أصبح الحديث عن التنافس الدولي في إفريقيا، أو “التكالب الاستعماري الجديد” عليها تقليدًا غير منقطع منذ استقلال القارة في ظل أزمات الدولة الوطنية والمعضلات الاقتصادية الهيكلية المصحوبة بانعكاسات السياسات والأزمات الدولية عليها، عوضًا عن ظهور موجات من التنافس والصراع الإقليمي فيما بينها.
ووصلت هذه المسائل مؤخرًا إلى مستويات أعلى؛ مع تجدُّد الحديث عن التنافس الصيني- الأمريكي، وعودة قويَّة للقوى الاستعمارية السابقة بريطانيا وربما فرنسا، وحرص روسيا على العودة إلى إفريقيا، وتداخل أدوار لاعبين آخرين مثل الهند وتركيا وإيران وإسرائيل، إلى جانب صعود أدوار أخرى لا سيما الدور الإماراتي، في ملفات إفريقية مُتنوّعة؛ مثل مواجهة الإرهاب، و”سياسات الموانئ”، ودعم السِّلْم والأمن، مع تراجع دور المنظمات الإقليمية –بشكل ملحوظ ودون أيّ مبالغة- من المشاركة في صُنْع السياسات القارِّيَّة إلى الاكتفاء “بتنسيق” أدوار القُوَى الفاعلة في القارة؛ كما يتَّضح في أزمات مُلِحَّة في القارَّة؛ مثل الأزمة الليبية، أزمة سدّ النهضة، مواجهة التهديدات الإرهابية في إقليم الساحل والقرن الإفريقي، والأزمات الثنائية في أقاليم مختلفة؛ مثل الأزمة الصومالية-الكينية الأخيرة.
مستجدَّات “التنافس الدولي” في إفريقيا
جدَّد الاهتمام الأمريكي الأخير بالقارَّة، أو مساعي ضمان فرص للشركات الأمريكية في قطاعات البترول والسلاح، ومشروعات البنية الأساسية، الحديث عن “التنافس الدولي” في إفريقيا، كما ألقى ظلالًا قاتمة على مستقبل هذا التنافس ونتائجه على دول القارة في ظل السيناريو الكارثي الذي تمرّ به بعض الدول فيما يُعْرَف “بالنموذج الأنجولي” (أو الاستدانة المفرطة من الصين لإحداث التنمية)، وسعي واشنطن لفرض “سلام نِسبي واسع” على القارة فيما يمكن وَصْفه بالسلام الأمريكي Pax Americana بحُجَّة تفادي “الاستعمار الصيني الجديد”. وجاء هذا الاهتمام رغم معاناة إفريقيا في السنوات الأخيرة من تجاهل أمريكي واضح في ظل إدارة الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب؛ واعتمادها على مقاربات تكتيكية مع تكليف دوائر ثانوية داخل مؤسسة وزارة الخارجية بإدارة الكثير من ملفَّات القارة، كما حدث في القرن الإفريقي من هندسة السفير الأمريكي الحالي في الصومال دونالد يوكيو ياماموتو Donald Yukio Yamamoto للتغييرات التي جرت في هذه المنطقة بالغة الحيوية في السنوات الأخيرة.
ولطالما احتفت الإدارة الأمريكية بسياستها الإفريقية تلك؛ وتحدَّت في واقع الأمر الحكومات الإفريقية، وخيَّرتها بين واشنطن (وحلفائها) من جهةٍ، وبكين وموسكو من جهةٍ أخرى. مما أنتج تضاربًا بين مساعي الولايات المتحدة لاستمرار فرض هيمنتها على القارة كقوة عظمى، والتيار الحالي في إفريقيا الذي ينفتح على خيارات متعددة وإقامة علاقات مع شركاء دوليين متنافسين بطبيعة الحال، كما يتجسّد في أوضح حالاته في إثيوبيا.
وفي مقابل التوسع الصيني على الأرض في إفريقيا اقتصاديًّا وسياسيًّا، وَفْق صِيَغ مثيرة للجدل إقليميًّا ودوليًّا؛ سعت استراتيجية إدارة ترامب المعروفة باسم “إفريقيا مزدهرة” -التي دشَّنها مستشار الأمن القومي حينذاك جون بولتون قبل أكثر من عامين- إلى توجيه دور أكبر للقطاع الخاص الأمريكي في الاستثمار والتجارة مع إفريقيا. وكان يتوقع لمؤسسة تمويل التنمية Development Finance Corporation (التي حلت محل هيئة الاستثمار الخاص في الخارج Overseas Private Investment Corporation) دورًا أكبر، لكنها واجهت صعوبات جمَّة؛ نظرًا لتدنّي تمويلها.
