الأزمة في جمهورية مالي المسلمة، أزمة معقّدة، تحتوي على تفاصيل كثيرة، وحصرها في إطار «عدوان صليبي» على دولة مسلمة هو اختزال لها، فهي أزمة متشعّبة، ابتداءً من كونها سلسلة طويلة من الصراع الداخلي، ومحاولة للخروج على الدولة، ثم لتعدّد أطرافها وكثرة الحركات التي لها دور مباشر في إذكائها وإشعال نارها، مروراً بأسباب تصاعدها وتطوّرها، والتدخّل الدولي في ثنايا هذه الأزمة، ولا سيما التدخّل الفرنسي المفضوح، حيث انتهزت فرنسا فرصة أحداث مالي الداخليّة لاستعادة هيمنتها المفقودة في تلك البقاع من قارة إفريقيا، ولكي تلاحق تطوّر التحرّكات الأمريكية في المنطقة، والتي أثارت مخاوفها من وجود عسكري أمريكي تتضرر منه مصالحها الحيوية.
وفيما يخصّ تداعيات هذه الأزمة؛ يمكننا أن نخلص إلى أربعة محاور أساسية، نرى أنها أمراض نجمت عن هذه الأزمة، وغيرها أعراض، وهي على النحو الآتي:
أولها: تشويه صورة الإسلام: ذلك أن بعض الحركات الإسلامية النابعة من جمهورية مالي، والإقليمية، والتابعة لبعض دول الجوار، كانت ضمن المحرّك الأساسي لهذه الأزمة، وسعى بعضها لفرض قوانين نسبها للإسلام دون مراعاة للقواعد المفترض اتّبعاها لتحقيق المقاصد السامية للشريعة الإسلامية من تهيئة البيئة المناسبة، وقد ترتّب على ذلك تشويه لصورة الإسلام لدى العوام، وتشويه لصورة التعليم الإسلامي الراسخة في أذهان الماليين، ومدارسه التي قامت على أكتافها الثقافة الإسلامية في تلك البلاد، بل أصبح تقصير الرجال للثياب ولبس النساء للنقاب مصدر اتّهام يوجب التحقيق الأمني.
وثانيها: التدخّل الدولي: الذي يشير بلا شك إلى تربّص القوى العظمى لبلاد الإسلام حيثما وجدت، ويشير إلى صراع خفي يبدو في الأفق بين فرنسا وأمريكا والصين على جمهورية مالي، أو المنطقة عموماً، على الرغم من أن مالي ليست هدفاً مباشراً للقوى الغربية التي تسعى لنهب ثروات الشعوب الإفريقية، وذلك لخلوّ أراضيها من الثروات، إلا اليورانيوم وبعض المعادن، وهذا ما يبدو أنه أحد الأسباب، إضافة إلى أن مالي دولة واعدة بطاقاتها البشرية، كما أن أراضيها تصلح قاعدة لمراقبة المنطقة، والانقضاض على جيرانها من الدول المكتنزة بمصادر الطاقة المختلفة، لا سيما الجزائر والنيجر.
أما المحور الثالث فهو تصفية الحسابات والانتقام: فواقع الأزمة انجلى عنه تفتيت لُحْمة مالي الداخلية بتركيبتها السكانية ذات الخلفيات الإثنية المختلفة، فأصبحت أراضي مالي حلبات مصارعة لتصفية الحسابات بين القبائل المختلفة، دون وجه حق، وأماكن لممارسة الانتقام في أبشع صوره، دون مراعاة وتمييز، فلم يشفع لذلك ما كان بينهم من تاريخ مشترك، أو آصرة دين تجمع، حتى غدا أبناء المجتمع الواحد فصائل وجماعات، وانقسمت مالي بين شمال وجنوب، ولا يحصد آثار هذه الانقسامات إلا الضعفاء والفقراء الذين يتحولون إلى لاجئين يهيمون في الأرض.
وأما المحور الرابع فهو المخطوطات: فالمخطوطات هي كنوز لا تُقدّر بثمن، فهي ثروة مالي الحقيقية إذا تباهت الدول بمقدّراتها، وليس من عجب أن تكون ضمن الضحايا الأساسيين للأزمة، وذلك أن الحاسدين يريدون لهذا التراث الإسلامي المجيد أن يصير في عداد المفقودات، ولا شك أن حرق مخطوطة أو تمزيقها يعني فَقْد جزء عزيز من التراث الإسلامي الذي حافظت عليه الأجيال لقرون عديدة، شاهداً على عظمة الإسلام والمسلمين في هذا البلد الذي قامت على أراضيه حضارة إسلامية يُشار إليها بالبنان.
