تظل علاقات أوروبا بإفريقيا وطيدة للغاية ومتعددة الأوجه استنادًا لعدة اعتبارات مثل القرب الجغرافي والتشابكات التاريخية المعقَّدة والمستدامة حتى الوقت الراهن، مضافًا لها اعتبارات مستجدة مثل تعاظم النفوذ الصيني في إفريقيا اقتصاديًّا، والروسي عسكريًّا، فيما لم ينجح الاتحاد الأوروبي في حسم مواجهة هذه التهديدات لصالحه بعدُ.
ومع تعاظم الحرب الروسية-الأوكرانية قرب بلوغها عامها الثالث واحتمالات توسُّعها جغرافيًّا وعملياتيًّا في بقاع أوروبية أخرى؛ فإنّ مواجهة أوروبا للنفوذ الصيني والروسي بات مسألة أولوية قصوى في سياسات الاتحاد الأوروبي، كما اتضح في صياغة الأخير لمبادرته “إستراتيجية البوابة العالمية” Global Gateway Strategy والتي اعتبرها مراقبون أوروبيون كثيرون البديل الأوضح لمبادرة الحزام والطريق الصينية في إفريقيا.
يتناول المقال الأول ملف الهجرة الإفريقية إلى أوروبا وتشابكاته مع سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه القارة.
بينما يتناول المقال الثاني تحسُّن بيئات العمل والتجارة البينية الإفريقية، وتأثيره المرتقب على صلة إفريقيا بأوروبا.
أما المقال الثالث فقد تناول ما سماه بالتكالب الاستعماري الثاني على إفريقيا.
ويتضح من هذه القراءات مساعي أوروبا الواضحة لإعادة فرض هيمنة “ناعمة” على القارة الإفريقية، وضمان استمرارها كفناء خلفي لسياسات القوى الأوروبية المختلفة.
لماذا تبدأ أزمة الهجرة في أوروبا من إفريقيا؟([1])
خلال العام 2023م عَبَر نحو 150 ألف مهاجر من وسط البحر المتوسط في قوارب صغير من شمال إفريقيا إلى أوروبا؛ فرارًا من الحرب والمجاعة والجائحة في بلدانهم. وعلى مدار السنوات مات الآلاف خلال قيامهم بهذه الرحلة. وفيما أثارت هذه المآسي مخاوف إنسانية فإنّ تدفُّق المهاجرين بشكل منتظم غذَّى الأحزاب القومية اليمينية المتطرفة في أرجاء العالم الديمقراطي.
وقد لمَّح أحد الأفلام الشهيرة (The March, 1990) للمخرج (ديفيد ويتلى D. Wheatly) لنتائج موجات الهجرة المارَّة من إفريقيا إلى أوروبا عبر مضيق جبل طارق، ومواجهتها برشقات كثيفة من بنادق الجنود الأوروبيين.
ومن اللافت أن أهداف التنمية الألفية كانت مصمَّمة لتفادي مثل هذه السيناريوهات؛ ففي العام 2000م التزمت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 191 دولة بخفض الفقر المدقع (الذي حدَّد مستوى المعيشة بأقل من 1.25 دولار في اليوم) إلى النصف مع حلول العام 2015م. وكان أغلب التركيز منصبًّا على إفريقيا، لا سيما إفريقيا جنوب الصحراء، التي كانت تتلقى 165 بليون دولار كمساعدات تنموية.
لكنَّ أهداف التنمية الألفية لم تتحقق إلا جزئيًّا. وقد خُفّض انتشار الفقر المدقع إلى النصف قبل الموعد المحدد، لكن ذلك يرجع بشكل كبير إلى نموّ نصيب الفرد من الناتج القومي الحقيقي في الصين بنسبة 10% سنويًّا خلال الفترة ما بين 2000- 2015م. ومع بلوغ نسبة سكان الصين من العالم 18% فإن هذا النمو خفّض رقم الفقر العالمي بصورة كبيرة.
علاوةً على ذلك؛ فإن الصين زاد نموّ دخلها الحقيقي، ليس فحسب بفضل إنتاجية اقتصادها، ولكن بفضل استقرار عدد سكانها. وعلى النقيض من ذلك، ففي إفريقيا جنوب الصحراء، فإن مالتوس Malthus لا يزال حيًّا يرزق. وفي الفترة 2000-2015م نما الناتج المحلي الإجمالي في الإقليم بمعدل سنوي نحو 5%، لكنّ سكان الإقليم زادوا من 670 مليون نسمة إلى بليون نسمة.
