يُشَكِّل الأول من ديسمبر عام 2019م لحظةً فارقةً في تاريخ الانتقال السياسي الإثيوبي؛ حيث وقَّعت ثلاثة أحزاب رئيسة في الائتلاف الحاكم، بالإضافة إلى خمسة أحزاب تابعة لها، وثيقة إعلان ميلاد حزب الرفاه الإثيوبي.
ويضم الحزب الجديد الذي قام على أنقاض الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية التنظيمات السياسية التالية: حزب العفر الوطني الديمقراطي، حزب بني شنقول -غوموز الديمقراطي، حزب أورومو الديمقراطي، حزب أمهرة الديمقراطي، الحركة الديمقراطية لشعوب جنوب إثيوبيا، الحزب الديمقراطي الصومالي، حركة غامبيلا الديمقراطية الشعبية، ورابطة هرري الوطنية.
وكما هو متوقَّع؛ فقد رفضت الجبهة الشعبية لتحرير التقراي -وهي الحزب المؤسِّس للتحالف الذي تمَّ التخلي عنه رسميًّا- الانضمام إلى الحزب الجديد على أساس أنه غير شرعي، وبحجة أن القيادة الحاكمة لا تملك صلاحية التخلّي عن “الديمقراطية الثورية”.
أضف إلى ذلك؛ فقد عارضت شخصيات من خارج التقراي هذا الاندماج. ولعل أبرز المعارضين هو وزير الدفاع الإثيوبي “لما مجرسا”؛ الذي كان أيضًا حليفًا رئيسيًا لرئيس الوزراء آبي أحمد.
ولا شك أن جهود رئيس الوزراء آبي أحمد المستمرة من أجل انفتاح إثيوبيا على العالم قد أذهلت الحكومات الأجنبية والمستثمرين على حدّ سواء. بَيْدَ أنَّ تصاعُد وتيرة العنف العِرْقِيّ تثير المخاوف من تمزيق البلاد وتعريض السِّلْم الاجتماعي للخطر. وعليه فإن قدرة حكومة آبي أحمد على الحفاظ على تماسك البلاد ووحدتها قبل الانتخابات التي ستُجْرَى في مايو 2020م سوف تكون بمثابة اختبار محوري لعملية التحرُّر الاقتصادي والسياسي الطموحة.
وسوف نستعرض في هذا المقال أبرز اتجاهات الجدل الإثيوبي حول خطوة إنشاء حزب الرفاه الجديد بين أنصار الوحدة من الفيدراليين وأنصار الفيدرالية العِرْقِيَّة المنصوص عليها في الدستور الحالي.
حزب الرفاه من منظور فلسفة الوحدة:
ثمة اتجاه يقوده الوحدويون من أنصار دعم السلطة المركزية للدولة؛ حيث يرون أن رفض حزب التيقراي الانضمام إلى حزب الرفاه يؤكد عدم قدرته على تجاوز السياسة العِرْقِيَّة. ويبدو أن هيمنة التيقراي على الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي على مدار 29 عامًا من وجودها، أصبحت اليوم غير قادرة على اعتبار نفسها شريكًا متساويًا مع كل الحلفاء السياسيين.
علاوةً على ذلك، يشير حزب الرفاه بالتأكيد إلى أنه لم يَعُدْ يضع العِرْق في صلب أجندته السياسية. وكما يشير مصطلح الرفاه في حدّ ذاته؛ فهو يركّز بالكامل على إخراج إثيوبيا من حالة الفقر والتخلُّف ووضع أقدامها على طريق النجاح والتطور الاقتصادي. وهذا يعني أن السياسة العِرْقِيَّة لن تُنَحَّى جانبًا فقط، بل سيخضع نظام الحكم أيضًا لمفاهيم البراغماتية السياسية والاقتصادية.
ويرى أنصار أيديولوجية آبي أحمد “ميديمر: الوحدة” أنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنسَقه الفكري المؤيد للرأسمالية في الاقتصاد. ولعل ذلك يوحي بأنه في حال فوزه بالانتخابات المقبلة، فمن المرجح أن يُخفّف من غلواء سيطرة الأقاليم القوية لصالح سلطة المركز، كما أنه سوف يُشجِّع المزيد من سياسات وممارسات حرية الأسواق.
