روضة علي عبد الغفار
صحفية متخصصة في الشأن الإفريقي
“لا أحد منا يمكن أن يحقق النجاح بأن يعمل لوحده”، هكذا قال الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا، وهكذا تحاول الدول إقامة التحالفات على سبيل التعاون والاتحاد، لكن بين الاتحاد والخصومة وقفت دول غرب إفريقيا؛ حينما اعلنت مالي وبوركينا فاسو والنيجر تحالفهم وقطع علاقتهم بالمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس”.. فهذا اتحاد من جانب وخصومةٌ من جانب آخر..
وبين آمال الشعوب وألعاب السياسة؛ ما هي تداعيات الاتحاد الكونفدرالي لدول الساحل؟ وهل للأيادي الخارجية دور فيه؟ وهل هو طريق لحرية هذه الدول الإفريقية من التَبعية أم العكس؟ وهل هذه بداية النهاية لمنظمة إيكواس؟ هذا وأكثر تتناوله “قراءات إفريقية” في هذا التحقيق..
بين الوهم والحقيقة:
احتفلت الأنظمة العسكرية في النيجر ومالي وبوركينا فاسو في أوائل يوليو الماضي بانفصالها عن بقية دول غرب إفريقيا، حيث وقعت على معاهدة لإنشاء اتحاد كونفدرالي بينهم، وشهدت القمة الأولى للدول الثلاث، التي انسحبت جميعها من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) هذا العام، دعوات لتعزيز التعاون في العديد من القطاعات.
وجاء الخروج من المجموعة الاقتصادية في الوقت الذي ابتعد فيه الثلاثي عن فرنسا، وسط اتهامات بأن باريس تتلاعب بالكتلة، حيث دعا الجنرال الحاكم في النيجر “عبد الرحمن تياني” إلى أن يصبح التكتل الجديد بعيدًا عن قبضة القوى الأجنبية. وقال تياني: “نحن بصدد إنشاء نظام اقتصادي تكاملي للشعوب، بدلًا من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا التي تخضع توجيهاتها وتعليماتها لقوى غريبة على إفريقيا[1].
في هذا الصدد يقول الباحث السنغالي المتخصص في الشأن الإفريقي، د. محمد بشير جوب، في حديثه لـ “قراءات إفريقية” إن قرار إنشاء الكونفدرالية لا يحمل في جوهره معنى جديدًا، وهو اجتماع هذه الدول في منظمة إقليمية مع احتفاظ كل دولة بسيادتها، وعليه يرى “جوب” أن الهدف من انتقاء مصطلح “الكونفدرالية” هو اختلاق زخم إعلامي للاستهلاك المحلي، خاصة بعدما فشل العسكر في تحقيق وعوده الكثيرة.
وأضاف أن الهدف من إنشاء الكونفدرالية حسب المسؤولين هو مواجهة التحديات التي تواجه هذه الدول الثلاثة خاصة التحديات الأمنية، ثم دعم مستوى التنسيق السياسي والاقتصادي والعسكري، ولكن سياق اتخاذ القرار وطريقة تعاطي مسؤولي هذه الدول معه يؤكد وجود أهداف غير معلنة تتمثل في سعي المجالس العسكرية في الدول الثلاثة للحصول على تأييد شعبي يضمن بقاءهم في السلطة أطول فترة ممكنة، بحسب “جوب”.
وأردف “جوب” قائلًا: لقد عودتنا القيادات العسكرية استخدام مثل هذه الشعارات للهروب من الأولويات التي ينتظرها الشعب؛ وهي إنهاء الفترة الانتقالية والرجوع إلى العمل بمقتضيات دولة المؤسسات والحكم الدستوري.
وأضاف أنه كان يمكن تفهم القرار ودعمه لو تم اتخاذه بشكل مدروس وشارك فيه الشعب عبر مؤسساته الشرعية، ولكن السياق الذي تم فيه اتخاذ القرار يدل على العاطفية، ويعتقد “جوب” أن العسكر مازال في معادلة الفعل ورد الفعل مع منظمة إيكواس، وهذا سيجر قادة العسكر إلى الحماسة وارتكاب الأخطاء في حق شعوبهم.
