مقدمة:
“نبض إفريقيا” هو تقرير نصف سنوي يُصدره مكتب كبير الاقتصاديين لمنطقة إفريقيا في البنك الدولي، والذي يُحلِّل الآفاق الاقتصادية قصيرة الأجل للقارة، ويتناول تحديات التنمية الحالية.
الإصدار الثلاثين من هذا التقرير -الذي صدر في 14 أكتوبر 2024م- يحمل عنوان “إحداث تحوُّل في التعليم من أجل النمو الشامل”.([1]) ويؤكد هذا الإصدار على عاملين حاسمين مطلوبين لتحفيز النمو الشامل في إفريقيا جنوب الصحراء: استقرار الاقتصادات، وتحويل التعليم لتزويد القوى العاملة المتزايدة في المنطقة بمهارات أساسية قوية وخبرة ذات صلة بالسوق.
ويتوقع التقرير أن ينمو النشاط الاقتصادي في المنطقة بنسبة 3٪ في عام 2024م، وهو تحسّن عن النمو بنسبة 2.4٪ في عام 2023م. ويعود هذا النمو إلى حد كبير إلى زيادة الاستهلاك والاستثمار الخاص. بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن ينخفض التضخم من 7.1% في عام 2023م إلى 4.8% في عام 2024م، بمساعدة سياسات نقدية ومالية أكثر صرامة وعملات أكثر استقرارًا وانقطاعات أقل في سلاسل التوريد.
ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه المؤشرات الإيجابية، يظل النمو غير كافٍ للحدّ بشكل كبير من الفقر، أو العودة إلى المستويات الاقتصادية قبل تفشي جائحة كوفيد-19.
ويُسلّط التقرير الضوء أيضًا على أهمية التعليم كمُحرّك أساسي للتنمية. ويؤكد أن الاستثمار في أنظمة التعليم يُحقّق عوائد كبيرة ومتسقة من حيث الدخل، وهو أمر حيوي لضمان المساواة والإدماج.
ويؤكد التقرير أنه من خلال تحويل وتطوير التعليم، يمكن للمنطقة تطوير رأس المال البشري اللازم لإنهاء الفقر المدقع، وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام.
وسوف يتم قراءة محتويات التقرير من خلال المحاور التالية:
- المحور الأول: توقعات النمو في إفريقيا جنوب الصحراء والمخاطر التي تهدّد تلك التوقعات.
- المحور الثاني: الأداء الاقتصادي الكلي لإفريقيا جنوب الصحراء.
- المحور الثالث: إحداث تحوُّل في التعليم لتحقيق النمو الشامل.
المحور الأول
توقعات النمو في إفريقيا جنوب الصحراء والمخاطر التي تهدد تلك التوقعات
أولًا: توقُّعات النمو في إفريقيا جنوب الصحراء
بدأ النشاط الاقتصادي في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء يتعافى في عام 2024م، وبالكاد يصل إلى مستويات ما قبل الجائحة، ومن المقرَّر أن ينتعش النمو في القارة من 2.4% في عام 2023م إلى 3% خلال العام الجاري 2024م، ويصل إلى متوسط 4% في 2025-2026م. ومع تباطؤ التضخم في معظم بلدان المنطقة، يبدو أن التحسن في الاستهلاك والاستثمار الخاصين يقود الانتعاش في العام الجاري 2024م. كما يدعم النمو المرن في الولايات المتحدة، والتعافي التجاري العالمي، والتخفيف التدريجي للظروف المالية العالمية -وخاصةً في النصف الثاني من هذا العام- النمو في المنطقة.
ومن المتوقع أن يبلغ النمو العالمي 2.6% هذا العام، ثابتًا لأول مرة منذ ثلاث سنوات. ومن المتوقع أن يصل إلى وتيرة أسرع في عام 2024م مما كان متوقعًا سابقًا بسبب التوسُّع القويّ المستمر للاقتصاد الأمريكي.
ومن المتوقع كذلك أن يظل النمو الكلي في الاقتصادات المتقدمة عند 1.5 في المائة في عام 2024م، مع تباين النشاط بين الاقتصادات الرئيسية. وفي عام 2025م، من المتوقع أن يصبح التباين في أداء النمو عبر الاقتصادات الكبرى أقل وضوحًا؛ نظرًا للتباطؤ المتوقع في الولايات المتحدة، وتقوية النمو في منطقة اليورو.
كما يتوقع الخبراء أن ينخفض النمو في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية من 4.2% في عام 2023م إلى 4% في عام 2024م، وأن يظل مستقرًّا على نطاق واسع خلال الفترة 2025-2026م، وهو ما يقترب من تقديرات النمو المحتمل في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية في عشرينيات القرن الحادي والعشرين. وباستثناء الصين، من المتوقع أن يرتفع نمو الاقتصادات الناشئة والنامية إلى 3.5% هذا العام، ثم يتحسن إلى متوسط 3.9% في الفترة 2025-2026م.
وقد تم تخفيض توقعات النمو لمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء في عامي 2023م و2024م بمقدار 0.2 و0.4 نقطة مئوية على التوالي، من التوقعات الواردة في عدد أبريل 2024م من تقرير “نبض إفريقيا”؛ حيث تم تخفيض تقديرات النمو لعام 2024م لنحو نصف بلدان المنطقة (23 من 47). وتستمر البلدان الكبيرة في إبطاء النمو، وأبرزها السودان. وتشير توقعات النمو للسودان إلى انهيار النشاط الاقتصادي بنسبة 20% في عام 2023م، و15% في عام 2024م؛ نتيجة للتأثير الاقتصادي للحرب. ويبدو أن النمو في المنطقة سيكون أقوى إذا تم استبعاد السودان، ومِن ثَم يكون النمو المتوقع في المنطقة 3.5% في عام 2024م، وهو تخفيض بنسبة 0.1 نقطة مئوية من العدد السابق من التقرير.
شكل (1) توقعات النمو لعام 2024م لمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء
وعلى الرغم من التعافي الفاتر في عام 2024م، فمن المتوقع أن يتسارع نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لـ27 دولة في المنطقة، وتسجل ثمانية من هذه الدول نموًّا يزيد عن 5٪، ولا سيما ساحل العاج (6.5٪)، وأوغندا (6٪)، وتنزانيا (5.4٪)، من بين دول أخرى.
ومن المتوقع أن تختلف وتيرة التعافي عبر المناطق الفرعية في عام 2024م. ومن المتوقع كذلك أن يتسارع النمو فيما يقرب من 60% من بلدان المنطقة (27 من 47) في عام 2024م. ويبلغ متوسط تسارع النمو لهذه البلدان السبعة والعشرين 0.5 نقطة مئوية، مع تسارع النمو الاقتصادي في بعض البلدان بوتيرة أسرع بما في ذلك النيجر (3.6 نقطة مئوية)، وأنغولا (2.2 نقطة مئوية). ومع ذلك، لا يزال التعافي ضعيفًا، ولا تزال معظم بلدان المنطقة غير قادرة على النمو بوتيرة أسرع مما كانت عليه في الفترة 2000-2019م.
وبالنسبة لهذه البلدان ذات الأداء الضعيف، فإن النمو في عام 2024م أقل بنحو نقطتين مئويتين؛ مقارنة بالعقدين الأولين من هذا القرن، وفي ست دول، فإن النمو أقل بأكثر من 3 نقاط مئوية. ومن المقرر أن ينتعش النشاط الاقتصادي في منطقة شرق وجنوب إفريقيا الفرعية من 1.7٪ في عام 2023م إلى 2.2٪ في عام 2024م، ويتسارع أكثر إلى 3.9٪ في 2025-2026م. وتواصل أنغولا وجنوب إفريقيا خفض الأداء الاقتصادي للمنطقة الفرعية. وباستثناء أنغولا وجنوب إفريقيا، من المتوقع أن تنمو منطقة شرق وجنوب إفريقيا الفرعية بنسبة 2.6٪ في عام 2024م، و5.3٪ في 2025-2026م. وكان تجمُّع شرق إفريقيا هو الأفضل أداءً في المنطقة الفرعية، بمعدل نمو 4.7٪ في عام 2024م، ومعدل متوقع 5.7٪ في 2025-2026م. وكانت كينيا ورواندا وتنزانيا وأوغندا من أكبر المساهمين في نسبة النمو في مجتمع شرق إفريقيا.
وبمقارنة آفاق النمو قبل الجائحة (2016-2019م) مقابل ما بعد الجائحة (2022-2025م)؛ سجَّل ما يقرب من 40% من البلدان (19 من 47) نموًّا إيجابيًّا للفرد في الفترة 2016-2019م، والفترة 2022-2025م، وتفوَّقت على أدائها قبل الجائحة. عشرة من هذه البلدان لديها معدلات نموّ سنوية متوسطة للفرد تتجاوز 3% سنويًّا في الفترة 2022-2025م، ولا سيما بنين وكينيا وموريتانيا وموريشيوس ورواندا، وغيرها. وتعد الإصلاحات الهيكلية والاستثمارات العامة في البنية التحتية من بين المحركات الرئيسية لتحسين أدائها.