وبعد تأسيس حزب الرفاه يأمل الوحدويون أن ينتقل رئيس الوزراء آبي أحمد من كونه جزءًا من حزب قائم على أساس عِرْقِيّ إلى حزب قوميّ أو أيديولوجيّ، وليصبح أحد أهم الأحزاب في السياسة الإثيوبية. وربما يقلل ذلك من خطر إعادة تكرار خبرة الانتخابات الزائفة التي جرت في عهد النظام السابق. ففي ظل غياب الجبهة الشعبية الثورية من المناصب الرئيسية في الجهاز السياسي والإداري للدولة، قد تكون هناك فرصة جيدة لأن تشهد البلاد انتخابات نزيهة وشفافة حقًّا في مايو 2020م.
ربما ينظر بعض الوحدويين كذلك إلى مشاركة الحزب الديمقراطي الصومالي في حزب الرفاه؛ باعتباره تطورًا إيجابيًّا، وإنهاءً لحالة التهميش التي عانى منها الصوماليون في ظل هيمنة التيقراي طيلة 28 عامًا في إثيوبيا. وكما يقول محمد أولاد، مستشار رئيس الإقليم الصومالي؛ مصطفى عمر: “إن اندماج الحزب الصومالي في حزب الرفاه يُوفّر الكثير من الفُرَص للشعب الصومالي؛ ليكون له رأيٌ في القضايا ذات الأهمية الوطنية والإقليمية“.
حزب الرفاه ومعضلات الواقع الإثيوبي:
لقد كان من الصعب على رئيس الوزراء آبي أحمد التفكير في الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية كتحالف حقيقيّ يمكن من خلاله خوض غمار الانتخابات القادمة. وعليه لم يكن هناك مفرّ من دمج التحالف الحاكم في حزب وطني واحد.
بَيْدَ أنَّ عملية الاندماج التي قادها آبي أحمد تطرح كثيرًا من الإشكاليات في واقع الممارسة العملية. على سبيل المثال: هل يعني تشكيل حزب الرفاه حلّ جميع الأحزاب الإقليمية، واستبدالها بـهياكل الحزب الجديد؟ ثمة تساؤلات جادَّة تتعلق بقضايا التمثيل الإقليمي وبرنامج الحزب. ومن الناحية الحزبية، إذا كان حزب الرفاه يمثّل حزبًا جديدًا حلَّ محل الجبهة الحاكمة فستكون هناك حاجة لاختيار مجموعة قيادية جديدة، بما في ذلك رئيس الحزب. ولا يستطيع آبي أحمد تولي المنصب تلقائيًّا؛ لأنه لم يُنْتَخَب مِن قِبَل أعضاء حزب الرفاه. علاوةً على ذلك، لم تكن الأحزاب المشاركة الجديدة جزءًا من الحزب الحاكم الذي انتخب آبي أحمد رئيسًا له في مارس 2018م. من ناحية أخرى: هل يمكن لـحزب الرفاه الخروج ببرنامج حزبي متّفق عليه يعيد للأمة الإثيوبية روحها الوطنية؟
وكما بيَّنَّا؛ فقد رفضت الجبهة الشعبية لتحرير التيقراي بالفعل عملية الدمج في ظل غياب برنامج متفق عليه، كما وقفت شخصيات سياسية بارزة في صفوف المعارضة لهذا التحوُّل الحزبي. لكنَّ اللغز في السياسة الإثيوبية يتجاوز ذلك. فثمة حالة من الاستقطاب الشديد على مستوى الأقاليم الاتحادية؛ حيث تتمتَّع النُّخَب المحليَّة بنفوذٍ كبيرٍ، وهو ما يترك مساحة محدودة للمناورة الحزبية على الصعيد الإقليمي. وهناك أيضًا بعض القضايا الرئيسية الخلافية؛ مثل طبيعة الهيكل الفيدرالي القائم على التقسيم العِرْقِيّ، وحلّ النزاعات الإدارية الإقليمية وقضايا اللغة، وغيرها من المسائل الحسَّاسة في التاريخ الإثيوبي.