وفي واقع الأمر فقد عُنِيَ شعار “إفريقيا مزدهرة” بمواجهة النفوذ السياسي والأمني للصين في إفريقيا أكثر من العناية بالتنمية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية في القارة.
وبعد إعلان بولتون؛ بادَر مارك جرين مدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية U.S. Agency for International Development (USAID) بإعلان “سياسة مشاركة القطاع الخاص” Private Sector Engagement Policy بناء على تصوُّر أن مستقبل التنمية الدولية سيكون بقيادة الشركات؛ ما تبلور بالفعل في زيارة وزير الخارجية مايك بومبيو لثلاث دول إفريقية (السنغال، أنجولا، وإثيوبيا) في فبراير الماضي؛ سعى خلالها لتعزيز أدوار الشركات الأمريكية في هذه الدول.
وقد طغت مسألة مواجهة النفوذ الصيني المتنامي في إفريقيا، وبشكل خاصّ في الدول الثلاث التي تمثل مناطق إقليمية مختلفة في القارة الإفريقية، كما عكست أجندة مايك بومبيو مقاربة أمريكية بالغة السطحية –ربما على نحوٍ متعمَّد يتَّسق مع سلوك الرئيس ترامب إزاء قضايا دولية مختلفة، ونظرته الدونية لإفريقيا وقادتها- لمخاوف إفريقيا وتطلعاتها، ومساعي استمرار النفوذ الأمريكي بأقل تكلفة ممكنة دون تقديم خُطَط عملية بديلة لمواجهة ما تعتبره الإدارة الأمريكية “هيمنة صينية غير عادلة”.
وقد تنوَّعت هذه الأجندة من التأكيد على دَعْم العمليات الديمقراطية؛ ومحاربة الفساد المترتب على علاقات وطيدة مع الصين، كما في حالة أنجولا، ودعم أدوار الدول الثلاثة في قضايا مواجهة التهديدات الأمنية والإرهابية في الأقاليم التي تنتمي لها، وتعزيز فُرَص التعاون الاقتصادي الأمريكي مع هذه الدول، دون أن يتضمن ذلك خُططًا تفصيليَّة وعمليَّة؛ باستثناء “الترويج” لدعم الشراكات مع شركات البترول الأمريكية الرئيسية في مواجهة نظيرتها الصينية.
وفيما يتعلق بروسيا، التي تُعْتَبَر منافسًا صَاعِدًا للولايات المتحدة في إفريقيا؛ فقد أعلنت منذ قمة سوتشي في أكتوبر 2019م (التي تكلفت حوالي70 مليون دولار) عن العفو عن ديون روسية مستحقَّة على الدول الإفريقية بقيمة 20 بليون دولار في خطوة بدت قوية للغاية للعودة إلى إفريقيا.
كما وقَّعَت موسكو في العامين 2018-2019م اتفاقات تعاون عسكري مع نحو 20 دولة إفريقية يجمع بينها جميعًا الإحباط والقروض الصينية المُكَبِّلة، وعدم قدرتها على السيطرة على كامل ترابها، والخوف من “الثورات الملونة”.
وقدَّمت روسيا صفقات أسلحة ضخمة؛ لا سيما لموزمبيق وزيمبابوي، وبلغت مبيعات السلاح الروسية لإفريقيا جنوب الصحراء ضعف مبيعات سلاح الولايات المتحدة والصين مجتمعتين لإفريقيا.
وبلغت هذه المبيعات في العام 2019م ما قيمته 4 بلايين دولار (من إجمالي صادرات سلاح روسية في ذلك العام بقيمة 12 بليون دولار تقريبًا). ورغم ذلك لا تملك روسيا اليوم قواعد عسكرية في إفريقيا، وإن عقدت مفاوضات مع دول مثل السودان وإريتريا وجيبوتي وموزمبيق في هذا الشأن.
وهكذا فقد اتَّسقت مخرجات عملية التنافس الدولي الحالية، كما بلورتها زيارة وزير الخارجية الأمريكي في صورة تعاون تجاري ووكالة حكومية لصالح شركات كبرى، تمامًا مع قرارات الإدارة الأمريكية بخصوص إفريقيا ودولها بغضّ النظر عن مصالح الأخيرة.