ومن المقرَّر أن يتسارع نموّ نصيب الفرد إلى 0.5% في عام 2024م، ومتوسط 1.5% في 2025-2026م. وتشير التوقعات الإقليمية لدخل الفرد إلى أن المنطقة ستكون قادرة على تجاوز مستواها قبل الجائحة في عام 2026م، ولكن من المتوقع أن يكون دخل الفرد الحقيقي عام 2026م أعلى بنسبة 2٪ من مستواه في عام 2019م. مقابل 30% في شرق آسيا والمحيط الهادئ وجنوب آسيا.
شهدت بلدان أخرى نموًّا في دخل الفرد في كلتا الفترتين، لكنّ نموّها بعد الجائحة ليس بنفس سرعة نموّ الفترة التي سبقتها. ويشترك حوالي ربع البلدان (11 من 47) في هذه الميزة. ولا يزال بلدان في هذه المجموعة يُظهران نموًّا مرتفعًا للفرد (فوق 3.5% سنويًّا) في الفترة 2022-2025م، وهما ساحل العاج وإثيوبيا. وفي بلدان أخرى، يتباطأ النمو للفرد الواحد بأكثر من نقطتين مئويتين في الفترة 2022-2025م (غانا وغينيا). وأخيرًا، يظل مستوى النموّ للفرد الواحد في أكبر بلدان المنطقة -نيجيريا وجنوب إفريقيا- أقل من 1% سنويًّا، على الرغم من إظهار تحسن طفيف مقارنةً بفترة ما قبل الجائحة.
وعلى الرغم من أنه من المقرر أن يتعافى نشاط الأعمال في عام 2024م، تشير مؤشراته إلى أن التعافي لا يزال فاترًا. وتُظهر المؤشرات في المجمل، توسُّع النشاط في التصنيع والخدمات خلال الربع الأول من هذا العام. ومع ذلك، خفَّ الزخم الإيجابي وانخفض خلال شهري يونيو ويوليو، على الرغم من تعافيه قليلًا في أغسطس. وظل مؤشر مديري المشتريات العالمي في جنوب إفريقيا S&P أقل من علامة 50 نقطة، مما يشير إلى انخفاض متواضع في أداء القطاع الخاص في يونيو ويوليو. ويُعْزَى ضعف الأداء إلى انخفاض الإنتاج والأعمال الجديدة بسبب ضعف المبيعات وارتفاع ضغوط جانب العرض. وقد نتج هذا عن الازدحام في الموانئ المحلية والدولية، مما أدى أيضًا إلى اضطراب جداول التسليم. ومع ذلك، فإن انخفاض الضغوط التضخمية والتطبيع التدريجي لإمدادات الكهرباء يساعدان في استقرار الطلب والنشاط. وفي الربع الثاني من عام 2024م، نما الناتج المحلي الإجمالي لجنوب إفريقيا بنسبة 0.4% على أساس ربع سنوي بعد الركود في الربع الأول. وأدَّى تخفيف الضغوط التضخمية إلى زيادة الاستهلاك الخاص والعام (1.4 و1% على أساس ربع سنوي، على التوالي). وإن انخفاض حالة عدم اليقين بشأن السياسات، والانخفاض الحاد في انقطاع التيار الكهربائي، وتوقعات المزيد من تخفيضات أسعار الفائدة للسياسة النقدية؛ من شأن كل ذلك أن يخلق زخمًا في النشاط الاقتصادي خلال الفترات القادمة.
وفي نيجيريا، انخفض مؤشر مديري المشتريات لبنك Stanbic IBTC إلى ما دون عتبة 50 نقطة في يوليو 2024م، مما يشير إلى انكماش في نشاط الأعمال في القطاع الخاص، واستمر هذا الانخفاض في أغسطس 2024م. ويبدو أن انخفاض الطلب من العملاء (بالإضافة إلى انخفاض الطلبات الجديدة) كان سببًا في هذه النتيجة. وتستمر تكاليف المدخلات في الارتفاع، في حين تتباطأ زيادات أسعار الناتج. ظلت ظروف الأعمال الخاصة راكدة على نطاق واسع في يوليو. انتعش نموّ الناتج في نيجيريا في الربع الثاني من عام 2024م (3% على أساس سنوي)؛ حيث زاد إنتاج النفط بنسبة 15.6% على أساس سنوي إلى 1.41 مليون برميل يوميًّا. ولم يسجل القطاع غير النفطي سوى نمو بنسبة 2.8%. وبلغ التضخم الرئيسي ذروته في يونيو، لكنه قد يرتفع مرة أخرى مع تحرك الحكومة نحو تحرير سعر البنزين، والذي بدأ في مايو 2023م بمضاعفة أسعار البنزين ثلاث مرات في البداية، مما أدى إلى زيادة أخرى بنسبة 40-45% في أسعاره البنزين في سبتمبر 2024م.
وفي كينيا، تحسنت معنويات الأعمال في أغسطس 2024م، مع بدء تراجع تأثير الاحتجاجات المناهضة للحكومة. ومع بدء الشركات في العمل بشكل طبيعي، زاد الإنتاج بشكل معتدل. وبعد احتجاجات يونيو ويوليو سحبت الحكومة مقترحات لزيادة الضرائب بعد أن بلغ أدنى مستوياته في عام 2023م، ومن المقرر أن يتعافى النمو خلال أواخر العام الجاري 2024م.
ومن ناحية الإنفاق، يُفسَّر التعافي في النشاط الاقتصادي هذا العام في الغالب من خلال انتعاش الاستهلاك والاستثمار الخاصين. ومن المقرر أن يتسارع الاستهلاك الخاص في عام 2024م مع تخفيف الضغوط التضخمية في غالبية بلدان المنطقة، وبالتالي تعزيز القدرة الشرائية.
كما زادت مساهمة الاستثمار مع قيام بلدان المنطقة بإيجاد مساحة لخفض أسعار الفائدة الحالية والمستقبلية. ومع استمرار تراجع الضغوط التضخمية وثبات التوقعات، مع تبني البنوك المركزية موقفًا أكثر تيسيرًا في السياسة النقدية، وبالتالي تعزيز الاستهلاك والاستثمار الخاصين طوال العام المقبل.
ومن المتوقع أن يُسهم الاستهلاك الحكومي بشكل متواضع في الفترة 2024-2025م؛ حيث يواصل صُنّاع السياسات المالية طرح التدابير لتعزيز تحصيل الإيرادات، ومعالجة تكاليف خدمة الديون المرتفعة.
ومن ناحية الإنتاج، يُعزى أكثر من نصف الانتعاش في النشاط الاقتصادي إلى زيادة الخدمات، مع استمرار تعافي السياحة، وتسهيل الاستثمارات في مشاريع البنية الأساسية الرئيسية، بما في ذلك النقل والاتصالات والطاقة (المتجددة) والخدمات. ولا تُعزَى المساهمة المتواضعة للزراعة في الفترة 2023م-2024م إلى التحديات الهيكلية التي يواجهها القطاع فحسب، بل وأيضًا إلى الصدمات المناخية التي لا تزال تعصف ببلدان المنطقة.
ومن منظور قطاعي، فإن التعافي في الزراعة والسياحة يدعم النشاط الاقتصادي. في منطقة غرب ووسط إفريقيا الفرعية، ومن المتوقع أن يزيد النشاط الاقتصادي من 3.3٪ في عام 2023م إلى 3.9٪ في عام 2024م، ويتسارع أكثر إلى 4.2٪ في 2025-2026.
باستثناء نيجيريا، من المتوقع أن تنمو منطقة غرب ووسط إفريقيا الفرعية بوتيرة أسرع -أي 4.8٪ في عام 2024م و5.1٪ في 2025-2026م. ومن المتوقع أن ينمو الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا (WAEMU) بنسبة 5.7٪ في عام 2024م، و6.2٪ في 2025-2026م. ويدعم النمو القوي في بنين وكوت ديفوار والنيجر أداء الاتحاد. ومن المتوقع أن يبلغ النمو الاقتصادي في نيجيريا 3.3% في عام 2024م، و3.6% في عامي 2025-2026م، مع بدء الإصلاحات الاقتصادية الكلية والمالية في تحقيق نتائج تدريجية. وبلغ التضخم ذروته في يونيو 2024م (34.2% على أساس سنوي)، ثم تباطأ إلى 33.4% في يوليو، ثم إلى 32.2% في أغسطس.
