يُعتبر الفساد المالي أحد أكبر المعوقات التي شلّت عملية النهضة الإفريقية، ومن سوء الحظ أن نجد أن أضخم عمليات الفساد في معظم الدول الإفريقية يتورط فيها مسؤولون كبار في أعلى هرم السلطة في الدولة.
وإن كان الكشف عن عمليات الفساد سهلاً إلى حد كبير، يبقى محاسبة المتورطين فيها، ثم وضع حدّ لها صعبًا للغاية. وذلك نتيجة غياب الحكم الرشيد مطلقًا في أغلب الدول الإفريقية. فيما نجد أن قلة من الدول التي تتمتع بالحد الأدنى من مبادئ الحكم الرشيد يحظى المتورطون في أعمال الفساد فيها بمناصب تجعلهم قادرين على التحكم في مؤسسات الدولة، وتحريفها عن أهدافها، ثم تغييب فاعليتها القانونية والمؤسسية للتفلت من العقوبة بسهولة.
أو -بطريقة أو أخرى- يتمكن هؤلاء من حماية أنفسهم عن طريق الالتفاف حول القوى العظمى، سواء كانت دولاً ذات نفوذ، أو شركات عملاقة؛ لتحصين مصالحهم المزدوجة. وهذا ما جعل مشاهد الفساد التي ترقى إلى مستوى الخيانة العظمى أحيانًا، تتكرر في إفريقيا وفي صور مختلفة، وهذا ما جعل أيضًا دول القارة أكثر دول العالم فقرًا رغم الثروات والخيرات التي تعجّ بها.
وفي هذه المرة، وفي السنغال تحديدًا، يتكرّر مشهد من مشاهد فساد يمكن وصفه بالسابقة أو بالتاريخي على مستوى هذه الدولة الواقعة في أقصى الغرب الإفريقي.
صفقاتٌ وهميةٌ حول البترول والغاز:
تورّط في هذه الواقعة أشخاصٌ في أعلى هرم السلطة، بالإضافة إلى شركات أجنبية عملاقة، ورجل أعمال دولي مشبوه ذاع صيته في العالم بجرائم مالية ومخالفات قانونية.
ومع كل محاولات التكتم لتمرير هذه الواقعة دون ذكر، انكشف الأمر مؤخرًا على نطاق واسع نتيجة التحقيقات التي قامت بها القيادات الشعبية من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني.
ثم جاء التقرير الذي قامت به هيئة الإذاعة البريطانية (B.B.C) ليشكّل القشة التي قصمت ظهر البعير؛ نتيجة المصداقية التي حظي بها التقرير.
فمع حلول عام 2011م أطلقت السنغال كشوفات نفطية وغازية على مستوى واسع، شملت داخل البحر وخارجه، وكان من بين المناطق المستهدفة من هذه الكشوفات منطقتا “كيار” و”سين لويس” داخل البحر.
وكانت الشركات المهتمَّة بالتعاقد مع السنغال في هذا المجال كثيرة؛ إلا أن الحكومة آنذاك فضَّلت –لأسباب غير مبرَّرة- أن تعطي أولوية التنقيب عن النفط والغاز لشركة “Petro-tim“.
وفي 17 يناير 2012م وبعد مباحثات بين الشركة والحكومة السنغالية وقَّعت الحكومة السنغالية ممثَّلة في الشركة الوطنية للبترول “Petrosen” عقد تنقيب عن البترول في الحقول السالفة الذِّكر مع الشركة.
بعد الانتخابات الرئاسية في فبراير 2012م تغيرت السلطة بانتخاب رئيس جديد وسط مطالب شعبية تدعو إلى محاربة الفساد، وقد سبق أن تعهد الرئيس الجديد المنتخب آنذاك “ماكي صال” في حملاته الانتخابية بتحقيق هذه المطالب.
وعلى الرغم من هذه التعهدات التي من خلالها تم تفعيل محكمة مكافحة الكسب غير المشروع، وإنشاء المكتب الوطني لمكافحة الاحتيال والفساد؛ تم مؤخرًا اكتشاف أن عقود البترول والغاز التي اعتمدها الرئيس خلال المراسيم الرئاسية التي تعطيها الفاعلية كانت مخالفة تمامًا للقانون، بالإضافة إلى أنها لا تحقق المصلحة العامة، ولا تتوافق مع معايير الحكم الرشيد؛ حيث أظهرت التحقيقات وقوع فضائح مالية تورَّط فيها الرئيس نفسه ومقربون لديه من أسرته وأعضاء في الحكومة.
