصحية النيجيرية بأكملها لعام 2018م، في بلدٍ يعيش فيه 87 مليون شخص في فقر مدقع.
السياحة العلاجية والهروب إلى “يوتوبيا” الغرب:
في ظل هذا البؤس الإفريقي الذي أسهم فيه أبناؤها لم يكن مستغربًا أن يلوذ القادة الأفارقة وكبراء القوم لديهم ب “يوتوبيا” الغرب والعالم المتقدم طلبًا للسياحة والعلاج. وفقًا لتقارير إعلامية، تُقدر صناعة السياحة العلاجية عالميًّا بنحو 100 مليار دولار أمريكي (وكان من المتوقع أن تستمر في النمو بنسبة 25٪ على أساس سنوي قبل ظهور أزمة كورونا). وعادةً ما يتقدم النيجيريون قائمة مستخدمي السياحة العلاجية في الخارج؛ حيث ينفقون أكثر من 200 مليون دولار أمريكي سنويًّا على السياحة العلاجية للهند وحدها. وبشكل عام، تشير التقديرات إلى أنَّ إفريقيا تخسر نحو مليار دولار أمريكي على العلاج الطبي في الخارج سنويًّا، ممَّا يشكل خسارة اقتصادية كبيرة واستنزافًا لموارد القارة. ومع نمو الطبقة الوسطى في إفريقيا، يزداد أيضًا عدد الأشخاص الذين يتطلعون للحصول على علاج طبّي ممتاز خارج بلدانهم. وهذا يعني مزيدًا من الإنفاق في النقل والإقامة والعلاج، واستمرار تدفق نزيف الأموال الإفريقية إلى الخارج.
من المثير للدهشة أن الزعماء الأفارقة -وكثيرٌ منهم رفع شعار الحرب المقدسة على الأعداء الثلاثة: الفقر والجهل والمرض- لا يثقون في أنظمتهم الصحية الوطنية، ويلوزون بالخارج طلبًا للرعاية والعلاج!! وبالمقارنة لا تبدو هذه الممارسة شائعة بين قادة دول آسيا وأمريكا اللاتينية الذين يثقون في نظامهم الصحي الخاص.
ومن الملاحظ أن قادة أفقر الاقتصادات في آسيا وأمريكا اللاتينية يستخدمون الخدمات الصحية في بلدانهم بدلاً من إسناد هذه الوظيفة إلى الأوروبيين. ويمكن أن نشير هنا إلى التجربة الكوبية التي أضحت دبلوماسيتها الطبية أحد أدوات قوّتها الناعمة، وهو ما جعلها ترسل طواقمها الطبية إلى الصين وإيطاليا وجنوب إفريقيا ومناطق أخرى حول العالم للمساعدة في احتواء جائحة كورونا. ومن المعروف أن كوبا قد حققت عوائد بنحو6.3 مليار دولار من صادرات الخدمات الطبية في عام 2018م، وهو ما يشكّل ضِعْف إيرادات السياحة.
تُوفي الرئيس روبرت موغابي، رئيس زيمبابوي السابق، في مستشفى في سنغافورة في عام 2019م، عن عمر يناهز 95 عامًا. أدت أفعال الرجل وسياساته أثناء حكمه إلى تدمير القطاع الصحي في بلاده، بينما كان يتمتع هو وأفراد أسرته بالرعاية الصحية في بلد آخر. في زيمبابوي غالبًا ما تفتقر المستشفيات والعيادات العامة التي تديرها الدولة إلى أبسط أنواع الرعاية والأدوية الأساسية، مثل مسكنات الألم والمضادات الحيوية بسبب نقص الإنفاق العام.
كما توفي رئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زيناوي في مستشفى بلجيكي في أغسطس من عام 2012م عن عمر يناهز 57 عامًا. كان سبب وفاته الرسمي نتيجة عدوى مفاجئة.
أما الرئيس عمر بونغو الذي حكم الغابون لمدة 42 عامًا، فقد سافر إلى برشلونة لطلب علاج السرطان، لكنَّه مات بسبب السكتة القلبية هناك.
وعندما أُصيب رئيس ملاوي موثاريكا البالغ من العمر 78 عامًا بنوبة قلبية في أبريل 2012م، تم نقله جوًّا إلى مستشفى في جنوب إفريقيا؛ حيث تأكد وفاته بعد ذلك بيومين.
وفي عام 2017م، قضى الرئيس النيجيري محمد بوخاري معظم الوقت خارج بلاده طلبًا للاستشفاء.
لقد توفي العديد من القادة الأفارقة في المستشفيات الأجنبية خارج بلادهم. ويمكن إدراج مئات وآلاف المسؤولين رفيعي المستوى ورجال الأعمال الأثرياء في هذه القائمة.
من الواضح أن الرعاية الصحية لم تَعُدْ أولوية للنخب الحاكمة الذين يفضّل معظمهم السفر للخارج عند الضرورة. إنهم لا يؤمنون بالنظام الصحي الوطني، ولا يرغبون في الاستثمار في البنية الصحية، وهو ما يسهم في هجرة الأطباء الأكفاء إلى الخارج.