وفي حين بدا أن التأثيرات التضخمية الناجمة عن ضعف قيمة النيرة النيجيرية في الأشهر الأولى من هذا العام، ورفع أسعار البنزين في النصف الثاني من عام 2023م، بدأت تتراجع تدريجيًّا، فإن زيادة أخرى في أسعار البنزين بنسبة 40-45% في سبتمبر من العام الجاري عكست الاتجاه الانكماشي. ومن المتوقع أن يدعم تعزيز الإصلاحات الاقتصادية الكلية ارتفاع النمو في البلاد في عام 2025م.
وعلى خلفية الاستهلاك الخاص القوي وتعميق رأس المال، من المتوقع أن يبلغ النمو في ساحل العاج 6.5% في عام 2024م، وأن يظل ثابتًا عند 6.6% في عام 2026م. ومن المتوقع أن يؤدي الاستثمار في البنية التحتية -وخاصة في القطاعين الرقمي والنقل-، إلى جانب استغلال الاكتشافات النفطية الأخيرة والسياسات الاقتصادية الكلية الحكيمة إلى تحسين ثقة المستثمرين وتعزيز آفاق النمو.
ثانيًا: المخاطر التي تهدد التوقعات
-المخاطر السلبية:
لا تزال المخاطر التي تهدّد توقعات النمو في المنطقة تميل إلى الجانب السلبي، وقد تلحق التوترات الجيوسياسية المتزايدة الضرر بالنشاط الاقتصادي العالمي؛ وعلى وجه الخصوص، قد يؤدي تعطل إمدادات النفط العالمية بسبب الصراعات إلى دفع أسعار النفط إلى الارتفاع بشكل ملحوظ وتقويض عملية انكماش الأسعار.
وقد تؤثر حالة عدم اليقين المتزايدة بشأن السياسة التجارية وانتشار القيود التجارية على آفاق التجارة والنشاط الاقتصادي. وعلاوة على ذلك، إذا ظهرت المزيد من التأخيرات في عملية انكماش الأسعار، فقد يتم تأجيل خفض أسعار الفائدة. وعلاوة على ذلك، فإن النمو الأضعف من المتوقع في الصين -والذي قد يكون ناجمًا، على سبيل المثال، عن تباطؤ أطول وأعمق في قطاع العقارات- قد يُخلّف آثارًا سلبية ملحوظة، وخاصةً بالنسبة لمُصدِّري السلع الأساسية في إفريقيا. وقد تؤدي الكوارث الطبيعية الشديدة المرتبطة بتغيُّر المناخ إلى خسائر كبيرة في الأرواح وسبل العيش والإنتاج.
ومع ذلك، فإن المخاطر الإيجابية التي تُهدّد آفاق النمو في الأمد القريب في المنطقة ممكنة أيضًا إذا انخفض التضخم بشكل أسرع من المتوقع، وذلك بفضل مكاسب الإنتاجية. ويمثل التحول الأخضر فرصة في الأمد المتوسط لتحقيق الوصول الشامل إلى الطاقة؛ من خلال انخفاض تكلفة الطاقة المتجددة.
-المخاطر الإيجابية:
قد يستمر الانكماش العالمي بوتيرة أسرع من المتوقع حاليًّا، بمساعدة نموّ أقوى للإنتاجية. على سبيل المثال، قد يكون هذا مدفوعًا بالتبني السريع للتكنولوجيات الجديدة، مما يُمكِّن الاقتصادات المتقدمة من توسيع المكاسب الأخيرة واقتصادات الأسواق الناشئة والنامية من تعويض خسائر الإنتاجية بعد الوباء.
ومن شأن الانكماش العالمي الأسرع أن يسمح للبنوك المركزية بخفض أسعار الفائدة أكثر مما كان متوقعًا، وبالتالي دعم النمو. ومن المخاطر الإيجابية الأخرى أن يكون النموّ في الولايات المتحدة أعلى من المتوقع بسبب استمرار ديناميكيات العرض القوية للعمالة، مدعومًا بارتفاع مشاركة القوى العاملة واستيعاب المهاجرين في سنّ العمل.
كما تتمتع إفريقيا بموارد متجددة وفيرة، من الطاقة الشمسية في الصحراء الكبرى؛ إضافةً إلى طاقة الرياح عبر المناطق الساحلية؛ وإلى الطاقة الكهرومائية على طول نهر النيل والكونغو وزامبيزي؛ إلى الطاقة الحرارية الأرضية حول منطقة وادي الصدع. وقد انخفضت تكاليف تحويل هذه الموارد المتجددة إلى طاقة بشكل حاد بفضل التحول الأخضر، ولا سيما أن التكلفة المستوية لتكنولوجيا الطاقة الشمسية الكهروضوئية قد انخفضت بنحو 90% من عام 2010 إلى عام 2022م، إلى مستوى أقل من تكلفة الوقود الأحفوري مثل الفحم. كما تقدم الطاقة المتجددة حلولًا خارج الشبكة للمناطق الريفية والنائية.
وفي الوقت نفسه، يزيد التحوّل الأخضر من الطلب على مختلف الموارد المعدنية والمعادن الموجودة في المنطقة، مما يدفع التعدين والأنشطة المرتبطة به للنموّ. وقد أحرزت بعض البلدان الإفريقية تقدُّمًا نحو إضافة المزيد من القيمة إلى مواردها المعدنية، مثل تطوير تصنيع البطاريات في جنوب إفريقيا، ومعالجة النحاس والكوبالت في زامبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، مع نتائج متقاربة، ولكن هناك إمكانات كبيرة لكسب مزيد من الاستفادة من قيمة الموارد المعدنية. وبالنسبة لمنطقةٍ تتخلف في تحقيق الوصول الشامل إلى الطاقة، فإن التحول الأخضر يُوفّر فرصًا لتجاوز الطاقة الملوثة وبناء نظام طاقة مستدام.
المحور الثاني
الأداء الاقتصادي الكلي لإفريقيا جنوب الصحراء
أولًا: التضخم
يقترب التضخم العام من الهدف بالنسبة لمعظم بلدان المنطقة، ومن المتوقع أن يبلغ متوسط معدل التضخم في المنطقة 4.8% في عام 2024م، منخفضًا من 7.1% في عام 2023م. ومن المتوقع أيضًا أن ينخفض أكثر إلى 4.6% في عام 2025م، و4.5% في عام 2026م. ويمكن أن يُعزَى انخفاض التضخم إلى آثار تشديد السياسة النقدية والتعزيز، فضلًا عن الانخفاض المطرد في أسعار السلع الأساسية من أعلى مستوياتها في عام 2022م. ومع تباطؤ معدلات التضخم واسع النطاق يُتوقع أن تشهد نحو 70% من بلدان المنطقة معدلات تضخم أقل في عام 2024م (مقارنة بالعام السابق)، وسترتفع هذه النسبة إلى 80% في عام 2025م.
ومع ذلك، من المتوقع أن تكون معدلات التضخم أعلى مما كانت عليه في فترة ما قبل الجائحة بالنسبة لنحو 70% من بلدان المنطقة. ومن المتوقع أيضًا أن يبلغ التضخم بين مُصدّري المعادن 8% في عام 2024م و6.4% في عام 2025م، في حين من المتوقع أن يبلغ التضخم بين مُصدّري النفط 6.5% في عام 2024م و3.3% في عام 2025م. وتشير البيانات إلى أن البنوك المركزية في المنطقة أحرزت تقدمًا كبيرًا في مكافحة التضخم. من أعلى معدل متوسط له بلغ 9.9% على أساس سنوي في أكتوبر 2022م، تباطأ التضخم بشكلٍ حادّ إلى 4.6% بحلول يونيو 2024م.
شكل (2) توقعات التضخم في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء
وتشمل العوامل التي تدفع التضخم الصدمات الخارجية (اضطرابات سلسلة التوريد العالمية)، والصدمات الداخلية (مثل اختلال التوازن الاقتصادي الكلي، والهشاشة وآثار الديون، وغيرها). ولا تؤدي هذه الصدمات إلى خلق ضغوط تضخمية فحسب، بل إنها تُعرّض استقرار أسعار الصرف للخطر أيضًا. وفي الوقت نفسه، يظل التضخم الغذائي مرتفعًا ومتقلبًا بعض الشيء، في حين ضعفت العملات بشكل حادّ بين البلدان التي تعاني من معدلات تضخُّم مرتفعة.
وبحلول يونيو 2024م، بلغ التضخم الغذائي 5.4%، وهو أعلى من مؤشر أسعار المستهلك في نفس الشهر (4.1%). ومع ذلك، لا يزال تباين معدلات التضخم عبر البلدان مرتفعًا؛ حيث يبلغ متوسط النطاق الربعي المتوسط لهذا العام 14 نقطة. وعلى الرغم من التباطؤ من ذروتها في أواخر عام 2022م؛ فلا تزال أسعار المواد الغذائية الحالية أعلى مقارنة بمستويات ما قبل كوفيد-19 في المنطقة.