وقلَّص هذا التوجه نموّ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 1%، وهو معدل منخفض للغاية بعيدًا عن تحقيق خفض 50% في الفقر المدقع. ورغم انخفاض النسبة المئوية للأفارقة في فئة الفقر المدقع من 54% إلى 41% في الفترة من 1990 إلى 2015م؛ فإن عدد الفقراء بالقيمة المطلقة زاد من 278 مليون إلى 413 مليون نسمة. وقد حسَّنت بعض المخرجات المطلوبة -مثل خفض وفيات الأطفال- من فرص استمرار الفقر.
وهناك تفسيرات لفشل إفريقيا في كسر الدائرة المالتوسية Malthusian cycle، وتشمل العنف والتغيُّر المناخي والأيديولوجيا. فقد خضعت الكثير من الدول الإفريقية لنُظُم حكم عسكرية ورأسمالية عميلة حاربت للسيطرة على موارد نادرة مثل البترول والمعادن والمياه، بينما كانت الجماعات المسلحة مثل بوكو حرام والشباب تواصل نشر أنشطتها العنيفة في إقليمي الساحل والقرن الإفريقي.
ومثَّلت هذه “الحروب الجديدة” -كما تطلق عليها عالمة السياسة ماري كالدور Mary Kaldor-، قوة دافعة لتشريد أعداد كبيرة من السكان، وشهد القرن الإفريقي سنوات من الجفاف الحادّ الذي قاد إلى معاناة الملايين من المجاعة. واستجاب المجتمع الدولي وقتها بتحديد أهداف خفض فقر جديدة وأكثر غموضًا، وتم دفع الموعد الزمني المحدد لهذه الخطوات للأمام أكثر من مرة.
ويرى محللون اقتصاديون عديدون أن الدول الفقيرة تحتاج إلى المعونات الخارجية لسدّ الفجوة في مدخراتها المحلية. وأنه يمكن القضاء على الفقر المدقع عبر استثمارات مستهدفة في الصحة والتعليم والزراعة والبنية الأساسية؛ لكنَّ التمويل عند المستوى المطلوب كان قاصرًا في إفريقيا جنوب الصحراء؛ بسبب أن الدول الغنية تراجعت في الغالب عن تعهداتها بتقديم تمويل يعادل 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي من أجل تحقيق أهداف التنمية الألفية.
ويرى البعض أنه رغم أهمية المعونات فإن هذا التشخيص السابق يتجاهل أهمية الحوكمة؛ حيث يفتقر الإقليم للحكم الرشيد، ولذا فإن أيّ أموال تأتي للدول الإفريقية ستستولي عليها الجماعات العسكرية المتناحرة من أجل تمويل حروبها، كما ستنتهي القروض الخاصة الموجهة للدول بتحقيق عجز. وفيما يرى اقتصاديون أن الحوكمة سيئة؛ لأن الدول فقيرة، فإن اقتصاديين آخرين يرون العكس تمامًا. وهو الأمر الذي ينعكس تمامًا في موجات اللاجئين الفارين إلى أوروبا، وسياسات الأخيرة نحو هذه الموجات بمحاولة إبعاد المهاجرين من غير حاملي الوثائق المطلوبة عبر خليط من القوة والرشوة (مثل الدفع لسلطات بعض الدول مثل تركيا والجزر اليونانية). غير أن أوروبا لا يمكنها فصل نفسها عن إفريقيا عن طريق مثل هذه الوسائل. وإذا وقعت مجاعات ضخمة في إفريقيا على نحو لا يمكن التغلُّب عليه؛ فإن أوروبا ستعاني من موجات هجرة كبيرة من إفريقيا.
إفريقيا تُقصي أوروبا وآسيا كسوق تجارية مفضلة([2])
باتت الشركات الإفريقية تُفضّل بشكل ملموس التجارة داخل حدود الدول الإفريقية أكثر من التجارة خارجها، مثل التجارة مع آسيا والولايات المتحدة وأوروبا؛ بسبب تزايد جودة السلع المصنَّعة في إفريقيا، وانخفاض الأسعار السوقية، وسهولة الوصول لها.
ويُظهر أحدث تقرير بعنوان “إفريقيا تريد باروميتر” Africa Trade Barometer الصادر عن ستاندارد بنك Standard Bank، الذي يُغطّي عشر دول من بين 54 دولة إفريقية مُوقِّعة على اتفاق منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقيةAfrican Continental Free Trade Area Agreement (AfCFTA) ، أن 37% من الشركات تُفضّل العمل مع شركاء في الأسواق الإفريقية مقارنة بنسبة 24% في الأسواق الآسيوية و16% في السواق الأوروبية، ثم 3% في أمريكا الشمالية.
