وصل أكثر من مئتي أخصائيّ وعامل صحيّ من جمهورية كوبا إلى جنوب إفريقيا للمساعدة في مكافحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، وهو ما يُذَكِّر بصداقات كوبا مع الدول الإفريقية، وتضامنها مع حركات التحرير في القارة، وحملتها الدولية لإنهاء نظام الفصل العنصري بجنوب إفريقيا.
وقد أرسلت كوبا منذ بدء جائحة كورونا المستجدّ حتى الآن 20 كتيبة من الأطباء والممرضات والعاملين في مجال الرعاية الصحية إلى مدينة ووهان الصينية؛ حيث بدأ الوباء، والدول الإفريقية ومنطقة البحر الكاريبي، وكذلك الدول الأوروبية بما فيها إيطاليا التي تضررت بشدة من الفيروس.
على أنّ منتقدي الحكومة الكوبية قد وصفوا إرسالها لهذه الفرق الطبية بـ”التضامن الاشتراكي”، و”الدبلوماسية الطبيّة”. وذكر آخرون بأن كوبا نفسها تُواجِه أحد أصعب التحديات الداخلية منذ ستة عقود؛ ليس فقط لإفلاسها بسبب العقوبات الاقتصادية الأمريكية، ولكن لأنَّ سكان البلاد يُعَدُّون الأكبر سنًّا في الأمريكتين، وللتهديد الذي يشكله تفشّي كورونا لسلطة الحكومة المحلية التي كان نظام الرعاية الصحية المجانية الشاملة أحد ركائز نجاحها.
ومع ذلك، بدأت الكتائب الطبية الكوبية لمكافحة جائحة كورونا تُعزّز مرة أخرى شعبية ما أطلق عليه الأكاديميون بـ”الأممية الطبيّة الكوبية” (Cuban Medical Internationalism)، والتي تُعَدّ مصادر مهمة للعملات الأجنبية في كوبا، خصوصًا وأن لكوبا خبرات طويلة في البرنامج الطبيّ الذي بدأ عام 1960م بعد الثورة الكوبية.
كوبا وعلاقاتها مع إفريقيا:
تباينتْ ردود أفعال الأفارقة عندما توفي الزعيم الكوبي “فيدل كاسترو” عام 2016م؛ ففي إثيوبيا بمنطقة القرن الإفريقي كان “كاسترو” بطلاً، ولكنه في الصومال كان يُعْتَبَر شريرًا، وذلك بحسب المواقف المختلفة لمواطني البلدين، والطرق المتبعة في تفسير ما حدث في حرب أوغادين عام 1977م.
أما شعور غالبية الأفارقة من مناطق أخرى، فقد تمثّلت في أن “كاستروا” صديق مخلص في الكفاح ضد الكولونيالية؛ إذ أثَّر ظهور كوبا كمساعدٍ وحليفٍ بشكل كبير في نجاح حركات التحرر الإفريقية. وتجاوزت مشاركتها ما يركَّز عليه البعض من حيث المواجهة الأيديولوجية بين اليمين واليسار، إلى تقديم يد المساعدة الحقيقية عندما كانت القارة بحاجةٍ ماسَّةٍ للجنود والأطباء والمعلمين.
ففي عام 1961م أرسلت كوبا مهمة عسكرية إلى غانا. وفي الجزائر أمدَّت جبهة التحرير الوطني بالإمدادات العسكرية والطبية، وأسَّست فيها بعد تحقيق الاستقلال عام 1962م مهمة عسكرية كوبية، ودخل إليها فريق طبّي كوبيّ تكوّن من أكثر من 50 طبيبًا. كما حلّ الدعم الكوبي للحركات الاشتراكية الإفريقية في أوائل الستينيات محلّ المساعدة السوفيتية المتراجعة وقتذاك.
ويضاف إلى ما سبق أن زيارة “تشي جيفارا” لقادة الحركات التقدمية والاستقلالية في المستعمرات البرتغالية بإفريقيا عام 1964م قد عزّزتْ دور كوبا في القارة؛ حيث كثَّفت كوبا بعثاتها العسكرية المرسلة إليهم، كما هو الحال في أنغولا التي أرسلت إليها وحدة حربية لمساعدة “أغوستينحو نيتو”، زعيم الحركة الشعبية لتحرير أنغولا (MPLA) من 1961م إلى 1974م، على بناء جيش وتنفيذ حملة مسلحة ضد الكولونياليين البرتغاليين.
بل أدّت المساعدة العسكرية الكوبية دورًا حاسمًا في انتصار MPLA على حكومة جنوب إفريقيا العنصرية؛ إذ ارتفع عدد الجنود الكوبيين في أنغولا من حوالي 24.000 جندي كوبي في مارس 1976م إلى حوالي 40.000 بحلول عام 1984م. ومهّدت الطريقَ لاستقلال ناميبيا عام 1990م مشاركةُ القوات الكوبية مع قوات التحرير الإفريقية في المعركة التي وقعت جنوب أنغولا عام 1988م ضد قوات الدفاع عن الفصل العنصري الجنوب إفريقي.