وفي عام 2023م، سجَّلت الغالبية العظمى من بلدان المنطقة تضخمًا غذائيًّا مكونًا من رقمين. ولا تزال الأحداث الجوية المعاكسة التي تُعطّل إمدادات الغذاء (مثل: الفيضانات في شرق إفريقيا، والجفاف في جنوب إفريقيا، فضلًا عن الطقس الحارّ والجاف في غرب إفريقيا)، والتكلفة المرتفعة لواردات الغذاء بالعملات المحلية (نتيجة لانخفاض سعر الصرف)، وتكاليف الخدمات اللوجستية المرتفعة في الخارج (تكاليف الشحن الأعلى)، وفي الداخل (تكلفة النقل المرتفعة وارتفاع أسعار الأسمدة) تفسّر ديناميكيات التضخم الغذائي.
ثانيًا: أداء العملات
يبدو أن العملات الإفريقية التي كانت مستقرة، مع بعض الاستثناءات، أدَّت الظروف المالية الأكثر صرامة والدولار القوي، بالإضافة إلى إصلاحات سوق الصرف الأجنبي إلى إضعاف معظم العملات في المنطقة عام 2023م. وكانت الكوانزا الأنغولية، والكواشا الملاوية، والنيرة النيجيرية، والجنيه الجنوب سوداني، والكواشا الزامبية، العملات الأسوأ أداءً في المنطقة في ذلك العام. وعلى نطاق أوسع، نتج إضعاف معظم العملات الإفريقية عن نقص النقد الأجنبي، مع ضعف عائدات التصدير وزيادة مدفوعات الديون الدولية.
وبحلول نهاية أغسطس 2024م، كان البير الإثيوبي والنيرة النيجيرية والجنيه الجنوب سوداني من بين العملات الأسوأ أداءً في المنطقة. واستمرت النيرة النيجيرية في فقدان قيمتها، مع انخفاض قيمتها منذ بداية العام بنحو 43% حتى نهاية أغسطس. وتُفسِّر الزيادة في الطلب على الدولار في السوق الموازية، والتي تقودها المؤسسات المالية ومديرو الأموال والمستخدمون النهائيون غير الماليين، إلى جانب التدفقات المحدودة للدولار وبطء صرف النقد الأجنبي لمكاتب صرف العملات مِن قِبَل البنك المركزي.
وبحلول نهاية يوليو 2024م، تعهَّد البنك المركزي الإثيوبي بتشغيل سعر صرف قائم على السوق مع تدخُّل محدود في سوق النقد الأجنبي في المستقبل. وانخفض البر الإثيوبي بنحو 30% بعد الإعلان، ومن المرجَّح أن يكون لذلك آثار تضخمية. وقد أعقب القرار حصول إثيوبيا على تمويل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
وفي المقابل، استقرت أو تعززت بعض العملات التي ضعفت في عام 2023م خلال العام الجاري. ويُعد الشلن الكيني هو العملة الأفضل أداءً في المنطقة هذا العام؛ فقد ارتفعت قيمته بنسبة 21% حتى الآن بحلول نهاية أغسطس 2024م. كما تعزَّزت قيمة الراند الجنوب إفريقي والعملات المرتبطة به بنسبة 3.1% حتى الآن هذا العام، بعد أن فقدت بعض قيمتها خلال العام الماضي.
وعلى الرغم من حقيقة أن معظم العملات تستقر، إلا أن ضغوط أسعار الصرف ونقص النقد الأجنبي لا تزال تُشكّل مصدر قلق لصُنّاع السياسات.
ومن ضمن عينة تشمل 30 دولة واتحادين نقديين (الجماعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا، والاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا)، يُتوقع أن يكون لدى أكثر من ثلث البلدان في المنطقة احتياطيات دولية تقل عن ثلاثة أشهر من الواردات بحلول نهاية عام 2024م.
ومع اختلاف آفاق التضخم عبر البلدان؛ فهناك اختلافات في سرعة التقارب مع أهداف التضخم عبر البلدان في المنطقة. وتشير البيانات إلى أن معدل التضخم في حوالي سبعة من كل 10 بلدان في المنطقة يستقر عند مستويات أحادية الرقم، في حين لا يزال معدل تضخُّم لدى بقية البلدان بعيدًا عن الهدف، وفي بعض الحالات، لم يصل إلى ذروته بعدُ.
خلال النصف الثاني من هذا العام، تقرّر البنوك المركزية الإفريقية ما إذا كانت ستنضمّ إلى موجة التيسير العالمي أو تحافظ على موقف التشديد النقدي. إنهم يراقبون عن كثب التضخم واتجاهات العملة وسيتصرفون بحذر نظرًا للمخاطر المحلية والعالمية المحتملة للتضخم. في أغسطس 2024م، بدأت السلطات النقدية في كينيا وموزمبيق وناميبيا وأوغندا دورة التيسير النقدي. وفي حالة كينيا وأوغندا، خفَّضت السلطات النقدية أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس مع انخفاض التضخم إلى المستوى المستهدف، وظلت عملاتهما مستقرة أو قوية، وذلك بفضل الصادرات والتحويلات المالية الأقوى. خفض بنك الاحتياطي في جنوب إفريقيا سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس مع ترسيخ توقعات التضخم تدريجيًّا حول منتصف النطاق المستهدَف. أصبح بنك موزمبيق أول بنك في المنطقة يُخفّض سعر الفائدة الرئيسي: انخفض سعر السياسة النقدية بمقدار 300 نقطة أساس حتى الآن هذا العام؛ نتيجة لتخفيضات قدرها 75 نقطة أساس في أربعة اجتماعات متتالية للسياسة النقدية. وسوف تعتمد وتيرة وحجم التعديلات التي ستُجريها هذه البنوك المركزية على توقعات التضخم ومعايرة المخاطر وعدم اليقين فيما يتصل بآفاق التضخم في الأمد المتوسط.
ويستمر توقُّف تشديد السياسة النقدية في إسواتيني وليسوتو وزامبيا، وكذلك في البلدان الأعضاء في بنك دول وسط إفريقيا والبنك المركزي لدول غرب إفريقيا. وتحافظ هذه البنوك المركزية حتى الآن على أسعار الفائدة مرتفعة لترسيخ توقعات التضخم على النحو اللائق، وتأمين مسار أكثر سلاسة نحو أهداف التضخم.
ثالثًا: المالية العامة
تستمر الأرصدة المالية في التحسن في مختلف بلدان المنطقة، وذلك بفضل سياسات خفض الإنفاق وزيادة الإيرادات، على الرغم من تباطؤ الوتيرة. وفي ظل الحيّز المالي المحدود والوصول المحدود إلى الاقتراض الخارجي، تشارك معظم حكومات دول جنوب الصحراء في تعزيز المالية العامة لتحقيق استدامة القطاع العام. وتشمل بعض الجهود الناجحة تحسين الرقابة الإدارية على برامج الإنفاق، والقضاء على “العمال الأشباح” من كشوف المرتبات، وتنفيذ تدابير إدارة الضرائب والامتثال وإصلاحات معدلات الضرائب، وترشيد الحوافز الحكومية وإعفاءات ضريبة القيمة المضافة، وإصلاح الإعانات، وإعادة تحديد أولويات الإنفاق العام نحو البرامج ذات النمو المرتفع ومضاعفات الوظائف.
ومن المتوقع أن ينخفض العجز المالي المتوسط في المنطقة من 3.9% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023م إلى 3.3% في عام 2024م. ومن المقرر أن ينخفض أكثر إلى 2.9% في الفترة 2025-2026م. ومن المتوقع أيضًا أن تتحسن الموازنات المالية لغالبية بلدان المنطقة (29 من 47) هذا العام. وسوف تعاني عشر دول من الدول التي تحسَّنت حساباتها المالية في عام 2024م من عجز أضيق (أقل من 3% من الناتج المحلي الإجمالي)، أو ستتحول إلى فائض.
وبشكل عام، لا يزال خفض الاختلالات المالية بطيئًا؛ حيث انخفض عدد الدول التي تعاني من عجز كبير (يتجاوز 3% من الناتج المحلي الإجمالي) بشكل متواضع، من ذروة بلغت 34 دولة في عام 2022م إلى 27 دولة في عام 2024م. ومن المتوقع أن ينخفض العجز المالي بين الدول غير الغنية بالموارد بمقدار 0.6% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 3.6% في عام 2024م. ومن بين الدول الغنية بالموارد، يبدو أن تطور الأرصدة المالية قد تباعد منذ عام 2022م.
على سبيل المثال، تحوَّل الفائض المالي في الدول الغنية بالنفط من فائض بنسبة 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022م إلى عجز بنسبة 0.2% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024م؛ حيث انخفضت أسعار النفط العالمية من أعلى مستوياتها في منتصف عام 2022م، ولكن تظل متقلبة وتتأرجح حول 80 دولارًا أمريكيًّا للبرميل في عام 2024م. وعلى النقيض من ذلك، من المتوقع أن ينخفض العجز المالي في الدول المُصدّرة للمعادن من 3.6٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023م إلى 3.3٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024م.
