إنَّ إفريقيا، بمواردها الطبيعية الوفيرة، وقوّتها الضاربة من سُكانها الشباب، قارَّةٌ ذات إمكانيات لا حدود لها. ومع ذلك؛ فإنها تتخلّف عن الرَّكْب بعيدًا عن مناطق العالم الأخرى. لماذا تتَّسع هذه الفجوة؟ لقد شهدت إفريقيا بالفعل تطوُّرات ايجابيَّة في مُعَدَّلات وَفَيَات الأطفال الرُّضَّع ومتوسط العمر المتوقع، لكنَّها لا تزال تعاني من الفَقْر المُدْقِع وضَعْف النُّمُوّ الاقتصادِيّ، وتَرَاجُع الصناعة، وتخلُّف القطاع الزراعيّ، وضَعْف عمليَّة التكامل الإقليميّ.
في هذا السِّياق يطرح جاكي سيلرز -رئيس مجلس أمناء معهد الدراسات الأمنية في جنوب إفريقيا- رؤية مستقبلية لإفريقيا التي نحلم بها في القرن الواحد والعشرين. في كتابه الذي صدر بداية هذا العام عن دار نشر جوناثان بول بعنوان: “إفريقيا أولاً: إطلاق شرارة ثورة النمو”؛ يطرح سؤالاً: ما الذي يجب فعله لإطلاق العنان لإمكانيات إفريقيا، وتحقيق حلم النهوض؟
في هذا الكتاب؛ يبحث سيلرز في موقع القارة الراهن، وأين ستكون في عام 2040م إذا استمرت على المسار الحالي. يضع الكتاب أحد عشر سيناريو تمَّ تطويرها للمساعدة في تحويل ثروات إفريقيا إلى إمكانيات خلَّاقة من أجل تعديل مسار نموّها بشكلٍ جذريّ. يُحدّد سيلرز بالضبط ما هي السياسات والتدخلات السياسية والتكنولوجية والاقتصادية اللَّازمة لوضع إفريقيا أولاً. إذ يمكن لمختلف الدول في القارة اللّحاق برَكْب التَّقَدُّم؛ على الرغم من أن ذلك يتطلب قَدْرًا كبيرًا من القفزات السريعة.
يجب النظر في أربع ملاحظات أساسية عند النظر في سيناريوهات المستقبل الإفريقي، وقبل قراءة هذا الكتاب المهم:
أولاً: من غير المقبول الحديث عن إفريقيا كوحدة جغرافية واحدة؛ نظرًا لتعدد النظم الإيكولوجية والتنوع السكاني بها. ستصبح بعض الدول الإفريقية أكثر جفافًا، بينما سيصبح البعض الآخر أكثر رطوبة. على سبيل المثال: سوف تختلف التأثيرات المناخية في بوروندي وبوركينا فاسو؛ حيث تُمثل الزراعة أكثر من 80٪ من النشاط الاقتصادي بدرجةٍ كبيرةٍ عمَّا يحدث في أنغولا وجنوب إفريقيا وموريشيوس؛ حيث تمثل الزراعة أقل من 10٪.
ثانيًا: في حين أن آثار تغيّر المناخ ستكون كبيرة، فهي ليست سوى مُحَرِّك واحد للتغيير بين العديد من العوامل بما في ذلك النمو السكانيّ، والتقدّم التكنولوجيّ، والتطوّر الحكوميّ. لن تعتمد مسارات المستقبل على تغيّر المناخ وحده، بل على الاستجابات والجهود البشريَّة التي تقود عمليَّة التغيير.
ثالثاً: إنَّ الاهتمام المشترك بالحلول المناخية يمكن أن يوفِّر منصةً مهمَّة لأشكالٍ جديدة من التعاون بين الدول الإفريقية. وقد تشجّع أبعاد الكارثة العابرة للحدود أشكالاً جديدة من التعاون بين الدول الإفريقية وبقية دول العالم.
