مقدمة:
نقلت وكالة الأنباء الألمانية يوم الثلاثاء 16 يوليو 2024م، خبرًا مفاده أن ألمانيا عازمة على القيام بمبادرة لتعليم مليوني طفل بمنطقة الساحل الإفريقية، وذلك في إطار مشاركة ألمانيا في مكافحة تجنيد جماعات إرهابية للأطفال بدول المنطقة، وأن تلك المبادرة تأتي انطلاقًا من كونها دولة مانحة في هذا الجزء من غرب إفريقيا، الذي شهد تحولات سياسية مهمة منذ عام 2020م.
يحاول هذا المقال استقراء ديناميات البيئة التي مهَّدت إلى إعلان هذه المبادرة المهمة؛ خلفياتها ومراميها. وذلك عبر تحليل محتوى الخبر ومضمونه، والوقوف على الأهمية، التي تمثلها منطقة الساحل الإفريقي بالنسبة لأوروبا عمومًا، وبالنسبة ألمانيا خصوصًا.
المبادرة الألمانية والدخول من أبواب القوة الناعمة:
تقول تفاصيل الخبر الذي نقلته وكالة الأنباء الألمانية: إن وزيرة التنمية الألمانية “سفنيا شولتسه”- أعلنت عن مبادرة تعليمية لأكثر من مليوني طفل في منطقة الساحل، التي لا يستطيع أكثر من 40% من أطفالها الذهاب إلى المدارس بسبب التهديد. وأكدت أن التعليم هو واحد من أكثر الوسائل المضادة فعاليةً لمكافحة محاولات التجنيد من جانب الجماعات الإرهابية؛ لأن التعليم يمنح الشباب آفاقًا مستقبلية. وأوضحت أن تلك المبادرة تأتي مشاركةً من ألمانيا، بوصفها دولة مانحة، لمكافحة تجنيد جماعات إرهابية للأطفال بدول تديرها مجالس عسكرية غربي إفريقيا. وأضافت الوزيرة أنه بالنسبة لألمانيا ولمجتمع المانحين؛ أستطيع أن أقول: إننا لا نمارس “العمل كما هو معتاد” عند التعامل مع الحكومات، التي اكتسبت الشرعنة بشكل غير ديمقراطي. نحن نعتمد بشكل أكبر على السلطات المحلية والمنظمات غير الحكومية([1]).
يعكس محتوى هذا الخبر المهم -عند تحليله- جملةً من النقاط الرئيسية؛ أولها: الانتقال مما تشهد به الوقائع من الاهتمامات التي تعرف بها الإستراتيجيات الغربية عادةً في إفريقيا، والتي تهتم عادة بالشأن السياسي والعسكري في المقام الأول، -وربما الأخير- إلى شأن تنموي هو التعليم. وثانيها: الربط الجازم بين غياب التعليم والارتماء في أحضان ما يسمونه “الإرهاب”. وثالثًا: أن المانحين الأوروبيين لمنطقة الساحل، بما فيهم ألمانيا، لا يمارسون عملهم بالصورة المعتادة، وذلك لما استجد من انقلابات في المنطقة، فتغيَّر تعامل المانحين، وفي مقدمتهم ألمانيا، بصورة مباشرة من الحكومات إلى السلطات المحلية والمنظمات غير الحكومية.
لذلك ولغيره يُطرَح السؤال عن هذا التحول المفاجئ في سياسة ألمانيا (على الأقل في جزء معتبر منها) تجاه منطقة الساحل الإفريقي، والتي تسعى من خلالها إلى القيام بمبادرة لتعليم مليوني طفل؛ خشية أن ينتظموا لاحقًا في سلك ما يسمونه “الإرهاب”.
أغلب الظن أن القراءة الأولية لهذا التحول، في ضوء تحليل الخبر السابق، يقف حوله من جهة الانتصار للقوة الناعمة، على الأقل تكتيكيًّا، في مقابل القوة الخشنة، التي يصعب استخدامها في الوقت الحاضر في عددٍ من دول الساحل. ومن جهة أخرى مجابهة نفوذ القوى الأخرى غير الأوروبية والأمريكية، التي وجدت طريقها إلى المنطقة، بقيادة روسيا. إضافةً إلى اتضاح أن أقصر طريق لمواجهة ما يسمونه “الإرهاب” والقضاء عليه من جذوره؛ يتمثل في التعليم، وهو عمل تنموي يُحسّن صورة مَن يقدّمه في نظر المجتمعات المتلقية لتلك الخدمة الجوهرية.