شكل (3) العجز والفائض في الميزانية كنسبة من الناتج المحلي
ويرجع التحسُّن في الأرصدة المالية الإجمالية في المنطقة بشكل أساسي إلى تضييق الأرصدة الأساسية. وبشكلٍ عامّ، كانت الجهود المبذولة في جميع أنحاء المنطقة لمعالجة الاختلالات المالية كبيرة؛ فبعد نشر الإنفاق الحكومي والتخلي عن الإيرادات أثناء الوباء، انخفض العجز الإجمالي في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى من 6.3٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020م إلى 4٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024م، وهو انخفاض تراكمي يزيد عن 2 نقطة مئوية. وعلاوة على ذلك، تقلص العجز الأولي من 3.6٪ في عام 2020م إلى 1٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024م.
ومن بين 47 دولة في المنطقة، ارتفع عدد الدول التي تعاني من عجز أولي ضيق من 22 دولة في عام 2022م إلى 38 دولة في عام 2024م. وفي حين تقلص العجز الأولي بين الدول غير الغنية بالموارد من 3.9% في عام 2022م إلى 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024م، انخفض الفائض الأولي للدول الغنية بالنفط بنحو 4.8 نقطة مئوية خلال نفس الفترة إلى 1.9% في عام 2024م. وعلى النقيض زادت خدمة الدَّيْن الإجمالية في المنطقة بشكل مطَّرد بسبب ضغوط السيولة الناشئة عن زيادة مدفوعات الفائدة، إلى جانب زيادة مستويات الدَّيْن العام على مدى العقد الماضي.
وقد تم تعويض الانخفاض في العجز الأولي جزئيًّا من خلال زيادة في مدفوعات الفائدة الصافية من قبل الحكومة، من 2.7٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020م إلى 3٪ في عام 2024م. ومن المتوقع أن تزيد هذه المدفوعات بشكل أكبر إلى متوسط 3.4٪ في 2025-2026م.
وكان التحسُّن في التوازن المالي الموثق أعلاه مدفوعًا بشكلٍ أساسي بزيادات في الإيرادات الحكومية، وبدرجة أقل بتخفيضات في الإنفاق الحكومي. وتم تفسير التحسُّن في التوازن المالي للمنطقة من 2020م إلى 2024م بزيادة تراكمية قدرها 1.5 نقطة مئوية في الناتج المحلي الإجمالي في الإيرادات الحكومية وانخفاض في الإنفاق الحكومي بنسبة 0.8 نقطة مئوية. وقد شهدت حوالي ثلاثة من كل أربعة بلدان في المنطقة تضييقًا في العجز المالي من عام 2020م إلى عام 2024م،
ويُعزى هذا التحسُّن إلى زيادة تراكمية في الإيرادات الضريبية بنسبة 1.1% من الناتج المحلي الإجمالي وانخفاض في الإنفاق الحكومي بنسبة 1.4%. وبالنسبة لبقية البلدان (12 من 44)، اتسع العجز قليلًا نتيجة لزيادة الإنفاق الحكومي (0.7% من الناتج المحلي الإجمالي) التي تجاوزت الزيادة في الإيرادات الحكومية (0.4% من الناتج المحلي الإجمالي).
رابعًا: الديون
لا يزال الدَّيْن الحكومي مرتفعًا وأكثر خطورة، وقد تم إحراز بعض التقدم في إعادة هيكلة الديون على مدى العقود الماضية، وكان الدَّيْن العام الخارجي والمضمون مِن قِبَل الحكومة في المنطقة في تزايد، وقد تضاعف أكثر من أربعة أضعاف منذ عام 2006م. وفي عام 2022م، بلغ إجمالي الدَّيْن العام الخارجي والمضمون مِن قِبَل الحكومة 462 مليار دولار، مقارنة بـ108 مليارات دولار في عام 2006م. وزادت حصة الديون متعددة الأطراف في الديون الخارجية من خلال ضمانات رأس المال الشخصي للبلدان منخفضة الدخل بنسبة 12 نقطة مئوية بين عامي 2015 و2022م، و5 نقاط مئوية فقط للبلدان متوسطة الدخل خلال نفس الفترة.
وانخفضت حصة التمويل الخارجي من الدائنين الثنائيين لنادي باريس، بينما زادت حصة الدائنين الثنائيين غير الأعضاء في نادي باريس بشكل طفيف. ففي عام 2006م، شكَّل الدائنون الثنائيون لنادي باريس 22% من الديون الخارجية، والتي انخفضت إلى 5% بحلول عام 2022م. وعلى النقيض من ذلك، زادت حصة الدائنين الثنائيين غير الأعضاء في نادي باريس من 15 إلى 16% خلال نفس الفترة. قبل الأزمة المالية العالمية كانت أكبر ستة دائنين ثنائيين هي فرنسا والصين والولايات المتحدة واليابان والمملكة العربية السعودية والكويت. وبحلول نهاية عام 2022م، تغيَّر تكوين الدائنين؛ حيث أصبحت الصين -وهي ليست عضوًا في نادي باريس- الدائن الثنائي الرسمي الأكثر أهمية؛ حيث ارتفع رصيد ديونها من 3٪ في عام 2006م إلى 12٪ في عام 2022م. وزاد عبء الديون مع لجوء البلدان بشكل أكبر إلى التمويل السوقي. وزاد تمويل السندات كمصدر للديون الخارجية لسندات الضمانات الشخصية، مما أدَّى إلى الاستفادة من وصولها إلى أسواق رأس المال. وارتفعت حصة السندات في إجمالي ديون الضمانات الخارجية للبلدان متوسطة الدخل بنسبة 13 نقطة مئوية بين عامي 2006م و2022م. ومنذ عام 2007م، أصدرت 17 دولة في المنطقة سندات يورو للدائنين من القطاع الخاص.
شكل (4) الدين العام في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء
بعد انقطاع دام عامين عن الأسواق الدولية، استأنفت أربع دول (بنين وكوت ديفوار وكينيا والسنغال) إصدار السندات السيادية في أوائل عام 2024م، مع بعض هذه الإصدارات لإعادة شراء وإعادة تمويل سندات اليورو والقروض التجارية المستحقة. ومع ذلك، جاء الإصدار بسعر أعلى نتيجة لارتفاع أسعار الفائدة العالمية بدلًا من فروق المخاطر الأكبر بين البلدان. وتظل عمليات استرداد سندات اليورو مرتفعة في عام 2024م، ومن المتوقع أن تزيد في عام 2025م. وفي عام 2024م، من المتوقع أن تستهلك ثماني دول في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى سنداتها السيادية بقيمة تراكمية تبلغ 4.5 مليار دولار. وسجَّلت ثلاث دول أكبر عمليات استرداد للسندات السيادية، بحصة إجمالية بلغت 90% من السندات الصادرة في عام 2014م؛ وهي كينيا (2 مليار دولار)، وإثيوبيا (مليار دولار)، وزامبيا (مليار دولار). ستواصل المنطقة عمليات استرداد السندات المرتفعة في عام 2025م، مع رأسمال سندات تراكمي يبلغ 5.2 مليار دولار. وتمثل أنجولا ونيجيريا أكثر من 50% من عمليات الاسترداد.
ومن المتوقع أن تزيد عمليات استرداد السندات بشكل حادّ في المنطقة في الفترة 2024-2025م، مما يعكس عمليات استرداد سندات اليورو، قبل أن تنخفض في عام 2026م. ومن المتوقع أن تؤدي عمليات الاسترداد الأعلى في عامي 2024م و2025م إلى زيادة احتياجات الحكومات التمويلية، في سياق أسعار السوق الأعلى؛ حيث من المحتمل أن تمثل نسبة كبيرة من الإيرادات الحكومية في بعض دول إفريقيا جنوب الصحراء. ومن المتوقع أن تؤدي إعادة هيكلة الديون الخارجية في إثيوبيا وغانا وزامبيا إلى انخفاض المدفوعات مع الانتهاء من تبادل السندات.
وأدت جائحة كوفيد-19 إلى تسريع تراكم الدين العام المحلي بوتيرة أسرع بكثير؛ نظرًا لحاجة البلدان إلى موارد مالية أكبر لحماية الناس والوظائف. ومع ذلك، منذ عام 2023م، استقر متوسط الدين العام المحلي إلى الناتج المحلي الإجمالي بين البلدان التي تستخدم إطار قدرة البلدان المنخفضة الدخل على تحمل الديون، ومن المتوقع أن يصل إلى 20% من الناتج المحلي الإجمالي في البلدان منخفضة الدخل، و17% في البلدان المنخفضة الدخل في عام 2024م.