بينما يرى الباحث في العلاقات الدولية بمالي، د. محمد آغ إسماعيل، أنه من المبكر التنبؤ بمستقبل الكونفدرالية الوليدة، لكن هناك عوامل نجاح، منها: توفر إرادة سياسية لدى الأنظمة العسكرية، وضرورة أمنية للتنسيق والتعاون أكثر من أي وقت مضى بين هذه الدول نتيجة المشاكل الداخلية والتدخلات الخارجية.
وأشار “إسماعيل” في حديثه لـ “قراءات إفريقية” أن هناك حاجة للأنظمة العسكرية لشرعنة التوجه الوطني والسيادي؛ من خلال الاستفادة من تطلع الشعوب للتغيير والاستقلالية عن الغرب الذي لم تنجح سياساته في تحقيق التنمية المستدامة وتوفير الأمن والاستقرار في الساحل الإفريقي.
ويعتقد “إسماعيل” أن تأسيس الاتحاد الكونفدرالي في صالح الشعوب والدول؛ إن نجح في تحقيق أهدافه المعلنة المتمثلة في الاستقلالية والسيادة والحكم الرشيد وتحقيق التنمية والعدالة لجميع مواطني هذه الدول دون تمييز إثني أو مناطقي، لكن غالبًا ما يكون الالتزام بالأهداف صعب المنال بسبب السعي لتحقيق أهداف خاصة بالقادة.
ما وراء الاتحاد:
“سنقطع كل الروابط التي تبقينا في العبودية”، هذا ما قاله زعيم الحكومة الانتقالية في بوركينا فاسو إبراهيم تراوري، في مقابلة أجريت معه في فبراير الماضي[2]، فعلى مدى أكثر من عقد من الزمان كانت فرنسا تقود مكافحة الارهاب في منطقة الساحل، وقد تغير هذا مع انسحاب القوات الفرنسية من مالي من عملية برخان في عام 2022م، ومغادرة عملية سابر الفرنسية من بوركينا فاسو في عام 2023م، وعليه فقدت باريس نفوذها في المنطقة.
ويبدو أن تحالف دول الساحل يشكل امتدادًا لجهود تبذلها الدول الثلاث لجعل مكافحة الإرهاب مهمة خاصة بها، ولكن تجدد انعدام الأمن في منطقة الساحل يُظهِر أن الرغبة في الاستقلال ليست كافية لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
كما أن أعضاء التحالف الجديد ملتزمون بتمويل المبادرة من خلال مساهماتهم الخاصة، ولكن نظرًا لقدراتهم المحدودة فمن غير المرجح أن يتمكنوا من تمويل الحرب ضد الإرهاب بمفردهم. وهنا يظهر تساؤل؛ هل هناك قوة خارجية تدفع في اتجاه انشاء هذا الاتحاد؟
وتتوجه الأنظار إلى قوة مثل روسيا؛ اللاعب الجديد في غرب إفريقيا والمنافس لفرنسا، حيث أن إعلان اتحاد كونفدرالي لدول الساحل يخدم النفوذ الروسي في المنطقة، وبحسب عضو البرلمان الروسي، سيرغي ألتوخوف، فإن التحالف سيسهّل مهمة الفيلق الإفريقي (مجموعة فاغنر) التابع لوزارة الدفاع الروسية لتحقيق الاستقرار في المنطقة.
كما أن رواسب الذهب في مالي وبوركينا فاسو يمكن أن تصبح مصدرًا إضافيا لتمويل الإنفاق العسكري الروسي، وستكون احتياطيات اليورانيوم الكبيرة في النيجر بدورها قادرة على تلبية جزء من احتياجات الطاقة النووية الروسية[3].
في هذا الصدد يرى د. محمد بشير جوب أنه لا يمكن نفي العلاقات الوطيدة التي تربط روسيا بهذه الدول خاصة في المجال العسكري والاقتصادي، وذلك باعتراف قيادات الدول الثلاثة.