ولفهم أشمل لمقتضيات ديناميات البيئة، التي كانت وراء إعلان ألمانيا مبادرة تعليم مليوني طفل في منطقة الساحل الإفريقي؛ نعرض الحيثيات التالية، التي تعكس أهمية هذه المنطقة بالنسبة لأوروبا على جهة العموم، وألمانيا على جهة الخصوص.
أهمية المنطقة بالنسبة لأوروبا:
تُعدّ منطقة الساحل الإفريقي إحدى الأولويات السياسية للدول الأوروبية. لذلك تشارك تلك الدول بشكل كبير في المنطقة، بدءًا من تقديم المساعدات الإنسانية، وحتى الانضمام إلى الجهود المدنية والعسكرية لتحقيق الاستقرار فيها؛ حيث يُعدّ استقرار تلك المنطقة أمرًا مهمًّا للأمن في أوروبا. ولذلك، أيضًا، تعمل الدول الأوروبية على تعزيز هياكل الدولة في المنطقة بشكل شامل من خلال نهج متكامل. وهذه هي الطريقة الوحيدة لمكافحة العنف في منطقة الساحل على المدى الطويل، وتوفير مستقبل قابل للحياة لشعوب المنطقة([2])، التي تعيش حياة صعبة في أفقر مناطق إفريقيا على الإطلاق.
وتأكيدًا لأهمية المنطقة بالنسبة لأوروبا؛ اعتمد الاتحاد الأوروبي عام 2011م أول “إستراتيجية لمنطقة الساحل”، بناءً على فكرة مفادها أن جهود التنمية، التي يبذلها الاتحاد الأوروبي منذ عقود في المنطقة؛ يجب أن تكون مدعومة بتركيز جديد على تعزيز الأمن. ونتيجة لذلك، تم إطلاق بعثات الاتحاد الأوروبي في المنطقة، بما في ذلك بعثة بناء القدرات المدنية في النيجر عام 2012م، تلتها مهمة تدريب عسكري في مالي عام 2013م، وفي عام 2014م، تلتها بعد ذلك بعثة مدنية مهمة للبناء في مالي.
في البداية، ركّزت بعثات الاتحاد الأوروبي على إصلاح قطاع الأمن على المدى الطويل. أما في عام 2015م، فقد شكَّلت إستراتيجية أمنية أخرى للاتحاد الأوروبي للمنطقة، تحولًا في النهج الأمني الشامل للاتحاد الأوروبي، وخلال الفترة نفسها، تضاعفت ميزانيات الاتحاد الأوروبي المخصصة للجهود الأمنية في منطقة الساحل([3])، مما يدلل على أهمية هذه المنطقة بالنسبة لأوروبا.
وبينما ركزت قمة 2020م في باو على توسيع التعاون العسكري، فقد دارت قمة المتابعة عام 2021م حول بذل جهود مدنية أكبر، بدءًا من تطوير الإدارة العامة، ولا سيما نظام الشرطة والعدالة، إلى ضمان حصول شعوب منطقة الساحل على فرص كافية للوصول إلى العدالة. إضافةً إلى الغذاء والماء والرعاية الصحية. ومن العناصر المهمة في التحالف من أجل الساحل الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل، وهي المنصة المركزية لتعزيز قوات الأمن الوطنية في المنطقة واستعادة سلطة الدولة في المناطق التي يسيطر عليها الإرهابيون. ويلعب الاتحاد الأوروبي دورًا حاسمًا في هذه الجهود؛ حيث يقوم بتنسيق التدابير اللازمة على الأرض في دول الساحل([4]). وقد مثلت قضية ما يسمى الإرهاب الشغل الشاغل بالنسبة لإوروبا، نسبة لإفرازاتها على مصالح أوروبا في منطقة الساحل.
وفي عام 2017م، أسَّست ألمانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي أيضًا تحالف الساحل، الذي يضم في عضويته البنك الدولي وبنك التنمية الإفريقي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ودول أوروبية أخرى. ويقوم أعضاء التحالف بتنسيق أعمالهم في مجال التعاون الإنمائي بشكل وثيق في المنطقة، مع التركيز على الحكم الرشيد واللامركزية والأمن الغذائي والتعليم([5]).