بالنسبة للبلدان منخفضة الدخل في المنطقة، بلغ متوسط صافي الدَّيْن العام نحو 13% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية عام 2022م، مع تجاوز صافي الدين العام في 11 دولة (بنين، وبوروندي، وغامبيا، وغانا، وموزامبيق، ورواندا، وساو تومي وبرينسيبي، وسيراليون، وجنوب السودان، وتوغو، وزامبيا) 14% من الناتج المحلي الإجمالي، وانخفض صافي الدَّيْن العام في البلدان منخفضة الدخل إلى متوسط 10% في عام 2023م، ومن المتوقع أن يكون هذا مستقرًّا على نطاق واسع في عام 2024م مع تخفيف ضغوط التمويل الحكومي، وتراجع العجز الأولي. ويستقر الدَّيْن الحكومي عند مستويات مرتفعة.
كان الدَّيْن العام في المنطقة أعلى بأربع مرات في عام 2023م، مقارنةً بعام 2006م، مما يعكس استقرار الدين الخارجي والداخلي عند مستويات مرتفعة وصافي الدخل الإجمالي المرتفع. وكان متوسط المستوى الاسمي للدين في الفترة 2006-2019م حوالي 565 مليار دولار، وبلغ الدَّين العام الاسمي الحالي في نهاية عام 2023م 1.25 تريليون دولار. ومن المتوقع أن ينخفض قليلًا إلى 1.18 تريليون دولار في نهاية عام 2024م.
خلال فترة التعافي من الجائحة وما بعدها، ارتفعت مستويات الديون للاستجابة لاحتياجات التمويل الأعلى. ومع ذلك، تغيَّر السياق بعد الجائحة؛ حيث أدى التضخم العالمي المستمر والسياسات النقدية الأكثر صرامة إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض (المحلية والخارجية) بالنسبة لدول المنطقة، والضغط على أسعار الصرف. ارتفع متوسط إجمالي الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من 37% في عام 2006م إلى 52% في عام 2019م، قبل صدمة كوفيد-19، ثم ارتفع إلى 57% في عام 2023م. في عام 2023م، بلغ متوسط نسبة الدَّيْن إلى الناتج المحلي الإجمالي للدول منخفضة الدخل 57%، بينما بلغ 64% للدول متوسطة الدخل، ولا يزال عبء الديون مرتفعًا.
كما زادت مستويات خدمة الدين الإجمالية بشكل مطرد منذ عام 2006، مما أثر سلبًا على الحيز المالي وزاد من التعرُّض للصدمات، وخاصة بالنسبة للدول التي تمكَّنت من الوصول إلى سوق السندات الدولية وغيرها من مصادر التمويل غير الميسرة. وزاد إجمالي خدمة الدين السنوية بمقدار 31 مليار دولار بين عامي 2006 و2022م. بالإضافة إلى ذلك، أدَّى انتهاء مبادرة تعليق خدمة الدين -التي علقت وأعادت جدولة خدمة الدين المستحقة خلال الفترة 2020-2021م- إلى جانب ارتفاع أسعار الفائدة العالمية إلى زيادة كبيرة في خدمة الدين في عام 2023م، بلغت 51 مليار دولار، مما أدى إلى زيادة إجمالية تراكمية قدرها 82 مليار دولار. وكانت أعلى زيادة في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث زادت خدمة الدَّيْن الإجمالية في الفترة 2006-2022م بمقدار 81 مليار دولار. وتبلغ نسبة إجمالي خدمة الدين إلى الصادرات وخدمة الدين إلى الإيرادات 32 و49%على التوالي بحلول عام 2023م، ومن المتوقع أن تتراجع في عام 2024م إلى 22 و34% على التوالي. ونتيجة لذلك ارتفع خطر ضائقة الديون الخارجية في المنطقة مع زيادة حصة البلدان المعرضة لخطر كبير أو التي تعاني من ضائقة الديون في إطار قدرة البلدان منخفضة الدخل على تحمل الديون من 27% في عام 2015م إلى 53% في عام 2024م.
شكل (5) خدمة الدين في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء
بهدف استعادة استدامة الديون وإعادة بناء الحيّز المالي، تنفذ العديد من البلدان عمليات إعادة هيكلة شاملة للديون في سياق الإطار المشترك وما بعده. تقدمت تشاد وإثيوبيا وغانا وزامبيا بطلبات للحصول على معالجات للديون الخارجية بموجب الإطار المشترك. وتم التوصل إلى اتفاقيات إعادة الهيكلة مع الدائنين الثنائيين الرسميين في جميع البلدان باستثناء إثيوبيا؛ حيث تأخرت المفاوضات بسبب الصراع الداخلي في البلاد. وتستمر المفاوضات مع الدائنين الرسميين والخاصين؛ حيث توصلت بعض البلدان إلى اتفاق.
فتوصلت تشاد إلى اتفاق مع جميع دائنيها الرئيسيين في نوفمبر 2022م. ووافقت حكومة زامبيا على معالجة الديون المرتبطة بالدولة مع دائنيها الرسميين في أكتوبر 2023م، وأبرمت عملية تبادل للسندات في يونيو 2024م. ويجري حاليًّا الانتهاء من المفاوضات مع دائني القطاع الخاص الآخرين. كما اختتمت غانا المفاوضات مع دائنيها الرسميين في يونيو 2024م وتوصلت إلى اتفاق أولي مع حاملي السندات. وقد سمح التقدم المحرز في مفاوضات إعادة هيكلة الديون في هذه البلدان لصندوق النقد الدولي بإبرام برامج التمويل وللبنك الدولي بتوفير تدفقات صافية إيجابية كبيرة بشروط ميسرة للغاية أو بشروط منح.
وبعيدًا عن الإطار المشترك، حددت مالاوي إستراتيجية لإعادة هيكلة ديونها الخارجية واستعادة استدامة الديون في يوليو 2022م. وتتفاوض السلطات مع دائنين ثنائيين تجاريين ورسميين، وقد توصلت مؤخرًا إلى اتفاق مع الصين، بشأن مبلغ معاد هيكلته قدره 206 ملايين دولار (1.6% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023م) لتقليل احتياجات خدمة الديون في البلاد. وفي ديسمبر 2023م، تلقت الصومال حزمة تخفيف ديون بقيمة 4.5 مليار دولار من دائنيها، بما في ذلك البنك الدولي، نتيجة لوصول البلاد إلى نقطة الإنجاز بموجب مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون.
خامسًا: القطاع الخارجي
ومن المتوقع أن تتحسن ميزانيات الدول الخارجية بنحو 0.5 نقطة مئوية من الناتج المحلي على مدى السنوات الثلاث المقبلة. ومن المتوقع أن ينخفض متوسط عجز الحساب الجاري قليلًا من 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023م إلى 4.3% في عام 2024م. ويختلف سلوك الحساب بين البلدان. فمن ناحية، قد تشهد البلدان المصدرة للنفط الصافية ضعفًا في مواقف الحساب الجاري بسبب التخفيف المتوقع في أسعار النفط، وانخفاض الإنتاج (جمهورية الكونغو)، وعدم الاستقرار (تشاد وجنوب السودان). ومن ناحية أخرى، من المرجَّح أن تستفيد البلدان المصدرة الصافية للمعادن من زيادة الأسعار، مما يؤدي إلى تحسين مواقف حسابها الجاري على الرغم من البدء من عجز (7.4% من الناتج المحلي عام 2023م). فمثلاً؛ من المتوقع أن تشهد زامبيا تحسُّنات بنحو 1.9 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي بسبب ارتفاع أسعار المعادن، وزيادة المنح والتحويلات المالية، وانخفاض الواردات. وبالمثل، عوضت أسعار النحاس انخفاض أسعار المعادن الأخرى، مما ساعد في تحسين الموقف الخارجي لجمهورية الكونغو الديمقراطية.
وتواجه البلدان غير الغنية بالموارد المزيد من التحديات مع ارتفاع عجز الحساب الجاري؛ حيث تعاني العديد من البلدان من عجز مزدوج الرقم في عام 2024م. فمثلاً من المتوقع أن يتفاقم عجز موزمبيق، ليبلغ 29٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2026م، في حين من المتوقع أيضًا أن تعاني بلدان أخرى، مثل بوروندي وملاوي وناميبيا ورواندا، من عجز مزدوج الرقم. مما يساهم في عدم استقرار سعر الصرف، كما هو الحال في مالاوي؛ حيث من المتوقع أن يصل العجز إلى 18.7% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024م، مما يفرض ضغوطًا على الاحتياطيات الدولية. وفي رواندا، من المتوقع أن يظل عجز الحساب الجاري كبيرًا في عام 2024م؛ بسبب زيادة الواردات المطلوبة لإعادة الإعمار بعد الفيضانات ومشروع بناء المطار الكبير. وعلى الجانب الإيجابي، من المتوقع أن تحافظ كينيا على عجز يتراوح بين 4.0 و4.1%، مع زيادة محتملة في الصادرات والاستثمار الأجنبي المباشر بسبب اتفاقيات التجارة الجارية. وعلى نحو مماثل، يضيق عجز الحساب الجاري في تنزانيا بسبب شروط التجارة المواتية.
