من الواضح أنَّ جائحة فيروس كورونا تُشكِّل أكبر تَحَدٍّ عالميّ منذ الحرب العالمية الثانية. بات الجميع يتحدَّث عن سرديَّات الحرب والمقاومة، وإعداد مسرح العمليات من أجل هزيمة العدو غير المرئي.
فرضت الدّول حالات الطوارئ، وتم تبنّي سياسات التدخل التسلُّطية التي تُوسِّع من قبضة الدولة في مواجهة المواطنين، وهو ما قد يُمثّل أيضًا أخطر تهديد للمكاسب الديمقراطية منذ نهاية الحرب الباردة.
تتحرك البلدان الإفريقية التي تعاني في معظمها من هشاشة نظامها وبنيتها التحتية الصحية باتجاه فرض الإغلاق الصحي، وإعلان الطوارئ من أجل مكافحة الوباء.
ومع وضوح فشل السياسات النيوليبرالية، وسعي الدول لاتخاذ تدابير حمائية، وتوسيع إنفاقها الاجتماعي؛ اتَّجه النقاش العام إلى التوكيد على فعالية نهج الدولة التسلطية المتدخلة؛ مثل النموذج الصيني، وهو ما يُقلّل من بريق النظم الديمقراطية في أذهان الأفارقة.
لقد أظهرت تجربة مواجهة فيروس كورونا أنَّ “اليد القوية” للدولة يمكن أن تُوَفِّر قدرًا أكبر من الأمان في مقابل بعض القيود على الحريات الشخصية.
سوف يسعى بعض الرؤساء في إفريقيا بالفعل إلى استغلال هذا الشعور من أجل تكريس سلطاتهم الاستبدادية المطلقة، أو تأجيل وُعُودهم الإصلاحية على أقل تقدير. ولعل الضحية الأولى في هذا المجال تتمثل في عرقلة الانتخابات العامة المقررة هذا العام في مختلف أنحاء القارة.
أزمة كورونا والانتخابات في إفريقيا:
تُعَدّ العمليات الانتخابية من أبرز ضحايا فيروس كورونا في إفريقيا؛ حيث تَمَّ في أغلب الحالات استخدام المُبرِّرات الطبية الخاصة بالحجر الصحي والإغلاق لتحقيق مآرب سياسية.
ففي ظل واقع منقسم وانتقال سياسي مُتعثّر؛ أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد تأجيل الانتخابات التي كان مقررًا لها أغسطس القادم، كما أنه فرض حالة الطوارئ لمدة خمسة أشهر لمجابهة مخاطر جائحة كورونا.
لقد ذهبت سَكْرَة حالة الإعجاب بظاهرة آبي أحمد، وجاءت الفكرة التي أظهرت واقعًا إثيوبيًّا بالغ التعقيد على مدى العامين الماضيين؛ حيث اشتبكت الجماعات الإقليمية والعرقية والتنظيمات السياسية المتنافسة حول القضايا الأيديولوجية والسلطة والموارد، ممَّا أدَّى إلى مقتل الآلاف وتشريد ملايين الإثيوبيين.
وإذا كانت كل نازلة كاشفة، فقد أدَّى تفاقم الأزمة السياسية في أديس أبابا إلى ظهور الوجه الآخر للزعيم الإصلاحي؛ حيث لجأت حكومته إلى تبنّي نفس التكتيكات القمعيَّة بحقّ النشطاء والمعارضين، والتي تذكّرنا بالماضي الاستبدادي الذي تعهّد آبي أحمد نفسه بالتخلي عنه.
في ظل هذا المشهد الإثني والسياسي المنقسم؛ كان من المفترض أن تكون الانتخابات المخطط لها هذا العام تتويجًا لعملية الانتقال الديموقراطي الصعب. بَيْدَ أنَّ فيروس كورونا الذي يدعم قبضة الدولة المتدخلة قد ترك إثيوبيا أمام معضلة دستورية لمواجهة إمكانية حالة الفراغ الدستوري بعد انتهاء مدة البرلمان الحالي.
على العكس من ذلك؛ فإذا توجهنا نحو غرب القارة نجد أن غينيا ذهبت دون خوف من كورونا إلى صناديق الاقتراع في أواخر مارس لانتخاب أعضاء البرلمان، والتصويت على التعديلات الدستورية المثيرة للجدل. قاطعت جماعات المعارضة الرئيسية الانتخابات، واتهمت الرئيس “ألفا كوندي” بالتحايل على الدستور من أجل الاحتفاظ بالسلطة لفترة أطول.
واللافت للانتباه أن تفشّي فيروس كورونا حالَ دون وساطة المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا التي حاولت وَقْف الاستفتاء على الدستور. وعلى الرغم من أن الدستور الجديد الذي حظي بتأييد أغلبية الناخبين لا يزال يَقْصر مدة الرئاسة على فترتين؛ لكنه لا ينطبق بأثر رجعي، مما يعني أن الرئيس “ألفا كوندي” البالغ من العمر 82 عامًا قد يسعى إلى الترشح لولاية أخرى في الانتخابات القادمة، المقرّر إجراؤها في ديسمبر 2020م.
وقياسًا على الحالتين الغينية والإثيوبية؛ سوف تتأثر باقي الانتخابات الإفريقية المقرَّر إجراؤها في عام 2020م بالفعل بـفيروس كوفيد-19، مع احتمال أن يكون لقرارات التأجيل أو التدخل في الإجراءات الخاصة بتسجيل الناخبين والاقتراع العام تأثير كبير على مصداقية الانتخابات، وبناء الثقة السياسية، والالتزام بحدود الفترة الزمنية للرؤساء وأعضاء البرلمان في جميع أنحاء القارة.