قبل فترة وجيزة، كانت منطقة الساحل الإفريقي؛ تتصدر أجندة السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي. وكانت الدول الأعضاء الأوروبية تحشد موارد كبيرة لمواجهة التحديات الأمنية في المنطقة. لكن هذا تغيَّر بين عشية وضحاها في 24 فبراير 2022م، عندما غزت روسيا أوكرانيا، وأحيت شبح الحرب التقليدية في القارة الأوروبية. ومنذ ذلك اليوم، كان كل تركيز أوروبا موجهًا نحو التهديد الشرقي، ومنذ ذلك الحين تم تقليص الوجود الأوروبي في منطقة الساحل. وليست الحرب الروسية في أوكرانيا هي السبب الوحيد، الذي يدفع أوروبا إلى تقليص طموحاتها في منطقة الساحل. الواقع أن تزايد المشاعر المعادية للغرب بين حكومات وسكان منطقة الساحل، والمقاومة المتزايدة للتدخل الأوروبي، وخاصة الفرنسي، جعل من الصعب على الدول الأوروبية أن تظل منخرطة في المنطقة([6]). وفي هذا الظرف غير المرحَّب بأوروبا؛ انفتحت الأبواب لقادمين جدد للمنطقة؛ لسد الفراغ الأوروبي.
مع تراجع الحضور الأوروبي، هناك مساحة للاعبين جدد في منطقة الساحل. والواقع أن البلدان الإفريقية في المنطقة، في طريقا للتعامل مع فشل التدخلات الغربية والأوروبية، تعمل على تنويع شراكاتها، استنادًا إلى نهج المعاملات في التعامل مع السياسة الخارجية. ونظرًا للموقع الجغرافي الإستراتيجي للمنطقة، ومواردها الطبيعية العديدة، والعدد الكبير من الجهات الفاعلة المشاركة في المنطقة؛ فإن بلدان الساحل لديها الكثير من الشركاء للاختيار من بينهم.
ومنذ أن بدأت حرب أوكرانيا، ضاعَف بوتين جهوده في منطقة الساحل. وعلى النقيض من النهج الأوروبي، احتضنت روسيا مدبري الانقلاب في مالي وبوركينا فاسو، وأرسلت مستشارين عسكريين بعد الانقلاب الثاني في مالي في غضون عام واحد. ويتماشى هذا مع السياسة الرسمية التي تنتهجها روسيا لمعالجة المظالم، التي سببها “الاستعمار الأوروبي” في إفريقيا([7])، الذي ارتبط في أذهان الأفارقة بنهب ثرواتهم إبَّان استعماره لبلدانهم، وبعد استقلالها.
يدرس الاتحاد الأوروبي، حاليًّا، خياراته بشأن كيفية الاستمرار في المشاركة في منطقة الساحل، حيث تتأثر المنطقة بسلسلة من الانقلابات العسكرية والأزمات الأمنية المتصاعدة. لقد تغيَّر المشهد السياسي بشكل كبير منذ اعتماد إستراتيجية الاتحاد الأوروبي الأولى لمنطقة الساحل عام 2011م. وعلى الرغم من هذه التغييرات، فإن المشاركة المستمرة في منطقة الساحل؛ أصبحت أكثر أهمية في ضوء التحديات الهائلة التي تُواجه المنطقة. كما تغيَّر السياق في الاتحاد الأوروبي نفسه. فقد حوَّلت الحرب الروسية في أوكرانيا انتباه الاتحاد الأوروبي نحو القارة الأوروبية، وأصبحت الدوائر الانتخابية المحلية في الاتحاد الأوروبي أكثر تركيزًا على القضايا في الداخل، مثل: تكاليف المعيشة، وتأثير التحول الأخضر، والهجرة([8]).