شكل (6) العجز والفائض في الحساب الجاري كنسبة من الناتج المحلي
يكشف تحليل الحساب الجاري وفقًا لنهج فجوة الادخار والاستثمار أن المدخرات الوطنية أثرت بشكل كبير على أداء الحساب الجاري في السنوات الأخيرة، باستثناء الفترة 2018-2019م عندما أدت الزيادة في الاستثمار إلى تدهور الحساب الجاري.
وخلال العام الجاري، من المتوقع أن تتمتع البلدان في المتوسط، بموقف محسّن في الحساب الجاري؛ بسبب الزيادات القوية في المدخرات الوطنية التي تُعوّض أكثر من الزيادة في مستويات الاستثمار. بشكل عام، تلعب التقلبات في المدخرات الوطنية دورًا أكثر أهمية في التأثير على الحساب الجاري، وخاصة بالنسبة للبلدان التي تعاني من عجز متزايد في الحساب الجاري.
المحور الثالث
إحداث تحوُّل في التعليم لتحقيق النمو الشامل
أولًا: التعليم والنمو الشامل
-التعليم قوة دافعة لازدهار إفريقيا
يمكن للتعليم أن يلعب دورًا تحويليًّا في إطلاق العنان للإمكانات غير المستغلة لسكان إفريقيا وتحسين ثروات المجتمعات والاقتصادات بشكل كبير. حاليًّا، يبلغ مؤشر رأس المال البشري في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى 0.40؛ مما يعني أن الأطفال المولودين اليوم من المتوقع أن يحققوا 40% فقط من إنتاجيتهم المحتملة في ظل ظروف صحية وتعليمية مثالية.
إن تعزيز التعليم أمر حيويّ لتحسين هذا المؤشر؛ حيث إن التعليم الأساسي الشامل الذي يضمن التعلم الكامل يمكن أن يضاعف مؤشر رأس المال البشري في المنطقة إلى 0.80 ويضاعف الناتج المحلي الإجمالي للفرد. وهذا يتوافق مع ما يقرب من 1.4 نقطة مئوية من النمو الاقتصادي السنوي الإضافي على مدى السنوات الخمسين المقبلة.
وهناك العديد من الأمثلة في جميع أنحاء العالم؛ حيث كان التعليم قوة تحويلية لتحسين الظروف الاقتصادية. وفي إفريقيا جنوب الصحراء، هناك قصص نجاح ناشئة أيضًا. وتُحرز كينيا تقدمًا كبيرًا في إصلاح أنظمتها التعليمية، وهو ما يُظهِر نتائج ملموسة، جنبًا إلى جنب مع الاستثمار المستدام. وفيما يتصل بسنوات الدراسة المعدلة وفقًا للتعلم، وهو مقياس يجمع بين القدرة على الوصول إلى التعليم والتعلم، فإن أداء كينيا يفوق التوقعات فيما يتصل بمستوى دخلها.
-التعليم عامل رئيسي لإطلاق العنان لإمكانات العائد الديموغرافي:
إن بناء أنظمة تعليمية عالية الجودة يُشكّل أهمية إستراتيجية أساسية للاستفادة من التحول الديموغرافي التاريخي الجاري. مع وجود أكثر من 500 مليون طفل تتراوح أعمارهم بين 0 و14 عامًا، من المتوقع أن يتضاعف عدد السكان في سن العمل في المنطقة بحلول عام 2050م. يمثل هذا “التضخم الشبابي” فرصة فريدة لتسريع النمو الاقتصادي والحد من الفقر؛ حيث يمكن لعدد أكبر من السكان في سن العمل تحفيز النشاط الاقتصادي وزيادة مستويات الدخل، وبالتالي تسخير العائد الديموغرافي.
تواجه أنظمة التعليم في جميع أنحاء القارة تحديات خطيرة تتعلق بالوصول والجودة والأهمية. وإذا استمرت الاتجاهات الحالية، بحلول عام 2050، لن يتمكن 39 مليون طفل في سن العاشرة في إفريقيا جنوب الصحراء من قراءة وفهم قصة بسيطة؛ بزيادة قدرها 11 مليونًا عن مجموعة الأطفال الذين تبلغ أعمارهم 10 سنوات اليوم. وبحلول عام 2030، من المتوقع أن يدخل ما يقرب من 170 مليون طفل أنظمة المدارس في المنطقة.
ولتحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة؛ يجب على البلدان استيعاب هؤلاء الأطفال والمراهقين الإضافيين، فضلًا عن الأطفال غير الملتحقين بالمدارس. وسيتطلب هذا تدريب ونشر 11 مليون معلم إضافي وبناء العديد من المدارس. إن التوسع في التعليم في إفريقيا يتطلب إنشاء 100 مليون فصل دراسي جديد. ومن المتوقع أن يكون التوسع بشكل خاص على مستوى التعليم الثانوي.
وفي الوقت الحالي، تُعدّ القوى العاملة في إفريقيا الأقل مهارة على مستوى العالم، وهو ما يُشكّل عائقًا كبيرًا أمام النمو الاقتصادي الطويل الأجل. كما يرتبط التعلم خارج المدرسة ارتباطًا وثيقًا بتحسن المكاسب، وتوزيع الدخل بشكل أكثر عدالة، والنمو الاقتصادي الطويل الأجل. وقد تكون فوائد التعليم أكثر وضوحًا في المنطقة مقارنة بأماكن أخرى. ففي حين تزيد سنة إضافية من التعليم المكاسب بنسبة 10% على مستوى العالم، فإن هذا الرقم أعلى في إفريقيا جنوب الصحراء، بنسبة 12.4%. ومن الجدير بالذكر أن العائدات أعلى بالنسبة للنساء (14.5% في المنطقة)، وعلاوة على ذلك، فإن العائدات أعلى (21%) بالنسبة لأولئك الحاصلين على تعليم عالٍ.
وتمتد فوائد رأس المال البشري من التعليم إلى تحسين النتائج الصحية. وكل عام إضافي من الدراسة في إفريقيا جنوب الصحراء يقلل من معدل الخصوبة بمقدار 0.26 ولادة. ويقلل من فرصة وفاة الأم بنسبة 20%، ويزيد من بقاء أطفال الطلاب على قيد الحياة حتى سن الخامسة بنسبة 50%، ويقلل من احتمال زواج الأطفال للفتيات بمعدل 7.5 نقطة مئوية. والنساء المتعلمات أكثر عُرضة لاستخدام وسائل منع الحمل ولعب دور أكثر أهمية في قرارات الخصوبة الأسرية.
-التعليم كإستراتيجية لتأمين مستقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية:
إن التعليم يعزّز التماسك الاجتماعي، ويقلل من دوافع العنف والصراع والهشاشة، مما يساعد على بناء رأس المال الاجتماعي في أجزاء من المنطقة؛ حيث يكون النسيج الاجتماعي متوترًا في كثير من الأحيان. إن سنة إضافية من الدراسة تقلل من احتمالية التجنيد الطوعي في المنظمات المتطرفة بنسبة 13%. وهو أمر حيوي للاستجابة الفعّالة للمنطقة لتغير المناخ. وهذا أمر ضروري للمنطقة؛ حيث تقع 20 من البلدان الثلاثين الأكثر عرضة لتغيُّر المناخ. وأخيرًا، فإن التقدُّم السريع للتكنولوجيات الرقمية جنبًا إلى جنب مع الدفع المتزايد نحو اقتصادات أكثر خضرة واستدامة يُشكّل الاقتصاد العالمي، وبالتالي أسواق العمل.
إن نسبة كبيرة من الشباب لا يمتلكون حاليًّا المهارات اللازمة ليكونوا منتجين، وواحد من كل خمسة شباب ليس في التعليم أو العمل أو التدريب. هناك اعتراف في جميع أنحاء القارة بأهمية التعليم في دفع عجلة التحول الاقتصادي والاجتماعي.
ثانيًا: الجهود والاستثمارات الرامية إلى تحويل أنظمة التعليم في المنطقة وأهدافها:
إن الجهود والاستثمارات الرامية إلى تحويل أنظمة التعليم في المنطقة يمكن تنظيمها حول هدفين رئيسيين: (1) بناء أساس قوي من خلال ضمان اكتساب جميع الأطفال للمهارات الأساسية، و(2) تزويد الشباب والقوى العاملة بالمهارات ذات الصلة بالسوق ليكونوا منتجين وقادرين على المنافسة في اقتصاد عالمي متطور. ولا ينبغي النظر إلى هذين الهدفين باعتبارهما مساعي منفصلة أو متباينة. بل إنهما يشكلان بدلًا من ذلك استمرارية لتنمية المهارات، وعلى نطاق أوسع، تنمية رأس المال البشري. ويعتمد تحقيق الأولوية الثانية -تنمية قوى عاملة متعلمة وماهرة- بشكل أساسي على إنجاز الأولى؛ حيث تضع المهارات الأساسية الأساس لاكتساب المهارات من الدرجة الأعلى.