يقينًا سوف يتم تسييس قرارات تأجيل، أو مراجعة البرامج الانتخابية لهذا العام؛ سواء من جانب الحكومات أو أحزاب المعارضة. وبالفعل تستخدم جماعات المعارضة في جميع أنحاء القارة نظريات المؤامرة؛ لانتقاد استجابة الحكومات لفيروس كورونا.
على سبيل المثال ادَّعى الأمين العام لحزب المعارضة الرئيسي في غانا أن حظر التجمعات العامة هو مؤامرة لتزوير الانتخابات.
يأتي هذا في الوقت الذي تواجه فيه العديد من الانتخابات في القارة بالفعل عجزًا كبيرًا في الثقة ويقينًا راسخًا من الأحزاب الخاسرة بوجود أدلة على مخالفات وانتهاكات صارخة. ففي عام 2019م، شهدت جميع الانتخابات الرئاسية التسعة في القارة مخالفات مزعومة؛ حيث قامت الأطراف الخاسرة في 7 حالات منها بتقديم طعون على النتائج النهائية أمام المحكمة. وعليه فإن تبعات أزمة كورونا وحالة الجدل المصاحبة لها سوف تكرس من هذا الانقسام بين الحكومات وقوى المعارضة بشأن إدارة عمليات الانتقال السياسي عبر صناديق الاقتراع.
وتطرح حالة ملاوي نموذجًا آخر؛ حيث قضت المحكمة الدستورية العليا في فبراير الماضي بإلغاء نتائج الانتخابات العامة التي أجريت في مايو 2019م، وفاز فيها الرئيس “بيتر موثاريكا” بفارق بسيط. استند قرار الإلغاء إلى وجود مخالفات واسعة النطاق، كما أمرت المحكمة بإعادة التصويت في غضون 150 يومًا. كانت فرص المعارضة مُبشِّرة؛ حيث اكتسبت تأييدًا شعبيًّا واسع النطاق. بَيْدَ أنَّ قدوم كورونا غيَّر الأوضاع؛ حيث أمر الرئيس “موثاريكا” بإغلاق المدارس وحَظْر التجمعات العامة الكبيرة؛ مما وضَع حدًّا فعليًّا للحملات الانتخابية. فهل يتم تأجيل الانتخابات، المقرر إجراؤها في 2 يوليو القادم، ويستمر الرئيس موثاريكا في منصبه لأسباب تتعلق بفرض الطوارئ الصحية في البلاد؟
توظيف الدين والجدل حول كورونا:
تم انتقاد الرئيس التنزاني “جون ماجوفولي”؛ لأنه طلب من الناس الاستمرار في الذهاب إلى أماكن العبادة في وقتٍ يجب فيه زيادة القيود للحدّ من تفشي فيروس كورونا. كما أعلن الرئيس الصلاة والتضرع إلى الله في جميع أنحاء البلاد لمدة ثلاثة أيام من أجل طلب الوقاية والشفاء من الله.
ومن جهة أخرى؛ أدَّى الخلاف حول إجراءات مكافحة فيروس كورونا في الخرطوم، إلى مواجهة مفتوحة بين قادة البلاد العسكريين والمدنيين، ممَّا يؤكّد هشاشة الانتقال السياسي المتعثر في البلاد. لقد أعلن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إقالة والي لخرطوم الفريق أحمد عبدون؛ نظرًا لتحدّيه أمرًا حكوميًّا بإلغاء صلاة الجمعة والجماعة في الخرطوم وأم درمان.
ومن المعروف أن الوالي المُقَال اتَّبع فتوى مجمع الفقه الإسلامي التي تقضي بعدم وقف الصلاة في المساجد؛ ما لم يتم تأكيد حالة الوباء العام، ووقف العمل في الأسواق وغيرها من التجمعات العامة. وتعكس هذه الحادثة مدى صعوبة تفكيك شبكات المصالح والهيمنة المرتبطة بالنظام السابق. وبالتزامن مع هذا الموقف قامت مجموعة من أنصار النظام السابق بالتظاهر أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، وطالبوا الجيش بالتدخل والإطاحة بحكومة حمدوك واستلام السلطة.
خاتمة:
استنادًا إلى كل ما سبق؛ فإن استدعاء التاريخ يؤكد لنا أنَّ الديمقراطية سوف تكون لا محالة أبرز ضحايا فيروس كورونا في إفريقيا.
ففي العصور الوسطى، ومع تفشّي مرض الطاعون في جميع أنحاء أوروبا، أغلقت المدن الإيطالية موانئها، ووضعت ضحايا الطاعون في الحجر الصحي، وعزلت عائلاتهم، وقيَّدت تحركات جميع السكان. كانت هذه إجراءات استثنائية استجابةً لأوقات أزمة غير عادية؛ حيث أودى الوباء المميت بحياة أكثر من 25 مليون شخص في أوروبا على مدى أربع سنوات فقط.
لم يكن مستغربًا أن يكون ثمن هذه التدابير هو الأقرب إلى حالة الفطرة الأولى –وفقًا لتعبير توماس هوبز- حينما تخلَّى البشر طواعيةً عن حقوقهم الطبيعية مقابل الأمن. ربما يحدث هذا مرة أخرى اليوم في إفريقيا. عندئذ يكون أحد تصوُّرات عالم ما بعد أزمة كورونا في إفريقيا انتظار موجة رابعة من الديمقراطية لاستعادة ما حقَّقه الأفارقة من مكاسب عبر نحو ثلاثين عامًا أو يزيد.