وفي ظل الوضع الجديد المتغير الذي تشهده منطقة الساحل؛ فإن من تداعياته أن يفرض ضغوطًا على نية الاتحاد الأوروبي في تعزيز قِيَمه ومصالحه في المنطقة. وتتعرف بلدان منطقة الساحل الوسطى على نشاط الشراكات مع بلدان جديدة، وبعضها يشعر بعدم الارتياح مع الاتحاد الأوروبي. ويشمل النشاطات الجديدة شراكات مع الصين ودول الخليج وتركيا. وتنخرط روسيا في تدخلات سياسية وحملات تضليل، بما في ذلك دعم الخطاب المناهض للغرب، وكانت تُصمّم بعناية ارتباطاتها الأمنية، بما يتوافق مع مطالب الأنظمة العسكرية، بمساعدة الفيلق الإفريقي التابع لها (مجموعة فاغنر المرتبطة بالكرملين سابقًا). كما أن هناك عروضًا مختلفة للتعاون لدول الساحل. ومن الواضح أن الاتحاد الأوروبي لم يعد نقطة الاتصال الأولى([9]). لذلك سيسعى الاتحاد الأوروبي للبحث عن طريقة للتعامل من جديد مع دول منطقة الساحل، على الرغم من عدم اقتناعه بما حل بالمنطقة من انقلابات غيَّرت المشهد السياسي في بعض البلدان.
لقد فشلت الإستراتيجية الأمنية الأولية لأوروبا في منطقة الساحل، كما يقول مالتي لييرل، الباحث في المعهد الألماني للدراسات العالمية ودراسات المناطق (GIGA) في هامبورغ، لوكالة الأنباء الألمانية. ومع ذلك، أكد لييرل أن الوضع الحالي ليس وضع انسحاب كامل، بل هو توجُّه جديد للمشاركة الأوروبية في المنطقة. وقال جوليان بيرجمان -خبير العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وإفريقيا في المعهد الألماني للتنمية والاستدامة (IDOS) في بون-: “إن إحدى طرق تحديد هذا الاتجاه الجديد يمكن أن تكون من خلال تحويل التركيز بعيدًا عن التعاون مع الحكومات، وبدلًا من ذلك خدمة الناس بشكل مباشر”([10]). وهذا عين ما لجأت إليه ألمانيا في قرارها الخاص بمبادرة تعليم مليوني طفل في منطقة الساحل، عبر التعامل مع المجتمعات المحلية، والمنظمات غير الحكومية، وليس من خلال التنسيق مع الحكومات، التي تشرعنت مجالس الحكم فيها عبر الانقلابات العسكرية.
انطلاقا من تم ذكره أعلاه؛ نستنتج أن منطقة الساحل الإفريقي تحظى بأهمية خاصة عند أوروبا، فالمنطقة ذات تأثير على الأمن الأوروبي، لذلك سعت إلى دعمها بشتى السبل. وأسَّست عددًا من التحالفات والآليات، التي بدأت في المقام الأول بدعم المنطقة في مجالات التنمية، ومِن ثَم مجال المجهودات الأمنية، التي لا تتم تنمية بدونها، حسب المنطق الأوروبي. وفي السياق ذاته تأكدت أهمية المنطقة بالنسبة للأوروبيين نظرًا لما تشهده من ظاهرة ما يسمى “الإرهاب”، الذي تنجلي عنه إفرازات تهدّد المصالح الأوروبية في تلك المنطقة، وخارجها.
ومن ناحية أخرى كثَّفت أوروبا تعاونها لدول المنطقة في المجال الإنساني، مع التركيز على الحكم الرشيد والأمن الغذائي والتعليم، وبعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022م تراجع الحضور الأوروبي في مناطق الساحل، بسبب تحوُّل اهتمام أوروبا إلى الشرق. وفي الفترة نفسها شهدت منطقة الساحل مشاعر عدائية لأوروبا، لا سيما فرنسا، مما مهَّد السبيل إلى قادمين جدد، في مقدمتهم روسيا، التي حاولت ملء الفراغ الأوروبي. وقد دفع ما فرضه القادمون الجدد للمنطقة أوروبا، بالإضافة إلى تعقيد المشهد السياسي في بعض دول الساحل، إلى البحث عن طرق جديدة للتعامل مع المنطقة، فكان الخيار أن تتعامل أوروبا مباشرةً مع المجتمعات المحلية والمنظمات غير الحكومية، متجاوزة بذلك الحكومات.
أهمية المنطقة بالنسبة لألمانيا:
تُعدّ منطقة الساحل الإفريقي موقعًا إستراتيجيًّا بالنسبة لألمانيا، التي كانت منذ فترة طويلة لاعبًا مهمًّا في جهود تحقيق الاستقرار والتنمية في المنطقة الناطقة بالفرنسية إلى حد كبير. وقد تولت ألمانيا في يوليو 2023م الرئاسة الدورية لمدة عام لتحالف الساحل، وهو هيئة تنموية رئيسية في المنطقة. وتأسس التحالف في عام 2017م لمساعدة بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر-المعروفة مجتمعة باسم مجموعة دول الساحل الخمس- في كفاحها ضد الفقر والإرهاب([11])، اللذين يشغلان أوروبا بدولها المختلفة؛ لما لهما من انعكسات داخلية وخارجية، تُهدّد السلم والأمن.