وشهدت العلاقات بين كوبا والدول الإفريقية تغيُّرًا ملحوظًا بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي عام 1991م، وتراجعت بسبب الأزمة الاقتصادية التي عانتها كوبا من تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن الحادي والعشرين، مع الإبقاء على إرسال أطبائها في مهام طبية وللمشاركة في مشاريع مختلفة في جميع أنحاء القارة.
وقد لخّصت الكاتبة الصحفية “لندساي شوتيل” أهم الانتقادات الموجهة لكوبا في إفريقيا بأنّ الزعيم الكوبي “كاسترو” متّهم بالدهاء؛ لأنّ ميل إفريقيا ما بعد الاستقلال إلى الاشتراكية سيحصن كوبا وكتلة السلطة التي قادها الاتحاد السوفييتي من أعدائها في الساحة الدولية، خاصةً وأن العديد من الدول الإفريقية شكّلت جزءًا من حركة عدم الانحياز لكي يبعدوا أنفسهم عن النزاع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
ومع ذلك، وجد قادة الاستقلال والنشطاء الأفارقة في “كاسترو” زعيمًا يملك التوجيه العملي للحرية في وقتٍ قلّ حلفاء إفريقيا السياسيين. ولذلك كرّموه بأوسمة وطنية، وأبقوا علاقاتهم مع بلاده كوبا على وضع مميَّز، حيث ما زالت بعض الدول بإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تفضِّل مساعدات كوبا الطبية في أوقات الصعاب.
كوبا والتضامن مع غرب إفريقيا في مكافحة إيبولا:
عندما اندلع وباء إيبولا في غرب إفريقيا عام 2014م، كانت كوبا الدولة الأولى التي بعثت أكثر من 460 طبيبًا وممرضًا كوبيًّا إلى المنطقة، وهي خطوة جعلتْ من كوبا بطلةً غير معلنة في مكافحة تفشّي الوباء، ورفعت من قدرها لدى الذين استاؤوا من مواقف الدول الغربية التي أبدت عدم رغبتها في إرسال أطبائها إلى مركز الكارثة.
وكالعادة، لم تخْلُ المساعدة الطبيّة الكوبية لمكافحة وباء إيبولا من الانتقادات التي اكتسبتْ طابعًا سياسيًّا؛ إذ امتعض الجمهوريون في الولايات المتحدة لحضور أحد الأطباء الأمريكيين في اجتماع حول إيبولا في كوبا. وجادل منتقدون آخرون بأن دوافع كوبا ليست لإيثارها حياة سكان المنطقة التي عانت من الوباء؛ بل لأنّ بعض البلدان تدفع لكوبا مقابل خدماتها، كما أن خطاب كوبا بالتضامن مع “المهمشين” ومساعدتهم والعمل في البلدان التي لا توفر الرعاية الكافية لمواطنيها بمثابة بيان سياسي واستراتيجية لكسب تأييد شعوب هذه المنطقة.
وفي حين رفضت كوبا الاتهامات الموجهة إليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وأشاد خبراء الصحة بمبادرات كوبا الصحيّة منتقدين موقف الحكومات الغربية التي ركّزتْ همومها على وقف الوباء عند حدودها بدلاً من المشاركة في القضاء عليه، فقد أشار “فيدل كاسترو” في مقاله المنشور في 17 أكتوبر 2014م، إلى أن المطلوب من الولايات المتحدة وبلاده كوبا أن تعملا معًا بشأن إيبولا من أجل تنسيق أفضل من أجل “السلام العالمي”.
الكتيبة الطبية الكوبية في جنوب إفريقيا لمكافحة كورونا:
كان وصول 217 أخصائيًّا وعاملًا كوبيًّا إلى جنوب إفريقيا يوم الاثنين (الموافق 27 أبريل 2020) استجابة لطلب رئيس جنوب إفريقيا “سيريل رامافوسا” من الرئيس الكوبي “دياز كانيل برموديز”؛ وذلك لدعم الجهود المبذولة لاحتواء فيروس كورونا المستجدّ في جنوب إفريقيا التي سجلت (حتى يوم 28 أبريل 2020) 4.793 إصابة و90 حالة وفاة.
وفي المقابل، أرسلت جنوب إفريقيا إمدادات طبية إلى كوبا؛ لمساعدة الجزيرة في محاربة الفيروس عبر الطائرة التي عادت مع الكتيبة الطبية الكوبية، وهي خطوة وصفتها السفارة الكوبية بجنوب إفريقيا بالتضامنية والتعاونية اللازمة لوقف انتشار الفيروس بطريقة أكثر فعالية.
