في 11 من فبراير عام 1990م، تحقّق ما انتظره الجنوب إفريقيون (السود) لعقود؛ فقد أَطلَق نظام الفصل العنصري في البلاد سراحَ الزعيم نيلسون مانديلا من سجن فيكتور فيرستر بعد 27 عامًا، وأوضح مانديلا نفسه البالغ من العمر 71 عامًا حينها أنه ملتزم بإنهاء نظام الفصل العنصري، وإرساء “حكم الأغلبية” وحقوق الجميع في جنوب إفريقيا، الأمر الذي أجبر النظام داخل البلاد والحكومات حول العالم على التعاون لبحث تفكيك النظام الظالم.
وبالنسبة للشباب والعديد من مواطني جنوب إفريقيا الذين عايشوا فترات سجنه، ولكنهم لا يعرفون الكثير عن ماديبا (لقب مانديلا)؛ بسبب حظر النظام العنصري نشرَ صُوَره وخُطَبه، فقد أعطاهم خروجه من السجن فرصة لتشكيل آرائهم عنه.
وقد خاطب مانديلا بعد ساعات من إطلاق سراحه حشودًا من المؤيدين في قاعة مدينة كيب تاون، قائلاً:
“أيها الرفاق وزملاؤنا الجنوب إفريقيون، أحيّيكم جميعًا باسم السلام والديمقراطية والحرية للجميع”.
بعد أربع سنوات من نيل حريته وقيادة البلاد خلال فترة انتقال دراماتيكية، أصبح مانديلا أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا. واستقال عام 1999م من منصبه بعد أن قضى فترة ولاية واحدة كرئيس البلاد، وتقاعد رسميًّا من الحياة العامة عام 2004م. وتوفي في 5 ديسمبر 2013م عن عمر يناهز 95 عامًا.
ذكرى 30 عامًا من إطلاق سراح مانديلا:
ألقى رئيس جنوب إفريقيا الحالي سيريل رامافوسا يوم الثلاثاء خطابًا خاصًّا للاحتفال بذكرى مرور 30 عامًا على إطلاق سراح مانديلا، وذكَّر مواطني جنوب إفريقيا برؤية الزعيم والمناضل، والرسالة التي حملها حتى وفاته.
وقال رامافوسا في خطابه: “إن من المقولات التي أحتفظ بها طوال هذه السنوات، من بين أشياء أخرى قالها ماديبا عندما وقف على شرفة قاعة مدينة كيب تاون في يوم خروجه من السجن، قوله: “الحاجة إلى توحيد شعب بلدنا عملٌ بالغ الأهمية الآن كما كان دائمًا”؛ كانت تلك (المقولة) صحيحة في ذلك الوقت، ولا تزال صحيحة (اليوم) بعد ثلاثة عقود”.
وكان من الخطوات التي اتخذتها جنوب إفريقيا نحو التعافي؛ أن عبّرت لجنة الحقيقة والمصالحة بقوَّة عن المظالم التي ارتُكِبَتْ خلال أكثر من 40 عامًا من حكم الفصل العنصري، وفاز نيلسون مانديلا مع “ف.و.دي كليرك” رئيس جنوب إفريقيا الذي أُطلق سراحه، بجائزة نوبل للسلام عام 1993م؛ لعملهما على إنهاء الفصل العنصري بسلام ولإرساء الأساس لجنوب إفريقيا الديمقراطية الجديدة.
ومن بين المحتفلين بالذكرى الثلاثين لإطلاق سراح مانديلا؛ رئيس الأساقفة الأنغليكاني الحائز على جائزة نوبل للسلام، ديزموند توتو، الذي كتب هو وزوجته في بيان قصير: “خرج نيلسون مانديلا من السجن ليُبْهِرَ جنوب إفريقيا والعالم بدفئه وقِيَمه الإنسانية. الظروف والأولويات تتغير مع مرور الوقت، لكنَّ القِيَم الجيدة لا تُصبح موضة قديمة. نحن نفتقده. مع الحب والبركات”.