وإذا كان الأمر بهذه الخطورة؛ فإنه لا بد من تقديم حلول، لتهوين وقع الكارثة، وتلافي الآثار الناجمة عن هذه الأزمة في ذلك البلد المسلم الواعد.
إن القراءة الفاحصة في هذه الأزمة تبيّن أن إمكانية الحلّ ليست مهمّة مستحيلة، مع أنها ليست سهلة في الوقت نفسه، لكنها يمكن أن تسلك مسالك السهولة متى ما توفّرت الإرادة والعزيمة الجادتين بين طرفي الأزمة، ولخشيتنا أن يكون الخاسر في آخر المطاف هو إنسان مالي، الذي يتطلع إلى حياة آمنة ملؤها الطمأنينة والاستقرار، فإننا نرى أن الحلول العملية لهذه الأزمة تكمن في الجوانب الآتية:
جانب يُلقى على عاتق الحكومة: إذ المطلوب منها على نحو عاجل الاستفادة من تجاربها السابقة في العبور بسلام من هذه الأزمة، وإيقاف الحرب الدائرة حالياً بتكوين لجنة وطنية شاملة للمكوّنات الإثنية للبلاد تحقّق في الأحداث، وتحدّد الأطراف المسؤولة عن الفساد والإفساد، ومحاكمة من يقفون وراء هذه الأحداث. كما ينبغي لها القيام بالتوعية الشاملة للمواطنين، وتحذّرهم من تصفية الحسابات ومحاولات الانتقام، وترسّخ لديهم أن القضاء هو الجهة الوحيدة لإقامة العدل وتسوية الخلافات، وتسعى إلى عقد حوار وطني شامل للمصارحة فالمصالحة، إضافة إلى توسيع دائرة الحرية واللامركزية والشفافية، وبيان أن وحدة التراب من المقدّسات التي يجب ألا تُمس بشكل من الأشكال.
وهناك جانب يخصّ علماء الدين في مالي: إذ المطلوب منهم القيام بمهمّتهم الإصلاحية بموضوعية، فيراعون الله في كلّ حركاتهم وسكناتهم، ويجعلون مصلحة الأمة الإسلامية نصب أعينهم، إضافة إلى مشاركتهم في القرارات المتعلّقة بمصير بلادهم، وإنما خصصنا علماء الدين دون غيرهم لأنهم عماد الأمة ودعامتها، ولأن الإسلام والثقافة المرتبطة به والمؤسّسات العاملة في نشر الدعوة تعرّضت لتشويه متعمّد يستوجب المسارعة في إرجاع الأمور إلى نصابها.
والجانب الثالث يتعلّق بالمنظمات الإقليمية والإسلامية والدولية: وذلك أن واقع الأزمة في مالي ومثيلاتها من الدول الإفريقية، إنما هي في المقام الأول أزمة تنمية، بمفهوم التنمية الواسع، وإذا لم تضطلع تلك المنظّمات بمختلف مشاربها بدور فاعل يصبّ في مساندة مالي في إحداث تلك التنمية التي يتطلع إليها شعبها، وبالطريقة التي تحفظ لمالي استقرارها وتضمن لها مستقبلاً أفضل، فإن تداعيات هذه الأزمة قد تنتقل إلى دول أخرى، ومناطق لم تكن في الحسبان، هذا، إضافة إلى ضرورة السعي الجاد من قبل تلك المنظّمات إلى إيجاد مساعدات إنسانية عاجلة لتلافي الكوارث التي نجمت عن الأزمة في تلك المنطقة، لا سيما مناطق شمال مالي التي تتجرّع الأمرّين.
تبرز من خلال عرض القضية معطيات كثيرة تكشف عن سلبيات داخلية في الواقع المحلي والإقليمي الإسلامي والعربي والإفريقي، ومن ذلك:
أ- وجود متغيرات متناقضة – لعب المحتل دوراً رئيساً في إيجادها- أدت إلى تفتت الكيانات الوطنية والإقليمية داخل القارة وأذكت روح الصراعات وعمقت من جذور الأزمات؛ فهدمت ما أرساه الإسلام من دعائم الوحدة والأخوة الإسلامية بين المسلمين “إنما المؤمنون إخوة”، والتعايش بين شعوب القارة الذي بناه على قيم العدل واحترام الحقوق “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.