وتشكل الكتيبة الطبية الكوبية في جنوب إفريقيا؛ أطباء الأسرة، وعلماء الأوبئة والأحياء، وخبراء تكنولوجيا الرعاية الصحية والهندسة، وخبراء التكنولوجيا الحيوية، وغيرهم من المتخصصين في مجالات مكافحة الجائحة.
وإذ انخرط طلاب الطب الذين تخرجوا من برنامج نيلسون مانديلا-فيديل كاسترو التعاوني في العمل في عيادات ومستشفيات جنوب إفريقيا؛ فإن أفراد الكتيبة الكوبيّة سيُوزَّعون في مختلف المقاطعات وفقا للخطط الاستراتيجية التي وضعتها وزارة الصحة بجنوب إفريقيا.
وأشاد وزير الصحة الجنوب إفريقي “زويلي مخيزي” في مؤتمر صحفي في وقت سابق من بداية أبريل بالنجاحات التي حققتها كوبا في مجال الصحة المجتمعية، مؤكدًا أن بلاده مستعدة للاستفادة من النموذج الكوبي لتحسين حياة المواطنين.
جدير بالذكر أن كوبا كانت الشريك الاستراتيجي الرئيسي لجنوب إفريقيا في منطقة أمريكا اللاتينية، وفي المنتديات متعددة الأطراف كالجمعية العامة للأمم المتحدة التي دعمت فيها كوبا قضية إنهاء الفصل العنصري بجنوب إفريقيا، بينما صوتت جنوب إفريقيا في المقابل لصالح رفع الحصار الاقتصادي الذي تفرضه الولايات المتحدة على كوبا.
وتغطّي أكثر من 30 اتفاقية ثنائية موقعة بين كوبا وجنوب إفريقيا عدة مجالات كالتعليم والعلوم والتكنولوجيا والزراعة والخدمات الصحية والإسكان والمياه والصرف الصحي والأشغال العامة. وفي عام 2019م احتفل البلدان بمرور 25 عامًا على إقامة علاقات دبلوماسية ودية متبادلة وتعاون بنَّاء بينهما.
ويرى البروفيسور “جون كيرك” من جامعة دالهوزي في نوفا سكوتيا الكندية أن ما يؤهّل كوبا لإرسال المساعدات والكتائب الطبية في ظل تفشّي كورونا؛ أنها أعلى الدولة من حيث كثافة الأطباء في العالم؛ حيث يوجد في العاصمة الكوبية هافانا وحدها أكثر من 2000 مكتب طبّي صغير، وبها 68.000 من موظفي الرعاية الصحية وثلاثة مستشفيات لمرضى كورونا المستجدّ. وفي المجموع يوجد في كوبا 95.000 طبيب و85.000 ممرضة، وهو ما يعني أن وجود 1٪ من هؤلاء العاملين في المجال الطبي بالخارج في الحملة الطبية لن يؤثّر في خدمات الرعاية الصحية المقدَّمة لسكان البلاد الذين يُقدّر عددهم بأكثر من 11 مليون نسمة.
للمزيد:
Africa News (2020). South Africa: President Cyril Ramaphosa welcomes Cuban health professionals to support efforts to curb spread of Coronavirus COVID-19. https://www.africanews.com/2020/04/27/coronavirus-south-africa-president-cyril-ramaphosa-welcomes-cuban-health-professionals-to-support-efforts-to-curb-spread-of-coronavirus-covid-19/
ALEXANDRA SIFFERLIN (2014). Why Cuba Is So Good at Fighting Ebola. Time، https://time.com/3556670/ebola-cuba/
Berridge، G. R. “Diplomacy and the Angolan/Namibia Accords.” International Affairs 65، no. 3 (1989): 463-479.
Gleijeses، P. (2006). Moscow’s Proxy? Cuba and Africa 1975–1988. Journal of Cold War Studies، 8(4)، 98-146.
Kahn، Owen Ellison. “Cuba’s Impact in Southern Africa.” Journal of Inter-American Studies and World Affairs 29 (Fall 1987): 33-54.
Lynsey Chutel (2016). Africa is not conflicted about Fidel Castro’s legacy. Quartz Africa، https://qz.com/africa/846337/cuban-leader-fidel-castro-was-a-liberation-icon-in-africa-and-remained-committed-to-the-continent/
Martin Plaut (2016). How Fidel Castro became a hero and a villain in the Horn of Africa. Quartz Africa، https://qz.com/africa/859579/in-ethiopia-and-somalia-fidel-castros-legacy-is-very-different/
World Politics Review (2020). How the COVID-19 Pandemic Is Revitalizing Cuba’s Medical Diplomacy. https://www.worldpoliticsreview.com/trend-lines/28671/how-the-covid-19-pandemic-is-revitalizing-cuba-s-medical-diplomacy