لقد أهمل الزعماء الأفارقة باستمرار قطاع الصحة في بلادهم على الرغم من تعهدات عديدة بتحسينه؛ ففي عام 2001م، اجتمع رؤساء 52 دولة إفريقية في العاصمة النيجيرية أبوجا، والتزموا بإنفاق 15% من ميزانيتهم الوطنية السنوية على الصحة. بيد أنَّ قلة من الدول هي التي حقَّقت هذا الهدف في القارة. وتشمل هذه الدول وفقًا لمنظمة الصحة العالمية تنزانيا ورواندا وبوتسوانا وزامبيا.
لقد استطاعت رواندا عام 2017م مضاعَفَة إنفاقها على الرعاية الصحية على مدى 10 سنوات. وطبقًا لبحث نشره معهد بروكنجز، فإنه على الرغم من أن إفريقيا تحملت 23% من عبء المرض العالمي في عام 2015م، إلا أنها أسهمت بنحو 1% فقط من الإنفاق الصحي العالمي في نفس العام. واستنادًا إلى مقياس نصيب الفرد، فإن بقية العالم ينفق على الرعاية الصحية عشرة أضعاف ما تنفقه إفريقيا. وعليه ربما يكون من الصعب على دول القارة تحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030م في ظل اتجاهات الإنفاق الحالية.
النموذج الآسيوي:
هل يمكن لإفريقيا أن تبدأ بداية صحيحة هذه المرة، وتتعلم من أخطاء الماضي؟ هل يمكن لها أن تستفيد من التجربة الآسيوية؟ لقد استطاعت الدول الآسيوية في المقابل بناء أسس صناعة سياحة طبية ناجحة. على سبيل المثال أضحت الهند قوة مهمة في مجال السياحة العلاجية؛ فقد انتهجت الحكومة الهندية السياحة العلاجية كركيزة استراتيجية للنمو الاقتصادي. على هذا النحو، فقد خصَّصت مئات الأفدنة من الأراضي بامتيازات ضريبية لبناء المستشفيات والمراكز الطبية المتميزة التي تقدّم العلاج بمعايير قياسية عالمية للمرضى الأجانب.
ولعل تلك المحفزات الحكومية هي التي مكَّنت مرافق الرعاية الصحية الهندية من تقديم حزم طبية ممتازة للمرضى الأجانب بأسعار معقولة للغاية. علاوة على ذلك، تتمتع الهند بميزة إضافية؛ تتمثل في أنها تتمتع بتاريخ طويل من الطبّ البديل، وهو عامل جذب شهير للعديد من المرضى. وبالمثل، فإن تكلفة العلاجات الطبية في تايلاند أقل بكثير مقارنةً بالعلاجات المماثلة في البلدان المتقدمة. وقد وضعت وزارة الصحة العامة التايلندية خطة استراتيجية خمسية لمضاعفة الإيرادات المتولدة من شركات الخدمات الطبية؛ مما يجعل تايلاند جذابة من الناحية الطبية. لقد بلغ متوسط إيراداتها السنوية من قطاع السياحة العلاجية في السنوات الثلاث الماضية 8 مليارات دولار أمريكي، ممَّا يجعل السياحة الطبية واحدة من أسرع الأسواق نموًّا في آسيا.
ما العمل؟
لقد كشفت جائحة كورونا سوءات النظم الصحية الإفريقية، وأبرزها: شيوع الفساد، والاعتماد على الخارج. ففي ظل هذه الحرب المخيفة التي شملت الجميع في الغرب والشرق على السواء بات كل واحد منا وكأن لسان حاله يقول: “نفسي نفسي”. وهكذا تُركت إفريقيا وحدها تواجه مصيرًا غير معلوم.
وهنا يتعين على القيادات الإفريقية الواعية تعلُّم الدرس والاستفادة من خبرات الآخرين، ولا سيما في آسيا؛ من أجل بناء وتطوير المستشفيات والعيادات الطبية الراقية لتعزيز الصحة العامة بحسبانها مسألة تتعلق بالأمن القومي. ويتعين تحقيق ذلك من خلال الآليات المالية المستدامة التي تقدم الخدمات للجميع بغضّ النظر عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
ولا شك أن ذلك كله يُعيدنا إلى المربع الأول بعد الاستقلال، ولكن مع البداية الصحيحة هذه المرة؛ إذ يتعين تطوير الجامعات الرائدة ومراكز البحث العلمي المتطورة، وتعزيز أنظمة التعليم العالي المتميزة في إفريقيا. لقد كانت بعض الاستجابات الوطنية على جائحة كورونا مشجِّعةً في إفريقيا؛ فقد أعلن الرئيس الغاني نانا أكوفو أدو، على سبيل المثال، عن خُطَط لبناء أكثر من 90 مستشفى لتعزيز النظام الصحي في غانا في أعقاب تفشّي المرض.