ب- أن عدم تطبيق شرع الله، أدى إلى تشدد بعض المسلمين، وعودة بعضهم إلى جاهلية العصبيات التي حاربها بدلاً عن الولاء المطلق للإسلام، وهو ما جعل الصراع قوياً والحل عصياً.
ت-استمرار التبعية للمحتل عبر كثير من النخب الأمر الذي أمكنه من توجيه السياسات في دول القارة بما يؤجج الفتن ويذكي الصراعات، ثم إدارتها وتوجيهها لخدمة مصالحه وتدعيم نفوذه؛ وذلك من خلال تدويلها وإيجاد المبررات لتدخلاته، وفرض ما يراه من حلول.
ث- ضعف الحكومات والأنظمة القائمة ودول الجوار الإسلامية وغيرها وعدم قدرتها على احتواء الأزمة في مالي رغم امتداها لعشرات السنين، بل ربما ساعد بعضها على تعقيدها لمصالحه الخاصة، أو لمصالح الدول التي توجه سياساته.
ج- ضعف الكيانات الإقليمية بما في ذلك: الاتحاد الإفريقي، ومنظمة الإيكواس وغيرها من المنظمات وعدم قدرتها على التحرك إلا في ظل التدخلات الأجنبية؛ فقد دعا الرئيس النيجيري جودلاك جوناثان ونيابة عن المجموعة الإفريقية في كلمته أمام القمة القمة الإسلامية الثانية عشرة, منظمة التعاون الإسلامي إلى المساندة والعمل على إنجاح تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2580 الخاص بمالي والذي يتيح نشر قوات هناك للتصدي للجماعات الإرهابية.
ح- ضعف دور المؤسسات الإسلامية وعدم فاعليتها؛ وقد عبرالرئيس ماكي سال رئيس جمهورية السنغال في مؤتمر القمة الإسلامية بالقاهرة عن أسفه لعدم التضامن الكافي مع مالي في منظمة العمل الإسلامي . هذا الضعف والوهن أعطى ثغرة للغرب لتتبني مؤسساته ومنظماته قضايا المسلمين، ودولة مالي ناشدت الدول الإسلامية والعربية، الوقوف معها ودعمها فى محنتها، ومن ذلك مناشدة المجلس الإسلامي الأعلى في مالي، وما جاء على لسان ممثلة دولة مالي ،خلال مؤتمر اتحاد مجالس الدول الإسلامية ،الذي انعقد مؤخراً فى الخرطوم، وليس من مجيب.
خ- عدم وجود آليات لفض النزاعات ضمن أجهزة منظمة التعاون الإسلامي، تساعد على التحرك الفعال لاحتواء ما ينشأ من صراعات بين المسلمين، وقد جاءت الدعوة مؤخراً من الرئيس المصري محمد مرسي في القمة الإسلامية الثانية عشرة التي عقدت في أول فبراير الماضي في القاهرة إلى الاتفاق على تأسيس آلية ذاتية فعالة لفض النزاعات بالطرق السلمية, …خاصة بعد تزايد المخاطر جراء تفجر الأزمات والصراعات هنا وهناك. وأوضح الرئيس مرسي أن هذه الآلية تأتي في إطار مواجهة الأزمات السياسية للدول الإسلامية وتحديات التدخلات الخارجية وعدم عدالة موازين الآليات الدولية.
د- كما يلاحظ في البيان الختامي لوزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي في اجتماعاتهم الأخيرة بالقاهرة أنه خلا من أي تحرك عملي؛ فعال سوى التعهد بتقديم الدعم للجماعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا ومبادرة الاتحاد الافريقي للسلام.. ودعوة الدول الاسلامية الى المساعدة في تخفيف معاناة الآلاف من اللاجئين والنازحين في مالي.. وهي تعمل لما بعد إنهاء الصراع.
ذ-غياب الدور العربي، بل من المؤسف حقاً أن يكون الحضور سالباً؛ ترد فيه الإشارة إلى اتهام بعض الدول العربية بالتواطؤ أو بالمشاركة الفعلية في صنع هذا الواقع المأساوي، حتى إنه لم تعد هنالك من ثقة، ولم يعد من قبول للوجود العربي وقد هتف الشعب المالي مرحباً بعودة المحتل من جديد طالما أنه أقوى حضوراً وأكثر تأثيراً في استعادة الأمن وتحقيق الاستقرار للبلاد وليسلب ما يريد من إرادة وسيادة وثروة، طالما أنه أوقف اعتداء المسلم على أخيه المسلم، وبادر إلى إيقاف زحفه.