وأخيرًا: كان تاريخ إفريقيا في مرحلة ما بعد الاستعمار تاريخًا للتكيُّف مع الظروف الصعبة. وسيواصل الأفارقة التكيُّف مع بيئة مناخية أكثر قسوةً ومتغيرة بشكلٍ عامّ. لكنَّ طريق التكيُّف يمكن أن يكون أسهل بكثير إذا كان مُعَبَّداً بشكلٍ جيّد.
تحديات تغيُّر المناخ:
يمكن أن تكون الغابات الإفريقية هي أحد مفاتيح تغيير قواعد اللعبة من حيث معالجة تغير المناخ. إذ يمكنها امتصاص ما يقرب من 2.6 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون المنبعث من حرق الوقود الأحفوري كل عام. وعلى الرغم من تحسين الإنتاج الزراعي بشكلٍ كبيرٍ عن طريق زيادة مساحة الأراضي المروية، واستخدام المزيد من الأسمدة والبذور المعدلة وراثيًّا، وتحسين الممارسات الزراعية فإنَّ تغيُّر المناخ لا يزال يُشَكِّل تهديدًا كبيرًا وسيَحُدّ من هذه التحسينات، خاصَّةً في شمال وغرب إفريقيا؛ حيث ترتفع درجات الحرارة وتتغير معدلات هطول الأمطار.
جدير بالذكر أنه في عام 2006م، وقعت ثلاثة فيضانات رئيسية (عادة تحدث كل 10-20 سنة) في غضون شهرين في شرق إفريقيا، ممَّا أدى إلى تشريد ما يقرب من مائتي ألف شخص في إثيوبيا والصومال وكينيا، كما تم تدمير آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية. وقد تأثر إنتاج الذرة والقمح بالفعل في العديد من البلدان، وكذلك مصائد الأسماك في منطقة البحيرات العظمى وأشجار الفاكهة في منطقة الساحل.
ومن المرجح أن تصبح حالات الجفاف والفيضانات أكثر تكرارًا وأكثر صعوبة في التنبؤ بها، ويمكن أن تؤدي إلى تفاقم قضايا الأمن الغذائي والهجرة القسرية.
وفي عام 2017م في سيراليون، أدت أسابيع من الأمطار الغزيرة إلى انهيارات طينية كارثية قتلت أكثر من 600 شخص خارج العاصمة فريتاون.
وفي عام 2018م، تسببت الفيضانات الشديدة في النيجر في مقتل أكثر من 80 شخصًا، وتشريد خمسين ألف شخص آخر، وتجريف 400 هكتار من الأراضي الزراعية ونُفُوق 26 ألف رأس من الماشية. وفي الوقت نفسه، فإن هذه البلدان لديها بعض أسرع معدلات النمو السكاني في العالم.
استجابات إفريقية لتغير المناخ:
لقد شهدت إفريقيا بالفعل بعض أشد آثار تغيُّر المناخ حتى الآن. وقد حدَّدت الهيئة الحكومية الدولية المَعْنِيَّة بتغيُّر المناخ منطقة الساحل وغرب إفريقيا على أنها “بُؤَر ساخنة” لتغيُّر المناخ يُتوقع أن تُوَاجِه تأثيرات غير مسبوقة؛ بسبب مناخها الحارّ ومعدلات الجفاف الحالي، وارتفاع معدلات الفقر، والاعتماد الكبير على الزراعة البعلية، مقارنة بمناطق العالم الأخرى. من أجل الاستجابة لهذا التحدِّي البيئي، يمكننا إمَّا اللجوء إلى إجراءات التخفيف أو تكييف أسلوب حياتنا.