لقد كشف التقرير الذي أجرته هيئة الإذاعة البريطانية عن اختلاس مالي كبير تراوح حجمه بين 9 إلى 12 مليار دولار. وأظهرت التحقيقات عن الخيوط الخفية لهذه العملية المُحْكَمَة والمنظَّمة، والتي يمكن أن تَتَشَكَّل منها عدَّة جرائم قانونية؛ كل جريمة منها مكتملة الأركان المادية والمعنوية.
فعندما وصل رجل الأعمال الروماني المشهور بـ “فرنك تيميس – Frank Timis” والذي أُدِينَ مرَّتين في جرائم المخدرات في عام 1990م إلى أرض السنغال؛ طمعًا في مواردها، أنشأ شركة “بترو تيم: Pétro-Tim“، ولم يكن من السهل لشركة جديدة كهذه الحصول على امتياز التنقيب عن البترول والغاز، ولكن بما أن الرجل ذو خبرة طويلة في استمالة المسؤولين الأفارقة؛ من خلال تقديم الرشاوى للحصول على خدماتهم، وجد في شقيق الرئيس السنغالي ضالته، وخصَّص له 3 ملايين دولار من أسهم الشركة، وراتبًا قدره 25 ألف دولار في الشهر كأجرة للخدمات الاستشارية في شؤون البترول والغاز، رغم أن الرجل متخصِّص في مجال الصحافة. لكن تبيَّن أن الهدف كان استخدام شقيق الرئيس كأداة للضغط والتأثير على رئيس الجمهورية للتوقيع على المراسيم التي تعطي سريان الفاعلية للاتفاقية الموقَّعَة بينه وبين الحكومة السنغالية.
وعلى الرغم من صدور تحقيق رسمي من أعلى هيئة رقابية في الدولة، قُدِّم مباشرة لرئيس الجمهورية، ووردت فيه توصيات للرئيس بعدم التوقيع على الاتفاقية؛ لوجود عيوب كثيرة تكتنفها؛ لكنَّ الرئيس أصرَّ على التوقيع على الاتفاقية وإصدار مرسوم بها؛ استنادًا إلى تقرير آخر صادر من وزير المعادن. وتم في هذا التقرير المزوّر قَلْب الحقائق، والتلاعب بالمعلومات الخاصة بالشركة؛ من أجل تبرير فعل الرئيس. وهو الشيء الذي يفسّر تضارب المصالح الذي لا يمكن إنكاره بين رجل الأعمال الروماني والرئيس وشقيقه.
وبعد الكشف عن الغاز في حقول التنقيب تنحَّت شركة “بتروتيم” عن القصة، وباعت جزءًا من أسهمها للشركة البريطانية للبترول (British Petroleum) بمبلغ يُقدر بـ250 مليون دولار. وهنا يكمن بيت القصيد في عملية الاختلاس الممنهجة؛ حيث ينص العقد الدائر بين “الشركة البريطانية للبترول” وشركة “بتروتيم” على أن الأخيرة ستحصل على إتاوات تُقدّر بـ9 إلى 12 مليار دولار لمدة أربعين عامًا من الإنتاج. وهنا يحقّ طرح التساؤل حول المستفيد الأكبر من هذه الموارد، وهل الشعب المالك للموارد هو المستفيد الأول؟ أم الشركات العملاقة أو سماسرة الشركات الوهمية؟
والمؤلم في الأمر أيضًا هو قابلية الاستغلال التي يُظهرها المسؤولون الكبار في الدولة، والذين كان الدور المنوط بهم يكمن في حماية ممتلكات الشعب، إلا أن الممارسة تثبت عكس ذلك.
وعلى سبيل المثال؛ فقد ظهر في مراسلات شركة “بتروتيم” أن مبلغًا بقيمة 250 ألف دولار وُصِفَ بأنه ضرائب تم تحويله إلى شركة “أغريترانس Agritrans“، وهي في الحقيقة شركة مملوكة لشقيق الرئيس نفسه. وهو ما وصفه “فيليب كودويل Philip Coldwell” المقرب لدى صاحب شركة “بتروتيم” بالرشوة الواضحة.