جنوب إفريقيا والحريات السياسية:
شهدت جنوب إفريقيا منذ نهاية حكم “الأقلية البيضاء” عام 1994م ستة انتخابات ديمقراطية سلمية؛ كلها حرة ونزيهة، وفاز فيها جميعًا حزب مانديلا، المؤتمر الوطني الإفريقي (African National Congress = ANC).
وتُعَدّ جنوب إفريقيا اليوم واحدة من أكثر الدول التي تنشط فيها وسائل الإعلام بحرية؛ حيث صَنَّفت منظمة “مراسلون بلا حدود” دولة جنوب إفريقيا في المرتبة 31 من أصل 180 دولة في مؤشرها العالمي لحرية الصحافة لعام 2019م.
ويرى ديل ماكينلي، المحلل السياسي لقناة الجزيرة؛ أن “التغيير السياسي الذي شهدته البلاد.. لم يَسبق له مثيل. ولا يمكن الاستهانة به”، خصوصًا وأن المجال السياسي في البلاد منفتح للجميع “ومضت الأيام التي يتم فيها اعتقال الأشخاص؛ لأنهم عبَّرُوا عن آرائهم السياسية”.
الاقتصاد وتحديات أخرى:
إلى جانب التقدُّم الذي أحرزته جنوب إفريقيا في المجالات السياسية؛ تُعَدُّ البلاد أكثر دول القارة تقدُّمًا صناعيًّا؛ حيث أفاد البنك الدولي بأن الناتج المحلي الإجمالي في جنوب إفريقيا ارتفع من 139.8 مليار دولار في عام 1994م إلى 368.9 مليار دولار في عام 2018م. كما أن الانتقال إلى “الديمقراطية” مكّن البلاد من اقتراض أموال لمشاريع البنية التحتية من المؤسسات المالية الدولية التي رفضت التعامل مع البلاد في السنوات الأخيرة من الفصل العنصري.
ومع ذلك؛ تُكافِح جنوب إفريقيا اليوم من أجل تحسين أوضاعها الاقتصادية، والحدّ من تحديات البطالة، وعدم المساواة الذي كانت النسبة الكبرى منها نتيجة لإرث نظام الفصل العنصري؛ حيث أشار البنك الدولي في تقرير عام 2018م إلى أن أعلى 1% من الجنوب إفريقيين يملكون 70.9% من ثروة البلاد.
هذا وقد انتقد بعض مواطني جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا؛ لأنه قدّم الكثير من التسويات والتنازلات لـ”الأقلية البيضاء”، وهذه التسويات ساهمتْ في ازدهار البيض بجنوب إفريقيا، بينما تتدهور الأوضاع المعيشية لـ “الأغلبية السوداء”.
ولاحظ الرئيس رامافوسا في خطابه أن وحدة الشعب ورغبة مانديلا في السلام و”الديمقراطية” والتعاون معه حقّقت إنجازات كثيرة لجنوب إفريقيا على مرّ العقود. ولكنّ ما تواجهه البلاد بعد 30 عامًا تختلف عما واجهته في تلك الفترة.
“الآن نواجه تحديات ذات طبيعة مختلفة تمامًا. ديمقراطيتنا راسخة. مؤسّساتنا قويَّة ومستقرَّة. نحن في سلام، وعلى مدار السنوات الخمس والعشرين الماضية، شهد شعبنا تحسينات في جميع مجالات الحياة تقريبًا.
“ومع ذلك، هناك الكثير ممَّا نحتاج إلى القيام به في هذا السفر. لا يزال عدم المساواة، خاصة على النحو الذي يحدِّده العِرْق والنوع، من بين أعلى المعدلات في العالم. البطالة تتفاقم، والفقر واسع الانتشار. ما زال العنف، بما في ذلك العنف الذي يرتكبه الرجال ضد النساء، يُخَرّب مجتمعاتنا”؛ هكذا قال الرئيس رامافوسا.