أولاً: إجراءات التخفيف:
تركّز هذه الجهود على الحدّ من الانبعاثات، وتثبيت مستويات غازات الاحتباس الحراري الموجودة في الغلاف الجوي. وبهذه الطريقة، يُعَدّ التخفيف استجابةً طويلة الأجل لتغير المناخ؛ حيث ستظهر فوائده فقط خلال النصف الثاني من القرن الحالي. وتمثل اتفاقية باريس مجهودًا عالميًّا للتخفيف من الآثار المستقبلية لتغيُّر المناخ؛ من خلال محاولة تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الآن. وبموجب تعديل كيغالي لبروتوكول مونتريال (اتفاق عام 1987م لحماية طبقة الأوزون)، الذي دخل حَيِّز التنفيذ في يناير 2019م، ستقوم جميع البلدان بالتخفيض التدريجي لإنتاج واستهلاك مُرَكَّبَات الكربون الهيدروفلورية، واستبدالها بمزيدٍ من المنتجات صديقة البيئة.
لا شك إن إفريقيا تمتلك بعض القدرة على التخفيف من تغيُّر المناخ -تُعتبر زراعة الأشجار الضخمة مثالاً واحدًا فقط-، ولكنها تحتاج إلى توجيه جهد كبير في مجال التكيُّف. ففي يوليو عام 2019م، زعمت إثيوبيا أنها زرعت أكثر من 353 مليون شجرة في 12 ساعة فقط كجزء من حملة أوسع لإعادة التشجير؛ “كمثال للقدرات الممكنة”.
ثانيًا: إجراءات التكيف:
أما الاستجابة المحتملة الثانية؛ فإنها تتمثل في التكيف مع الحياة في مناخ متغيّر، أي مع التغيير المحصور بالفعل في النظام المناخي. ويمكن الإشارة إلى عددٍ من الجهود الإفريقية في هذا المجال؛ لعل أبرزها:
1- بناء الأسوار البحرية، ففي يونيو 2018م، أكملت تنزانيا بناء 2.4 كيلو مترًا من الأسوار البحرية التي تعمل كمصدات للأمواج بتكلفة 8.34 مليون دولار أمريكي في محاولة لحماية دار السلام والمناطق المحيطة بها من ارتفاع منسوب مياه البحر. ووفقًا للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية؛ فإن البلاد تعاني من خسارة نحو 200 مليون دولار أمريكي سنويًّا نتيجة فقد الأراضي والبنية التحتية بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر.
على الجانب الآخر من القارَّة، تُعَدّ لاغوس واحدةً من أكبر المدن وأسرعها نموًّا في العالم، ولكن المدينة تقع على ارتفاع أقل من متر واحد فوق مستوى سطح البحر. لقد كانت لاغوس، وما زالت، مدينة تتَّجه صوب البحر. في الواقع، إنَّها تتوسع باتجاه المحيط الأطلسي من خلال تطورات باهظة الثمن على الأراضي المستصلحة حديثًا من ناحية والاكتظاظ السكاني في مستوطنات الأحياء الفقيرة من ناحية أخرى. يعيش 70% من سكان لاغوس في أحياء فقيرة، بكثافة سكانية تبلغ عشرة أضعاف كثافة سكان مدينة نيويورك، لذا فإنَّ حدوث عاصفة قويَّة قد تؤثر على حياة الملايين. علاوة على ذلك، من المتوقع أن يبلغ متوسط ارتفاع مستوى سطح البحر 30 سم بحلول عام 2050م ونحو 1.8 متر بحلول عام 2100م.
وفي هذا السياق، يُتَوقَّع أن يُوفِّر “سور لاغوس العظيم” الحماية من تغيُّر المناخ، ولكنْ فقط للنيجيريين الذين يستطيعون تحمُّل تكاليف العيش في إيكو أتلانتيك -وهي مدينة ضخمة على غرار دبي تحت الإنشاء-. سيحمي هذا الجدار البحري -الذي يبلغ طوله 8.5 كيلو متر- شواطئ جزيرة فيكتوريا والمراحل الأولى من مدينة ليكي (وهي مدينة تقع على شبه جزيرة إلى الشرق من لاغوس) من التآكل الساحليّ. بَيْد أن الصورة تبدو قاتمة تمامًا بالنسبة لشعب ماكوكو ومناطق العشوائيات الأخرى في لاغوس.