وأظهرت شركات من ناميبيا (75%)، وتنزانيا (48%)، وأنجولا (43%) أعلى نسبة في التجارة مع الدول الإفريقية مقارنةً بشركات من أكبر اقتصادات القارة مثل نيجيريا (34%)، وكينيا (34%) التي تُفضّل بشكل كبير العمل مع الأسواق الآسيوية، ولا سيما مع الصين. وكانت جودة السلع (72%) من أهم اعتبارات الشركات في توجهات تفضيلها للعمل في الأسواق الإفريقية، تلاها اعتبار أسعار السوق (51%)، والوصول للسوق (38%).
التكالب الثاني على إفريقيا: إستراتيجية البوابة العالمية للاتحاد الأوروبي([3])
ظلت سردية العلاقات بين إفريقيا وأوروبا، طوال عقود، قائمة على علاقات التبعية والمعونات؛ حيث يعيش في إفريقيا -وهي قارة بالغة التنوع- أكثر من 1.5 بليون نسمة، وتضم طبقة متوسطة هي الأكثر شبابًا والأسرع نموًّا في العالم. وبالرغم من قوة سكانها الشباب ومواردها الطبيعية الثرية؛ فإن القارة لا تزال تكافح لترسيخ مكانتها في النظام الدولي العالمي global world order، واتضح ذلك في العلاقات المتطورة بين إفريقيا وكل من الصين وروسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وقد أصبحت الصين خلال العقدين الماضيين فاعلًا اقتصاديًّا كبيرًا في إفريقيا، مما جذب اهتمامًا متزايدًا من أوروبا وبقية العالم. ومع وصول غير مسبوق لثروة إفريقيا المعدنية الكبيرة، فإن هذه القوة الآسيوية تُحقّق تفوقًا في المعاملات الاقتصادية مع القارة. وبينما أُعلن عن مبادرة ممر لوبيتو Lobito Corridor التي دعمتهما الولايات المتحدة في أكتوبر 2023م، كجهد لتقوية الشراكات الإفريقية، وسَّعت الصين مؤخرًا نفوذها بإلغاء الرسوم على السلع القادمة لها من الدول الأقل نموًّا، والتي لها صلات دبلوماسية مع الصين، وتشمل 33 دولة إفريقية.
إضافة إلى ذلك، فإن الصين، مع إطلاقها مبادرة الحزام والطريق، تمكَّنت عن طريق وضع خطة تنمية قارية في العام 2013م من توسيع نفوذها وطموحها داخل إفريقيا. وقد ارتفعت الاستثمارات الصينية في القارة مع وصول الاستثمار المباشر الخارجي إلى 5 بلايين دولار في العام 2021م. وبحلول العام 2022م شملت قائمة أهم المتلقين للاستثمارات الصينية كلاً من جنوب إفريقيا والنيجر وجمهورية الكونغو الديمقراطية ومصر وكوت ديفوار. وقاد ذلك إلى بعض الديناميات الدولية المعقدة، مع فشل اللاعبين الغربيين في تفهُّم جهود إفريقيا تنويع قائمة شركائها. ويحدو أوروبا قلق خاصّ تجاه نمو الحضور الروسي في إفريقيا. وقد زادت روسيا، التي تُعدّ أكبر مُورِّد للسلاح للقارة، من حضورها العسكري في إفريقيا، وتوصلت لاتفاقات تعاون عسكري مع 43 دولة إفريقية.
وتاريخيًّا تُوقن الولايات المتحدة وأوروبا أنهم اللاعبون الرئيسيون في علاقات إفريقيا الخارجية. ولطالما جذبت إفريقيا الاهتمام الكبير تاريخيًّا بمواردها الطبيعية ومقدراتها الاقتصادية. مما أثار على نحو مستمرّ تساؤلات حول نوايا الشركاء الدوليين وعلاقاتهم مع إفريقيا. وعلى سبيل المثال تشكّك كثيرون إزاء العلاقات الصينية الإفريقية النامية طوال العقد الماضي، بينما تساءل البعض، هل هي نوع من الاستعمار الجديد. ويُوقن مراقبون آخرون أن رغبة أوروبا الأخيرة في الانخراط في إفريقيا مدفوعة بشعور المنافسة المتصورة، وهي تنافس وسباق على النفوذ والموارد بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، والتي باتت جلية في أرجاء القارة.
علاقات الاتحاد الأوروبي مع إفريقيا
بات الاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة أكبر شركاء إفريقيا التجاريين، وأبرز مستثمر مباشر خارجي رئيس، والمقدّم الرئيس لمساعدات التنمية لإفريقيا. وتطورت هذه الدينامية في شكل شراكة إفريقية-أوروبية تحت لافتة “إستراتيجية البوابة العالمية” Global Gateway Strategy للاتحاد الأوروبي. ووصفتها “أورسولا فون دير لين”، رئيسة المفوضية الأوروبية عند إعلانها في ديسمبر 2021م، بنموذج لكيفية إمكان بناء أوروبا مزيد من الصلات القوية مع العالم، وأن إفريقيا تحل في قلب هذه الرؤية.