الحدّ من الفقر، الرعاية الصحية والتعليم:
سجّلت جنوب إفريقيا تقدُّمًا نسبيًّا فيما يتعلّق بالحدّ من الفقر منذ انتقالها إلى الديمقراطية؛ حيث كان 18.8% من سكان البلاد فقراء في عام 2015م انخفاضًا من 33.8% في عام 1996م. لكن هذا التقدم تباطأ في السنوات الأخيرة؛ حيث ارتفع معدّل الفقر (من بين الذين يعيشون بأقل من 1.90 دولارًا يوميًّا) من 16.8% إلى 18.8% بين عامي 2011 و2015م.
وفيما يتعلق بالرعاية الصحية؛ فإنَّ توفيرها لا يزال بعيد المنال بالنسبة للكثيرين في جنوب إفريقيا، بالرغم من أن الرعاية الصحية ثالث أكبر عنصر في الإنفاق الحكومي؛ إذ أنفقت الحكومة في عام 2018م 13.6 مليار دولار، أي 12% من ميزانية البلاد على الرعاية الصحية.
وفي الوقت نفسه، يشهد قطاع التعليم تحسُّنًا كبيرًا؛ إذ بلغ معدل الالتحاق بالمدارس الابتدائية 87%، وأنفقت الحكومة في العام الماضي حوالي 17% من ميزانيتها على التعليم الأساسي؛ حتى وإن كان البعض يدعون إلى ضرورة توجيه نظام التعليم إلى إعداد الخريجين لسوق العمل في البلاد.
الفساد وإعادة توزيع الأراضي:
تجري في جنوب إفريقيا حاليًا عدة قضايا تتعلق بالفساد في حكومة الرئيس السابق جاكوب زوما. وفي مؤشر الفساد لعام 2019م، صنَّفت منظمة الشفافية الدولية جنوب إفريقيا في المرتبة 70 من بين 180 دولة.
أما إعادة توزيع الأراضي؛ فقد كانت من القضايا الحسَّاسة في البلاد؛ حيث حُرِمَ الجنوب إفريقيون السود (أو الأغلبية السوداء) في البلاد من حقوق الملكية بموجب قوانين الفصل العنصري. كما أن غالبية مواطني جنوب إفريقيا لا يزالون ينتظرون من المؤتمر الوطني الإفريقي كي ينفِّذ وعده بشأن القضية والذي تعهد به بعد توليه السلطة.
وإذا كان حزب المؤتمر الوطني الإفريقي قد اتبع نموذج “البائع الراغب والمشتري الراغب”؛ الذي من خلاله اشترت الحكومة المَزارع المملوكة للبيض لإعادة توزيعها، فقد تباطأ البيض في بيع أراضيهم، وما زالت معظم الأراضي الزراعية مملوكة للمزارعين البيض (لا تزال 72% على الأقل من الأراضي الصالحة للزراعة في أيدي المزارعين البيض الذين يُشكّلون أقل من 10% من السكان البالغ عددهم 58 مليونًا نسمة).
ونتيجةً لذلك، أوصى تقرير استشاري في العام الماضي بتغيير دستور البلاد للسماح للحكومة ببدء الاستيلاء على الأراضي دون تعويض في ظروف معينة. وكلَّفت الحكومة لجنة برلمانية بتقديم تقرير عن التغييرات المقترحة على قوانين إصلاح الأراضي قبل نهاية مارس القادم.
…………………………
للمزيد:
– Freed Nelson Mandela | 30 years on: The legend and his legacy https://www.news24.com/Analysis/freed-nelson-mandela-30-years-on-the-legend-and-his-legacy-20200210
– Ramaphosa calls on South Africans to unite in dealing with challenges https://www.timeslive.co.za/politics/2020-02-10-ramaphosa-calls-on-south-africans-to-unite-in-dealing-with-challenges/
– Mandela’s Release 30 Years Ago Birthed a New South Africa https://www.nytimes.com/aponline/2020/02/11/world/africa/ap-af-south-africa-anniversary.html
– 30 years since Mandela was freed، where does South Africa stand? https://www.aljazeera.com/news/2020/02/30-years-mandela-freed-south-africa-stand-200209051129596.html