لقد أصبحت أيديولوجية “ميديمر: الوحدة” التي يتبنَّاها رئيس الوزراء مجرد أداة أو مطية يحاول من خلالها الخروج من مأزق السياسة الراهن. ومع ذلك، لا يمكن اعتبار أيديولوجية الاندماج تلك بمثابة البرنامج السياسي للحزب الجديد. فهل يمكن لحزب الرفاه أن يتبنَّى برنامجًا سياسيًّا جامعًا يستوعب كافَّة القضايا الخلافيَّة المذكورة أعلاه؟ وهل يستطيع توجيه رسائل موحَّدة لكافة المواطنين الذين يعيشون في مختلف أنحاء الاتحاد؟ وما مدى تماسك هذا الحزب الوطني الجديد؟
من الواضح أن عملية الدمج قد مضت قُدُمًا بالرغم من معارضة حزب التيقراي على هذه الخطوة. ويبدو أن عملية الدمج ليست شديدة الخطورة على المدى القصير إذا كان حزب الرفاه قادرًا على صياغة برنامج مقبول لجميع أعضائه. بَيْدَ أنَّ الخطر الأكبر الذي قد يؤدِّي إلى الانفجار يَتمثّل في معارضة أنصار صيغة الفيدرالية العِرْقِيَّة التي ينص عليها الدستور الحالي. وتلك هي المعضلة التي أبرزتها معارضة وزير الدفاع “لما مجرسا”.
بينما يرتبط الخطر الآخر بالانتخابات القادمة، ولا سيما إذا حاول حزب الرفاه التحكُّم في صناديق الاقتراع أو محاولة تزوير الانتخابات برُمّتها.
وعلى أية حال فقد تمت الموافقة على اللوائح الداخلية وبرنامج حزب الرفاه مِن قِبَل اللجنة المركزية للتحالف الحاكم وبعض المؤتمرات الحزبية. وبات من الواضح تمامًا أنه سيتم حلّ الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية والأحزاب التي سارت في فلكها زمنًا طويلاً. كما أن قرارات رئيس الوزراء المتعلقة باللغة، والتي أعادت للأمهرية مكانتها قد أثارت غضبًا على وسائل التواصل الاجتماعي، وإذا ما سارت الحكومات الإقليمية على هذا النهج، من حيث استخدام الأمهرية؛ فإن رئيس الوزراء آبي أحمد يكون وبحق وريث الأنظمة الإمبراطورية التليدة في إثيوبيا.
وطبقًا لمنصة “إثيوبيا انسايت”؛ يحاول آبي أحمد إرضاء جميع الجهات الفاعلة المحلية، وكذلك المجتمع الدولي في نفس الوقت. وهذا يقينًا عملٌ مستحيلٌ. لقد بدأ مخزون آبي أحمد ينخفض بسرعة بين الإثيوبيين؛ لأن خطابه المنمّق لا يستطيع إخفاء مواقفه غير القابلة للتوفيق؛ إنَّه يُمَجِّد ماضي إثيوبيا الإمبراطوري، لكنه يتحدّث عن إثيوبيا كأمة متعدِّدة الجنسيات. كما أن فلسفة ميديمر (الوحدة) ليست مفصَّلة بما فيه الكفاية لإظهار كيفية التوفيق بين النقيضين.
إنه يريد أن يقود البلاد نحو التحوُّل الديمقراطيّ، ولكنَّه يتمسك في نفس الوقت بأهداب دولة استبدادية. هناك خطر من أن النُّخْبَة الضيِّقة حول آبي أحمد لا تزال ملتزمة بشكل متزايد بمشروعه الغامض الطموح، في حين أن أولئك الذين يُبْدُونَ رؤيةً أكثرَ وضوحًا؛ مثل جوهر محمد، يزداد رصيدهم الشعبي وضوحًا. ولا شك أن هذه المشاكل السياسية المقترنة بالضعف الهيكلي في مؤسسات الدولة الإثيوبية العتيقة تجعل انتقال إثيوبيا مرحلة محفوفة بالمخاطر. ومن المتوقع حدوث المزيد من الصدمات إذا فشلت النُّخَب الحاكمة في إنهاء حالة الغموض المرتبطة بمناهج الاندماج الوطني.
ولا شكَّ أنَّ هذا الجدل الإثيوبي حول حزب الرفاه يَطْرَح حقيقة “الشمع والذهب” في الفولكلور الإثيوبي؛ إذ يكفي أن نقول: إن الزعيم الشّابّ الإثيوبي الطَّمُوح وجد نفسه بين هذين النقيضين: الشمع وهو المعنى الظاهر يتمثل في إعلانه عن التحوُّل الديموقراطي، أما الذهب وهو المعنى الكامن خلف الشمع؛ فيتمثل في حقيقة السياسة الإثيوبية البالغة التعقيد والتشابك. ومع ذلك فقد استطاع الرجل خلال فترة وجوده القصيرة في السلطة، أن يفتح أعين الإثيوبيين على إمكانات الانتقال الديمقراطيّ الحرّ، ويغرس بذرة جديدة في أرض جدباء، بينما يحاول خلفاؤه جاهدين الضغط كي تعود الأمور إلى سيرتها الأولى.