وبينما لم يذكر البيان الخاص بإطلاق الإستراتيجية الأوروبية نصًّا “الصين”؛ فإن أغلب المراقبين الأوروبيين يعتبرون الإستراتيجية محاولة واضحة لتقديم بديل عن مبادرة الحزام والطريق الصينية. ومن بين 300 بليون يورو مقرَّر كموازنة للإستراتيجية مِن قِبَل الاتحاد الأوروبي يتوقع تخصيص 150 بليون يورو نحو مشروعات البنية الأساسية في إفريقيا.
وبطبيعة الحال، فإن البوابة العالمية للاتحاد الأوروبي لا تعمل في الفراغ. ويرد في أجندة 2063 التي أصدرها الاتحاد الإفريقي أن مبادرات مثل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية African Continental Free Trade Area (AfCFTA)، والمنطقة الإفريقية الخالية من تأشيرات المرور، وسوق رقمية إفريقية واحدة Single African Digital Market، قد جذبت الاهتمام العالمي. وعلى نحو مُشابِه فإن صعود إفريقيا لمجموعة G20 (التي باتت الآن G21) في سبتمبر 2023م أمَّن للقارة مكانها كلاعب مُهمّ في الساحة العالمية. ولا تمثل أوروبا وإفريقيا جارين فحسب، بل إن أوروبا تحتاج إلى إفريقيا، وتحتاج إفريقيا إلى أوروبا.
ورغم أن الاتحاد الأوروبي يعمل على خدمة مصالحه؛ فإن هدف “مبادرة البوابة العالمية” GGI هو جسر الفجوة الرقمية الشاسعة في إفريقيا، ما يؤدي في النهاية إلى سهولة وصول أوروبا إلى الموارد المعدنية الإفريقية. ولا تُظْهِر أوروبا حرجًا في الاعتراف بحاجاتها المُلِحَّة لمعادن مثل النحاس والنيكل والليثيوم والكوبالت والمعادن النادرة الأخرى من إفريقيا من أجل انتقالها الطاقوي الأخضر، وإعادة التحوُّل الصناعي “الأخضر” green reindustrialization. وطبقًا لوثائق تم الحصول على نسخة منها عندما قام 19 زميلًا إعلاميًّا بالاتحاد الإفريقي بزيارة للبرلمان الأوروبي في يونيو 2024م فإنه اتضح توجيه الاتحاد الأوروبي دعمه لـ116 مشروعًا في إفريقيا وحدها من إجمالي 225 مشروعًا دعمه الاتحاد وفق هذه الإستراتيجية في العامين 2023 و2024م، وكان نصيب إفريقيا من مبادرات فريق أوروبا Team Europe Initiatives البالغ إجمالها 114 نحو 75 هدفًا.
ورغم اعتبار الاتحاد الأوروبي إفريقيا شريكًا متميزًا له أهمية إستراتيجية، فإنه ستكون هناك دائمًا مخاوف إزاء القارة متعلقة بكيفية ترجمة استثمار القطاع الخاص إلى مكاسب ملموسة للأفارقة. وعلى سبيل المثال، ورغم الاهتمام العالمي بالتعدين في جمهورية الكونغو الديمقراطية، فإن ذلك لم يُؤَدِّ إلى تحسينات ملموسة في الدولة الإفريقية. وبدلًا من ذلك فإن هذا الاهتمام قاد البلاد إلى صراع مرير مع تكالب العالم على مواردها الطبيعية.
وهكذا فإنه فيما تقدم إستراتيجية البوابة العالمية إمكانات لا يمكن إنكارها للنمو الاقتصادي الإفريقي؛ فإن السؤال المُلِحّ هو كيفية ضمان حماية إفريقيا في هذه الشراكة الجديدة.
……………………………………
[1] Robert Skidelsky, Why Europe’s Migration Crisis Starts in Africa, Social Europe, November 18, 2024 https://www.socialeurope.eu/why-europes-migration-crisis-starts-in-africa
[2] Africa topples Asia, Europe as Africa’s preferred trade market, The Independent, November 18, 2024 https://www.independent.co.ug/africa-topples-asia-europe-us-as-africas-preferred-trade-market/
[3] Zita Zage, The second scramble for Africa: The EU’s Global Gateway Strategy, Global Voices, November 20, 2024 https://globalvoices.org/2024/11/20/the-second-scramble-for-africa-the-eus-global-gateway-strategy/