الشروع في اختلاس 155 مليون دولار في قضية عقارات:
في عام 1978م ثارت قضية حول ملكية عقار بين أسرتين عريقتين في السنغال، وبعد وصول القضية إلى المحكمة للفصل في الأمر؛ قضت المحكمة في عام 2012م بملكية العقار لإحدى الأسرتين.
الأمر الذي لم يُشَكِّل مشكلةً كبيرةً في الرأي العام السنغالي؛ لكونها قضية بسيطة. إلا أنه تم استدراج عناصر أجنبية في الواقعة لاستغلال القضية لصالح موظفين كبار في الدولة، وهو ما يمكن تكييفه بجريمة استغلال السلطة.
ففي عام 1997م وقبل صدور حكم المحكمة قررت الدولة تأميم العقار. ومن مقتضيات أحكام القانون تعويض مالك العقار، من خلال لجنة تقوم بتقييم قيمة العقار، ثم تحديد التعويض المناسب. لم تقم الدولة بواجب التعويض العاجل والمناسب للأسرة المالكة بعد متابعات متكررة من الأسرة وصلت إلى حد اليأس؛ فقامت شركة وسيطة بتبنّي المشكلة وشراء حقّ التعويض من الأسرة بقيمة 3 ملايين دولار. رغم أن الأسرة وافقت على التنازل لحق الوسيط، إلا أن المحكمة رفضت هذا الإجراء في حكم صادر في عام 2016م، وفي المقابل رفض الوسيط الحكم، ولجأ إلى محكمة الاستئناف؛ فأيدت محكمة الاستئناف حكم المحكمة الأول، والذي يؤكد أن حق التعويض ثابت فقط للأسرة المالكة، ولا يمكن نقله قانونًا.
رغم صدور هذين الحكمين، وبعلم من وزارة الاقتصاد والمالية، وبتسهيل من مدير مصلحة الضرائب، والذي كان الوسيط مقربًا عنده، تمت المصادقة على بيع حق التعويض، وتشكيل لجنة لتقييم العقار؛ لإلزام الدولة بدفع مبلغ التعويض للشركة الوسيطة.
قامت لجنة خاصة بتقييم مبلغ التعويض وقررت سداده على قسطين؛ القسط الأول 75 مليون دولار، بينما القسط الثاني 80 مليون دولار، ومجموع القسطين 155 مليون دولار، وألزمت الدولة بدفعها للشركة الوسيطة، لا للأسرة التي تستحقّ حقّ التعويض الحصري.
وهو الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا باختلاس الأموال العامة؛ من خلال سوء استخدام السلطة، بجانب تقويض دولة القانون والحكم الرشيد.
نجم الديموقرطية الآفلة:
تُعتبر السنغال من أفضل الدول التي أدَّت أداءً حسنًا في إرساء دعائم الدولة الديمقرطية في إفريقيا. ولقد قطعت شوطًا مهمًّا في تحقيق مقتضيات دولة القانون؛ من خلال ترسيخ مفهوم التداول السلمي للسلطة، وترسيخ الحكم الرشيد، حتى وُصِفَتْ الدولة بمهد الديمقرطية الإفريقية. إلا أنَّ السلطة الحاكمة في هذه الفترة والمسؤولة عن الاحتفاظ بهذا الإرث وتطويره ليست على قدر من المسؤولة. وإلا لاستطاعت تجاوز هذه المشكلات التي تتنافى مع الحد الأدنى من معايير الحكم الرشيد.
فرغم جسامة الأحداث السالفة الذكر نشهد تلكؤًا من السلطة القضائية في محاسبة المسؤولين عن هذه الأحداث، بحكم أنهم مقرَّبُون لدى الرئيس، أو أعضاء في الحزب الحاكم. ومازال بعضهم يتمتَّع بمناصب عليا في السلطة التنفيذية، والبعض الآخر أحرار لم تُتَّخَذ إجراءات جادة ضدهم لتحقيق العدالة.
ومع ذلك ما يزال الأمل معقودًا على جهود المعارضة بتشكلاتها المختلفة، سواء الأحزاب السياسية، أو منظمات المجتمع المدني، أو جماعات الضغط المختلفة؛ لتصحيح مسار السلطة الحاكمة بشكل يسمح للجيل الحالي واللاحق بالاستفادة من الموارد الطبيعية للدولة، والحفاظ عليها دون الوقوع في فخّ الطامعين من القوى العظمى التي لا تنفك تحدق عيونها تجاه الدول النامية لامتصاص خيراتها.