وفي السياق ذاته؛ تعد منطقة الساحل أولوية للسياسة الخارجية والأمنية والتنموية الألمانية. ويتراوح عملها في المنطقة بين المساعدة الطارئة الحادة، وجهود تحقيق الاستقرار المدنية والعسكرية والتعاون الإنمائي على المدى الطويل. وتشارك ألمانيا في بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما)، حيث تساهم بما يصل إلى 1100 جندي، و20 ضابط شرطة. ويمثل هذا أكبر انتشار للقوات المسلحة الألمانية في الخارج من خلال الأمم المتحدة. وتشمل مهامها الأساسية: تعزيز هياكل الدولة في شمال ووسط البلاد، وحماية السكان المدنيين وحقوق الإنسان([12]).
وفي منحًى مشابهٍ، تُقدّم ألمانيا مساعدات محددة الهدف لبلدان المنطقة، لا سيما مالي وبوركينا فاسو والنيجر. ويركز هذا العمل على بناء القدرات –تعزيز قوات الأمن المدنية والعسكرية–، وتحقيق الاستقرار، أي تعزيز هياكل الدولة. والهدف هو المساعدة في استعادة سلطة الدولة في مناطق النزاع، وتعزيز ثقة الناس في دولتهم. وقد قدمت ألمانيا حوالي 277 مليون يورو لبناء القدرات، و217 مليون يورو لتحقيق الاستقرار منذ عام 2016م. وضاعفت ألمانيا مساهمتها السنوية إلى ما يقرب من 50 مليون يورو في عام 2020م، وعملت أيضًا على تأمين الدعم الدولي. وساعدت في تنظيم مؤتمر في أكتوبر 2020م؛ حيث تعهَّد وزير الخارجية الألماني بمبلغ 100 مليون يورو للفترة 2020-2023م، وتم حشد ما مجموعه 1.7 مليار دولار أمريكي من جميع المشاركين. وفي الوقت نفسه، تعهَّدت ألمانيا بما يزيد على 1.3 مليار يورو للتعاون التنموي منذ عام 2016م ( ([13].
في أعقاب الانقلابات العسكرية في دول الساحل في مالي وبوركينا فاسو والنيجر في السنوات الأخيرة؛ طردت المجالس العسكرية الحاكمة القوات الفرنسية، ولجأت بدلًا من ذلك إلى وحدات المرتزقة الروسية للحصول على المساعدة الأمنية. كما هزَّت هذه المحاولات التعاون مع برلين. وتواجه مالي وبوركينا فاسو والنيجر منذ أكثر من عقد تمردًا تشنّه جماعات مسلحة، بما في ذلك بعض المتحالفة مع تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة. وكانت ألمانيا جزءًا من مهمة حفظ السلام التابعة لبعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما)، لكن آخر فرقة من قواتها غادرت البلاد في ديسمبر 2023م([14])، مما جعلها تبحث عن طريق جديد للتعاون مع دول المنطقة، بصورة غير مباشرة.
وعندما فشلت الإستراتيجية الأمنية الأولية لأوروبا في منطقة الساحل؛ بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، ومشاعر العداء تجاه الأوروبيين في المنطقة، وتعقيد المشهد السياسي بسبب الانقلابات؛ يعتقد جوليان بيرجمان أن ألمانيا ستضطر إلى استعراض قوتها الناعمة في منطقة الساحل، كما فعلت في الماضي. وقال لوكالة الأنباء الألمانية: إنه منذ ستينيات القرن الماضي، كان هذا هو الأسلوب الأساسي المتَّبع في عمل التعاون التنموي الألماني في منطقة الساحل وخارجها، مع التركيز على التعامل مع الجهات الفاعلة المحلية والمجتمع المدني. ووفقًا لبيرجمان، هناك مجال كبير لمواصلة هذا الأسلوب في التعامل مع المنطقة. وأشار إلى أن مشاريع المساعدات، التي تخدم هدف خلق فرص العمل في الزراعة والبناء والبنية التحتية كأداة رئيسية لهذا النوع من السياسات، يتضمن إنشاء شبكات ضمان اجتماعي غير رسمية تخدم احتياجات الناس([15]).