وأشار إلى أنه من غير المستبعد أن تكون روسيا أول داعم لخطوة تأسيس الاتحاد لتعزيز حضورها في إقليم غرب إفريقيا وتكون في وضع أفضل للتنافس مع غريمها التقليدي أمريكا والدول الأوروبية، قائلًا: إذا لم يكن إنشاء الكونفدرالية بإيعاز مباشر من روسيا فلا يمنع أن تكون خدمة جليلة لروسيا لتحقيق مصالحها الاستراتيجية.
إيكواس.. الانهيار البطيء!
هذا الانسحاب الثلاثي من منظمة إيكواس يشكّل تحديًا خطيرًا لإحدى أهم المنظمات الإقليمية في القارة؛ والتي حقّقت نجاحات معتبرة على الصعيد الاقتصادي، خاصة ما يتعلق بحرية تنقل الأشخاص والبضائع بين دول المنظمة الـ 15 بجواز سفر موحّد؛ فضلًا عن كونها أول منظمة إفريقية تركز على البعد الأمني وأهميته لتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
وقد ساهمت المنظمة في تسوية الصراعات والحروب الأهلية في ليبيريا، وسيراليون، وغينيا بيساو (في تسعينيات القرن الماضي)؛ وساحل العاج 2002-2010، ومالي 2013، وغامبيا 2016، وبحلول عام 2017 باتت جميع دول المنظمة لديها حكومات دستورية بقيادة مدنية.
يقول الخبراء إن تفكك التكتل قد يؤدي إلى تراجع أكثر من خمسة عقود من الدبلوماسية الإقليمية، وتفكيك التعاون العسكري وسط انعدام الأمن المتزايد في المنطقة، وشل العلاقات الاقتصادية.
وقد عبر عن ذلك رئيس مفوضية الكتلة عمر توراي، في القمة الأخيرة بقوله: إن حرية الحركة والسوق المشتركة التي تضم 400 مليون نسمة باتت معرضة للخطر حال انسحاب الدول الثلاث، وإن تمويل مشروعات اقتصادية بقيمة تزيد على 500 مليون دولار في بوركينا فاسو ومالي والنيجر ربما يتوقف[4].
وأوضح توراي أنه قد تكون هناك إجراءات جديدة لفرض حصول مواطني هذه الدول الثلاث على تأشيرات لدخول دول أخرى في المنطقة، وهذا سيشكل تحديًا اجتماعيًا وليس اقتصاديًا فحسب، في ظل وجود العديد من الإثنيات الممتدة في أكثر من دولة.
كما أن هذا الانسحاب قد يؤدي إلى إلغاء اتفاقية التجارة الحرة وانتقال السلع والخدمات، والعمل بدون تأشيرة، وإعادة الحواجز الجمركية بين دول المنظمة ودول الساحل الإفريقي، كما سيعرقل جهود الإيكواس كمنظمة للبحث عن عملة مختلفة عن الفرنك الفرنسي الإفريقي الذي تتعامل به 8 دول في المنظمة “الدول الفرانكفونية”، في حين تتعامل باقي دول المنظمة بعملتها الوطنية.
في هذا الصدد يرى د. محمد بشير جوب، أن التأثير السلبي على إيكواس حتمي ولا مفر منه، وأن الانعكاسات السلبية ستطال أيضا دول الكونفدرالية الثلاثة نتيجة ترابطها الجغرافي والديموغرافي مع بقية دول الإيكواس، فدول غرب إفريقيا عموما هي الخاسر الأول وراء هذا القرار. وأضاف أن هذا سيكون عامل ضغط على المسؤولين لتصحيح الأخطاء داخل إيكواس وإعادة ضم هذه الدول المحورية الثلاثة في المنطقة.
بينما يؤكد خبير الشؤون الإفريقية، د. بدر شافعي، لـ “قراءات إفريقية” أن إيكواس في مفترق طرق الآن وتواجه تحديات صعبة، والتعامل معها بنجاح يضمن لها الاستمرار والبقاء، أما الفشل في مواجهتها قد يؤدّي إلى ضعفها ثم انهيارها لاحقًا؛ الأمر الذي ستكون له ارتداداته السلبية على باقي المنظمات الإقليمية في القارة خاصة في وسطها وشرقها.