ومع ذلك، فإن هذه الأهداف ليست متسلسلة بشكل صارم؛ فلا يمكن للبلدان أن تؤخر الاستثمار في تنمية المهارات، في حين تنتظر بناء المهارات الأساسية على مستويات التعليم الأدنى. ولا بد أن يكون الشباب الحاليون في المنطقة –وخاصةً أولئك الذين سيتركون المدرسة قريبًا أو الذين هم بالفعل في القوى العاملة- مجهّزين بالمهارات ذات الصلة، والتي غالبًا ما تشمل الكفاءات الأساسية والعليا. إن زيادة عدد السكان المتعلمين والمهرة من شأنه أن يخلق حلقة حميدة من التعليم المحسن للأجيال القادمة. ومن الأهمية بمكان أن تحافظ الجهود المبذولة في كلا الهدفين على التركيز القوي على معالجة التفاوتات وضمان الشمول.
إن تنفيذ الإصلاحات والتدخلات في إطار هذه الأهداف سوف يتطلب التنقل في بيئات مالية مقيدة بشكل متزايد. وهذا يستلزم التزامًا مستدامًا من جانب الحكومات وأصحاب المصلحة في التعليم بتخصيص الموارد الكافية، مع التركيز بشكل أقوى على النتائج والكفاءة. وبهدف الحفاظ على مخصصات الميزانية الأعلى، يجب على أنظمة التعليم أن تثبت استخدامًا أكثر كفاءة للموارد، وتقديم المزيد مقابل كل دولار يتم إنفاقه. وستواجه الحكومات مقايضات صعبة، وموازنة المطالب الهائلة مقابل الموارد والقدرات المحدودة. وسيتعين اتخاذ القرارات والاختيارات بشأن ماذا وكيف ومتى وأين تستثمر بشكل إستراتيجي، مدفوعا بالبيانات والأدلة. ويمكن تلخيص هدفي هذه الجهود فيما يلي:
الهدف الأول: بناء أساس قوي من خلال ضمان اكتساب جميع الأطفال للمهارات الأساسية
- البدء مبكرًا لضمان حصول الأطفال على أفضل بداية للتعلم مدى الحياة.
- التركيز الدائم على معرفة القراءة والكتابة والحساب في المراحل المبكرة.
- إبقاء الأطفال في المدرسة حتى انتهاء المراحل التعليمية.
الهدف الثاني: تزويد الشباب والقوى العاملة بالمهارات ذات الصلة بسوق العمل المتطورة
- توسيع الوصول العادل إلى تنمية المهارات.
- ضمان أن تكون برامج تنمية المهارات ذات صلة ومستجيبة.
ويتحقق ذلك من خلال الاستثمار الذكي:
تتسم المنطقة بأدنى مستوى للإنفاق العام على التعليم للفرد في العالم، ومن غير المرجّح أن تكون المصادر التقليدية للتمويل كافية في الأمد المتوسط لتحقيق أهداف التعليم الوطنية في السياق الاقتصادي الحالي. وحتى مع زيادة الإنفاق، فإن الاستخدام الفعّال والعادل للأموال سيكون أمرًا بالغ الأهمية لتعظيم تأثيرها. وسيتطلب هذا تعزيز قدرة المؤسسات المسؤولة عن إدارة الموارد وضمان وجود أنظمة إشراف ورصد تعمل بشكل جيد. وأخيرًا، يمكن لآليات التمويل المبتكرة والتفاعلات مع أصحاب المصلحة الرئيسيين أن تستفيد من مصادر أخرى للتمويل. ويتحقق الاستثمار الذكي من خلال:
- إيجاد الأموال اللازمة لتحريك عجلة نتائج التعليم.
- تحسين كفاءة الإنفاق القطاعي.
حيث مستويات الإنفاق غير كافية لمواجهة تحدّي التعليم على مدى السنوات العشر الماضية، زادت البلدان الإفريقية إنفاقها على التعليم بشكل مطرد. فبين عامي 2012 و2021م، نما إجمالي إنفاق المنطقة على التعليم من 90 مليار دولار إلى 115 مليار دولار. وخلال تلك الفترة، ساهمت الحكومات بنسبة 68% من إجمالي الإنفاق، وساهمت الأسر بنسبة 28%، وساهمت المساعدات الإنمائية بنحو 5%. ومع ذلك، تنشأ فجوة إنفاق كبيرة ومتنامية بين المنطقة ومناطق أخرى. ففي إفريقيا جنوب الصحراء، كانت الزيادات في الإنفاق مدفوعة بتأثيرات النمو الاقتصادي على عائدات الحكومة وليس نتيجة لزيادة الحجم الإجمالي للقطاع الحكومي أو إعطاء الأولوية الأكبر للتعليم في الميزانيات الحكومية.
شكل (7) الانفاق على التعليم في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء
إن الإنفاق الحكومي على التعليم كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة منخفض نسبيًّا، ولم يتغير بشكل كبير على مدى السنوات الأخيرة. وإن الفجوة بين إفريقيا جنوب الصحراء والمناطق الأخرى قد اتسعت؛ ففي الفترة 2011-2012م، أنفقت البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط المنخفض في إفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا حوالي 225 دولارًا لكل طفل في سن المدرسة. ومع ذلك، على مدى السنوات العشر التالية، ضاعفت البلدان في جنوب آسيا إنفاقها إلى 466 دولارًا، في حين زاد الإنفاق في إفريقيا جنوب الصحراء بشكل طفيف إلى 234 دولارًا.
كما أن مستويات الإنفاق الحالية ليست كافية لتحقيق أهداف التعليم الوطنية والعالمية. ففي المتوسط، ستحتاج البلدان الإفريقية ذات الدخل المنخفض والمتوسط المنخفض إلى تخصيص ما يقرب من 7% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الحكومي على التعليم لتحقيق أهدافها ومعالجة أزمة التعلم بحلول عام2030م، ويمثل هذا المستوى زيادة هائلة مقارنة بنسبة 4% من الناتج المحلي الإجمالي التي تخصصها بلدان المنطقة حاليًّا. وبحلول سن 18 عامًا، تكون الفتاة التي تكبر اليوم في إفريقيا جنوب الصحراء قد التحقت بالمدرسة لمدة 8 سنوات، مقارنة بـ13 عامًا في بلد مرتفع الدخل. وخلال تلك الفترة، تكون الحكومة في إفريقيا جنوب الصحراء قد أنفقت حوالي 1900 دولار على تعليمها، وسيتم إنفاق كل هذه الأموال تقريبًا على الرواتب.
وعلى النقيض من ذلك، فإن الحكومة في دولة ذات دخل مرتفع ستنفق نحو 117 ألف دولار، أو ستين مِثْل هذا المبلغ، مع إنفاق نسبة كبيرة منه على موارد التعلم لدعم المعلمين والمتعلمين، بالإضافة إلى دفع رواتب المعلمين. ولعله ليس من المستغرب إذن أن 10% فقط من الأطفال في سن العاشرة في المنطقة قادرون على قراءة نص بسيط، مقارنة بنحو 91% في الدول ذات الدخل المرتفع.
الخلاصة:
لا يزال تعافي النشاط الاقتصادي في المنطقة في حقبة ما بعد تفشي وباء كوفيد-19 فاترًا؛ حيث من غير المرجَّح أن يعود دخل الفرد في المنطقة هذا العام إلى مستواه في عام 2019م. وهناك حاجة مُلِحَّة لتعزيز النمو الاقتصادي من خلال (1) تعزيز المرونة الاقتصادية والحد من التقلبات الضارة، و(2) الاستثمار في المجالات الرئيسية للنمو الطويل الأجل، وخاصة في البنية التحتية الأساسية (الطاقة والنقل والمياه)، ورأس المال البشري (التعليم والصحة). وستشمل هاتان الأولويتان تنفيذ سياسات في المجالات التالية:
- الحفاظ على إطار سليم للسياسة الاقتصادية الكلية.
- الاستثمار في بناء الإنسان من كافة الجوانب التعليمية والتربوية والاقتصادية، وغيرها.
………………………………………………….
[1] ) World Bank. 2024. Transforming Education for Inclusive Growth. Africa’s Pulse, No. 30 (October 2024). World Bank, Washington, DC. doi: 10.1596/978-1-4648-2176-9. License: Creative Commons Attribution CC BY 3.0 IGO