ومن الجانب الألماني، على الرغم من كل الصعوبات، هناك رغبة في مواصلة العمل مع هذه الدول. وقد أكد أولريش ثوم من قسم إفريقيا في مؤسسة فريدريش إيبرت، التي تحتفظ بمكتب في عاصمة مالي، باماكو، منذ ستينيات القرن، أن الكيانات الألمانية الرسمية، تريد أيضًا البقاء حاضرة في منطقة الساحل. ومع ذلك، أكد ثوم أيضًا أن الوضع، خاصة في مالي، التي تتعاون بشكل متزايد مع روسيا، صعب سياسيًّا([16]).
إن التعاون على المستوى الشعبي بين برلين والساحل يتفق جميع شركاء الشبكة الألمانية Focus Sahel على أنه أصبح من المهم الآن أكثر من أيّ وقت مضى؛ أن يستمع كل منهم إلى الآخر، وأن يأخذوا احتياجات بعضهم البعض على محمل الجد، بعيدًا عن أجهزة الدولة الرسمية.
وارتكازًا على ما تم ذِكره في مجال أهمية منطقة الساحل بالنسبة لألمانيا؛ يمكن القول: إن هذه المنطقة تعد موقعًا إستراتيجيًّا لألمانيا، لذلك لعبت فيها أدوارًا كبيرة في استقرار وتنمية المنطقة. وبالإضافة إلى عملها في مجال مكافحة الفقر والإرهاب، لعبت ألمانيا دورًا في المساعدات الطارئة والتعاون العسكري والإنمائي. كما أنها شاركت بالمال والرجال في آليات أُنيط بها حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة، وبناء القدرات العسكرية والمدنية.
كما يمكن، القول أيضًا: إن الدور الألماني، والأوروبي عمومًا، تراجع في المنطقة في الفترة الأخيرة، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وبسبب تعقيد المشهد السياسي في المنطقة، بالدخول في موجات انقلابات، ترتب عليها تغيّر الوضع في المنطقة، وانفتاح الأبواب لروسيا وبعض اللاعبين الدوليين الجدد. وكل ذلك حتَّم على ألمانيا البحث عن القوة الناعمة، التي كانت تتبعها قديمًا، منذ ستينيات القرن الماضي في المنطقة، مع التركيز على الجهات الفاعلة المحلية والمجتمع المدني.
خلاصة واستنتاجات:
حاولنا -من خلال هذا المقال- قراءة وتحليل الخبر الخاص بإعلان ألمانيا مبادرة تعليم مليوني طفل في منطقة الساحل الإفريقي، وذلك في ضوء تحليل محتوى الخبر، وأهمية المنطقة بالنسبة لأوروبا عمومًا، وألمانيا على وجه الخصوص. وقد تبين لنا ما يلي:
أولًا: إن القراءة الأولية لهذه المبادرة، في ضوء تحليل الخبر السابق، يقف خلفه من جهةٍ: الانتصار للقوة الناعمة، على الأقل تكتيكيًّا، في مقابل القوة الخشنة، التي يصعب استخدامها في الوقت الحاضر في عدد من دول الساحل. ومن جهة أخرى مجابهة نفوذ القوى الأخرى غير الأوروبية والأمريكية، التي وجدت طريقها إلى المنطقة، بقيادة روسيا. إضافةً إلى اتضاح أن أقصر طريق لمواجهة ما يسمونه “الإرهاب” والقضاء عليه من جذوره يتمثل في التعليم، وهو عمل تنموي يحسن صورة مَن يقدّمه في نظر المجتمعات المتلقية لتلك الخدمة الجوهرية.
ثانيًا: إن منطقة الساحل الإفريقي تحظى بأهمية خاصة عند أوروبا، فالمنطقة ذات تأثير على الأمن الأوروبي، لذلك سعت إلى دعمها بشتى السبل. وفي السياق ذاته تأكدت أهمية المنطقة بالنسبة للأوروبيين، ما تشهده بظاهرة ما يسمى الإرهاب، الذي تنجلي عنه إفرازات تهدد المصالح الأوروبية. ومن ناحية أخرى، وبعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022م، تراجع الحضور الأوروبي في منطقة الساحل.