وعن السيناريوهات المطروحة أمام المنظمة للتعامل مع موضوع الانسحاب يرى “شافعي” أن السيناريو الأول هو السعي لعودة هذه الدول الثلاث مرة أخرى للمنظمة، ويمكن أن يتم ذلك عبر جهود الوساطة؛ إذ كلّفت المنظمة رئيسَي السنغال وتوغو بالقيام بذلك في إطار علاقتَيهما الوطيدة مع المجالس العسكرية في دول التّحالف.
ويعتقد “شافعي” أن ذلك سيتطلب إعادة النظر في الشروط التي وضعتها المنظمة للمجالس العسكرية في دول التحالف ومنها الفترة الانتقالية القصيرة، وعدم ترشح قادة الانقلابات في الانتخابات القادمة، وأنه يجب تعزيز جهود مكافحة الإرهاب في محاولة لاستمالة هذه الدول من جديد.
بينما السيناريو الثاني بحسب “شافعي” هو قيام المنظمة بالتصعيد ضد هذه الدول الثلاث، خشية قيام قيادات عسكرية في دول أخرى بإجراءات مماثلة؛ ما قد يؤدي إلى انهيار المنظمة وانفراط عقدها.
ويفترض هذا السيناريو استمرار العقوبات الاقتصادية المفروضة على الدول الثلاث، مع إمكانية فرض قيود التأِشيرة على دخول مواطني هذه الدول إلى دول المنظمة؛ ما يعني حرمانها من أسباب العيش وقطع الروابط الإثنية لهذه الدول الثلاث مع دول الجوار.
وقد تلجأ المنظمة إلى توثيق العلاقةَ مع فرنسا والولايات المتحدة كخيار أخير لمواجهة النفوذ الروسي الداعم لهذه الدول الثلاث، فضلًا عن استغلال النفوذ الأميركي والفرنسي في المؤسسات الاقتصادية العالمية كالبنك والصندوق الدوليين؛ لمنع تدفق المساعدات إلى هذه الدول الثلاث، بحسب “شافعي”.
وختامًا.. فإن دول غرب إفريقيا تريد التغلب على عواقب الحقبة الاستعمارية للاستقلال والتحرر، لكن قطع الرابطة الإقليمية له تداعيات خطيرة قد تؤدي إلى نتائج عكسية، ورغم أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا لها إخفاقات؛ إلا أن البقاء مع محاولات التغيير خير من قطع الروابط الإقليمية، وقديمًا قالوا: “كَدَر الجماعة خيرٌ من صفو الفُرقة”. ومع تصاعد التوترات في الإقليم وزيادة التحديات الأمنية؛ هل تعدل مالي وبوركينا فاسو والنيجر عن قرارها؟ أم تتفكك احدى أكبر المنظمات في إفريقيا؟
…………………………………………………………….
[1] https://www.africanews.com/2024/07/07/coup-hit-nations-of-niger-mali-and-burkina-faso-form-sahel-alliance/
[2]https://www.aljazeera.com/features/2024/2/23/burkina-faso-mali-and-niger-debate-exiting-cfa-zone?traffic_source=KeepReading
[3]https://www.aljazeera.net/politics/2024/7/13/%D8%B5%D8%AD%D9%8A%D9%81%D8%A9-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%A1-%D8%AB%D9%84%D8%A7%D8%AB-%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A9
[4]https://asharq.com/politics/93269/%D8%A5%D9%8A%D9%83%D9%88%D8%A7%D8%B3-%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D9%87%D9%85%D9%86%D8%A7-%D8%AE%D8%B7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D9%83%D9%83-%D8%A8%D8%A7%D9%86%D8%B3%D8%AD%D8%A7%D8%A8-%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%AA%D9%82%D9%88%D8%AF%D9%87%D8%A7-%D9%85%D8%AC%D8%A7%D9%84%D8%B3-%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A9/