2- مبادرة الجدار الأخضر العظيم: والتي تطرح نموذجًا آخر للاستجابة الإفريقية لتغيُّر المناخ؛ إذ لأكثر من عقد من الزمان، تقدمت البلدان المتضررة في منطقة الساحل وغيرها من المناطق وروَّجت لهذه المبادرة الخضراء التي تهدف إلى وقف انتشار التصحُّر صَوْب الجنوب، وتقييد تأثير تغيُّر المناخ. ربما ترجع سيرة مصطلح الجدار الأخضر العظيم في الأصل إلى الحقبة الاستعمارية؛ حيث كان الهدف هو زراعة حزام من الأشجار بعرض 50 كيلو مترًا (تم تخفيضه الآن إلى 15 كيلو مترًا)؛ للمساعدة في احتواء عمليات التصحُّر. تطوَّر المشروع بعد ذلك إلى جهدٍ إنمائيّ ريفي متكامل للاستجابة للآثار الاجتماعية والاقتصادية والبيئية الضارة لتدهور الأراضي والتصحر الممتد على مسافة 8000 كيلومتر من السنغال في الغرب إلى جيبوتي في الشرق. وفي عام 2017 تم اعتماده كمشروع رائد مِن قِبَل مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، ويضم الآن أكثر من 20 دولة.
ومن جهة أخرى يعترف الاتحاد الإفريقي في جدول أعمال 2063 بأن إفريقيا سوف تُواجه التحدِّي العالمي لتغير المناخ من خلال إعطاء الأولوية للتكيف في جميع الإجراءات؛ من أجل حماية السكان الأكثر ضعفاً، ومن أجل تحقيق التنمية المستدامة والازدهار المشترك. إن إفريقيا بحاجة ماسَّة إلى نُمُوّ اقتصاديّ أسرع بكثير.
ومع ذلك هناك عدد من الاعتبارات التي يمكن أن تساعد في صياغة استراتيجيات وتكتيكات معينة للتكيف الإفريقي مع تغيُّر المناخ. ثمة حاجة ماسَّة لفهم أكبر لمسألة تغيُّر المناخ في إفريقيا. ببساطة، هناك حاجة إلى مزيد من الاستثمار لتحسين فهمنا للمناخ الإفريقي، وعلاقته بالعمليات المناخية العالمية.
كما ينبغي القيام بالمزيد من الاستثمار في البحوث الزراعية والأساليب الجديدة للاستثمار في المياه التي تؤكد على تحسين إدارة التربة والمياه. أضف إلى ذلك توسيع مقاربات الأمن الغذائي، وانتقاء البذور والممارسات الزراعية الأفضل تكيفًا في ظل تغير المناخ، وكذلك الاستثمار في دعم البنية التحتية للتخزين والنقل، وكذلك الوصول إلى الأسواق داخل وبين الدول الإفريقية.
يحدِّد سيلرز نماذج التحولات الأساسيَّة المطلوبة في الزراعة والتعليم والديموغرافيا والتصنيع والحوكمة، ويوضح كيف يمكن تحقيق هذه التغييرات. وعلى الجانب الآخر فإن التحديات التي تواجهها القارة -التنافس في عالم معولم، توفير الرعاية الصحية والتعليم، مواجهة الزيادة السكانية، والتصدي لتغير المناخ- تتطلب سياسات بعيدة النظر، وقيادة حازمة.
وفي نهاية المطاف يطرح الكتاب حلولًا قابلة للتحقيق؛ بناءً على الحقائق الإفريقية، وهو ما يجعله خارطة طريق واقعية لصانعي السياسات.