واتضح ذلك منذ مطلع العام الجاري عندما بدأ البنتاجون التخطيط لسحب قواته من إفريقيا، كما عمدت إدارة ترامب لخفض مخصَّصات مالية لبعض البرامج الإفريقية. ويلاحظ أن مراجعة البنتاجون تلك –التي لاقت اعتراضات من داخل الولايات المتحدة وتخوفات من الدول الإفريقية وشركاء الولايات المتحدة الغربيين مثل فرنسا- جاءت مع تجديد مسؤولين عسكريين واستخباراتيين تخوفاتهم من انتشار الجماعات الإرهابية القوية في القارة بشكل لافت، وتحذيرهم من وصول بعض هذه الجماعات إلى مستوًى يصعب بعده خفضه.
وعلى سبيل المثال؛ فقد ذكر بومبيو في داكار نشاط الشركات الأمريكية الخاصة هناك، وضرب مثلًا بكوزموس للطاقة Kosmos Energy، وهاليبرتون Halliburton، وبيكر هيوز Baker Hughes ومساعدتها على تطوير هذه الموارد لإفادة الشعب السنغالي وليس “اللاعبين الأجانب”.
وكانت الولايات المتحدة قد وقَّعت العديد من الاتفاقات مؤخرًا مع التزام شركة GE بتحديث مصانع الطاقة في السنغال، بينما وقَّعت ويلدي لامونت Weldy Lamont مذكرة تفاهم مع Senelec السنغالية حول إقامة شبكة كهربائية. كما أعاد بومبيو تأكيد التزام بلاده بوضع مسألة الأمن في سياقها السليم؛ مما يسمح للنموّ الاقتصادي، وأن الولايات المتحدة مصمّمة على ذلك، ولم يذكر بومبيو تفاصيل حول خطط نشر القوات الأمريكية، وإن مثلت التصريحات تراجعًا خطوة واحدة للوراء في خطط خفض القوات الأمريكية بما يتّسق مع رؤية الرئيس السنغالي ماكي سال.
الدولة الإفريقية وأزمة “النموذج الأنجولي”
تُرَوِّج الولايات المتحدة بقوَّة لفشل “النموذج الأنجولي” كمسار محتمل لأية دولة إفريقية تُعوّل على الصين أو روسيا، في تعزيز مقدّراتها الاقتصادية عبر الاستثمارات المباشرة والاستدانة لتطوير بنيتها الأساسية.
واتَّضح ذلك في تركيز بومبيو في زيارته لأنجولا على قضية الفساد “الذي همَّش مُقَدَّرَات البلاد الكبيرة لفترة أطول من اللازم”، وتعهَّد بحشد موارد بلاده من أجل ضمان الشفافية في المعاملات المالية، إضافة إلى محاسبة الأفراد. وامتدح التقدّم الملموس للرئيس الأنجولي لورينسو في معالجة المشكلات وخصخصة الشركات المملوكة للدولة. وأعلن بومبيو خُطَط إقامة New Gas Consortium بقيمة بليوني دولار؛ بهدف العثور على مزيد من الموارد في أنجولا، مُلَمِّحًا إلى أن الولايات المتحدة تأتي بالفرص لإفريقيا من أجل نَفْع الأهالي وبدون “هدف سياسي، وأنه ليست كل دولة تأتي هنا للاستثمار تقوم بذلك”؛ مما اعتُبِرَ مكايدةً سياسيةً تستهدف الاستثمارات الصينية في القارة.
ورغم ما روَّجت له واشنطن؛ فإن مسألة الحرب ضد الفساد لم تكن في قمَّة أجندة بومبيو كقضية جوهرية تسعى الولايات المتحدة لحلها حلاً حقيقيًّا، لا سيما في أنجولا؛ إذ إن الأخيرة دولة رئيسية من الدول التي توغَّل النفوذ الصيني فيها؛ حيث اقترضت لواندا من الصين حوالي 40 بليون دولار في الفترة 2005-2019م؛ مما يُمثّل نصف ديون أنجولا الخارجية وفقًا لمركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية. وأنها حصلت أكثر من أية دولة أخرى في إفريقيا على دعم صيني هائل في قروض البنية الأساسية لقطاع البترول، كما تُمثّل أنجولا ثاني أكبر شريك تجاري للصين في القارة، ومصدرًا رئيسيًّا للبترول الذي تحصل عليه الصين.