وفي الفترة نفسها شهدت منطقة الساحل مشاعر عدائية لأوروبا، لا سيما فرنسا، مما مهَّد السبيل إلى قادمين جدد، في مقدمتهم روسيا. وقد دفَع ما فرضه القادمون الجدد للمنطقة أوروبا -بالإضافة إلى تعقيد المشهد السياسي في بعض دول الساحل- البحث عن طرق جديدة للتعامل مع المنطقة، فكان الخيار أن تتعامل أوروبا مباشرة مع المجتمعات المحلية والمنظمات غير الحكومية.
ثالثًا: إن أهمية منطقة الساحل بالنسبة لألمانيا تتمثل في كونها موقعًا إستراتيجيًّا، لذلك لعبت فيها أدوارًا كبيرة في استقرار وتنمية المنطقة. كما لعبت دورًا في المساعدات الطارئة والتعاون العسكري والإنمائي. إضافة إلى مشاركتها بالمال والرجال في آليات أُنيط بها حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة، وبناء القدرات العسكرية والمدنية. ومن جهة أخرى فإن الدور الألماني، والأوروبي عمومًا، في المنطقة في الفترة الأخيرة، قد تراجع بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. وبسبب تعقيد المشهد السياسي في المنطقة، عبر الدخول في موجات انقلابات، ترتب عليها تغيّر الوضع في المنطقة، وانفتاح الأبواب لروسيا وبعض اللاعبين الدوليين الجدد. وكل ذلك حتَّم على ألمانيا البحث عن القوة الناعمة، التي كانت تتبعها قديمًا، منذ ستينيات القرن الماضي في المنطقة، مع التركيز على الجهات الفاعلة المحلية والمجتمع المدني.
رابعًا: إن إعلان ألمانيا مبادرة تعليم مليوني طفل في منطقة الساحل الإفريقي؛ يأتي، باختصار غير مُخِلّ، نتيجة لصعوبة التواصل مع بعض حكومات المنطقة، التي يَعدّها الغرب غير شرعية، كما يأتي استلهامًا لطريقة كانت تتبعها ألمانيا قديمًا منذ ستينيات القرن الماضي، تتمثل في استخدام القوة الناعمة، التي تجعلها تتعامل مباشرة مع الجهات المحلية الفاعلة، والمجتمع المدني، دون الحاجة إلى التعامل مع الحكومات بصورة مباشرة، وهذا من شأنه أن يُحسِّن صورة ألمانيا، في مجتمعات إفريقية، تشعر بالعداء تجاه كل ما هو أوروبي.
…………………………
[1]– ألمانيا تعلن مبادرة لتعليم مليوني طفل بمنطقة الساحل الإفريقي، على الرابط: https://www.dw.com/ar/ألمانيا-تعلن-مبادرة-لتعليم-مليوني-طفل-بمنطقة-الساحل-الأفريقي/a-69684418
[2] – Together for security, stability and development: Germany’s involvement in the Sahel region، على الرابط: https://www.auswaertiges-amt.de/en/aussenpolitik/regionaleschwerpunkte/afrika/sahel/2450778
[3] Christine Nissen (2024): Europe’s role in the Sahel (2024)، على الرابط: https://www.diis.dk/en/research/europes-role-in-the-sahel
[4] Together for security, stability and development، مرجع سابق.
[5]– المرجع نفسه.
[6] Christine Nissen (2024): Europe’s role in the Sahel، مرجع سابق.
[7]– المرجع نفسه.
[8] The EU in the Sahel: Be patient, united and critical (2024)، على الرابط: https://ecdpm.org/work/eu-sahel-patient-united-critical
[9]– المرجع نفسه.
[10] Nikolas Fischer (2024) Should Germany expand strategic partnerships in the Sahel?، على الرابط: https://www.dw.com/en/should-germany-expand-strategic-partnerships-in-the-sahel/a-68079472
[11]– المرجع نفسه.
[12] Together for security, stability and development، مرجع سابق.
[13]– المرجع نفسه.
[14] Thomas Mösch (2024): Sahel: Navigating Germany’s development cooperation، على الرابط: https://www.dw.com/en/sahel-germany-redefines-its-development-cooperation-approach/a-69480866
[15] Nikolas Fischer (2024) Should Germany expand مرجع سابق .
[16] Thomas Mösch (2024): Sahel: Navigating Germany’sمرجع سابق .