وهكذا فقد شكَّلت الزيارة في حقيقتها حملة علاقات عمل مع الرئيس الأنجولي؛ لتعزيز وجود الشركات الأمريكية؛ خاصةً إكسون، موبيل وشيفرون اللتين تملكان مصالح كبيرة في أنجولا، إلى جانب حماية مصالح شركة توتال الفرنسية، وبريتش بتروليوم البريطانية.
وانتهزت واشنطن فرصة معاناة أنجولا من نموذج تمويل الموارد مقابل البنية الأساسية مع الصين؛ مما يتجلَّى في عدم إقبال الرئيس الأنجولي لورنيسو على اتفاقات الديون الصينية كما فعل سلفه دوس سانتوس، ومن المتوقع أن يثير النموذج الأنجولي مخاوف دول إفريقية أخرى (كما تم في موزمبيق مؤخرًا وأزمة الديون الروسية).
نحو “سلام أمريكي” في إفريقيا
مع قرب ختام فترة رئاسة دونالد ترامب في نهاية العام الجاري؛ تسارعت خطوات واشنطن لفرض ما يمكن اعتباره سلامًا أمريكيًّا نسبيًّا في القارة الإفريقية، اتضحت ملامحه في تبني بومبيو –مسؤول الاستخبارات الأمريكية السابق في غرب إفريقيا- خطابًا “ماركسيًّا” أمام دبلوماسيين وقادة أعمال في مقر المفوضية الاقتصادية لإفريقيا بأديس أبابا بقوله: “على الدول (الإفريقية) أن تحذر من النظم السلطوية ذات الوعود الفارغة. إنها تُغذِّي الفساد، والتبعية؛ إنها تجازف بعدم تحقيق الازدهار والسيادة والتقدم الذي تحتاج إليه إفريقيا بقوة”. ولم يذكر بومبيو الصين صراحة –الشريك التجاري الأول لإفريقيا. بينما عزَّز مباشرةً شركات أمريكية بارزة وهي بيكتيل Bechtel في السنغال؛ وشيفرون في أنجولا؛ وكوكاكولا في إثيوبيا. كما انتقد بومبيو تعديلًا دستوريًّا مقترحًا في جنوب إفريقيا يسمح بمصادرة الممتلكات الخاصة دون تعويضات؛ وهي خطة تستهدف تجاوز التفاوت الموروث من حقبة الأبارتهيد.
مما يصل بنا إلى إمكان تصوّر السلام الأمريكي على أنه خَلْط مقصود بين تبنّي أجندة سياسية تدعم النُّظم الديمقراطية في إفريقيا (كما في مدح الديمقراطية السنغالية، ونظام الرئيس الأنجولي، وتشجيع غير مسبوق “لتجربة إثيوبيا الديمقراطية” رغم العوار الذي يعتريها)، واستمرار سياسة ترامب الإفريقية المتقلبة وبالغة الانتقائية وعدم الاتساق، مع وَلَع إدارة ترامب بمواجهة الصين، وليس بالمبادرة بانخراط أمريكي حقيقي بديل.
ويمكن القول: إن القطاع الخاص الأمريكي هو الأكثر اهتمامًا بالقارة الغنية بالموارد، وأنه الدافع الأول لسعي الإدارة الأمريكية لتيسير عمل هذه الشركات في دول إفريقية لا سيما أنجولا وإثيوبيا؛ حيث تمثل الإصلاحات الاقتصادية فُرَصًا جديدة.
وهكذا؛ فإن مساعي الولايات المتحدة لفرض استقرار في القارة الإفريقية لا يقوم على أُسُس شراكات أمريكية-إفريقية حقيقية، بل يقوم بالأساس على مواقف انتقائية، وسياسات قصيرة الأجل، ودعم فرص القطاع الخاص الأمريكي في الأسواق الإفريقية، إضافةً إلى عدم حسم ملفات عدة، وربما رهن ذلك بمشروطيات أمريكية مُكلّفة، كما اتضح في تغيير إثيوبيا لموقفها في مفاوضات سدّ النهضة بمقاطعتها بعد أيام من مغادرة بومبيو -الذي تدير بلاده عبر وزارة الخزانة، وليس الخارجية، وساطة تسوية هذا الملف- للعاصمة الإثيوبية.