د. علي متولي أحمد
باحث في الشؤون الإفريقية
تُنذر الأوضاع الراهنة في منطقة شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية بشيءٍ من الخطر؛ لما تشهده من أحداثِ عنفٍ وقتلٍ من جانب الميليشيات المسلّحة، وتطوَّر الوضع مؤخرًا باقتحام وحرق مقر بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في الكونغو الديمقراطية (مونوسكو MONUSCO).
النزاعات العِرْقِيَّة، والتدخلات الإقليميَّة:
لم تكن هذه الأحداث وليدة اللحظة، ولكن تمتد جذورها للعشرين عامًا الماضية؛ فقد اندلعت عدة صراعات في منطقة شرق الكونغو؛ نتيجة للنزاعات العرقية، والتدخلات الإقليمية من جانب الدول المجاورة؛ أوغندا، رواندا، وبوروندي.
فأقلية التوتسي Tutsi الموجودة في شرق الكونغو لم تقطع صلتها مع أقلية التوتسي الحاكمة على الجانب الآخر من الحدود في كلٍّ من رواندا، أوغندا، وبوروندي؛ ممَّا أفضى إلى تحالفات وارتباطات إقليمية على أساس إثني مع نظام الحكم الأوغندي وحكم الأقلية التوتسية في كلٍّ من رواندا وبوروندي.
أيضًا كانت رواندا طرفًا أساسيًّا ومحركًا لأزمات الكونغو الداخلية، وهي تستند في ذلك إلى حماية حدودها من ميليشيات الهوتو Hutu المتمردة، والمتمركزة في منطقة كيفو Kivu التي شكَّلت قاعدةً أساسية بالنسبة لهم.
ولم تَغِب بوروندي عن المشهد، بل كان وجودها في الكونغو من أجل تدعيم إحدى الفصائل المتمردة؛ رغبةً في تأمين حدودها الغربية مع الكونغو من هجمات الهوتو البورونديين.
ومن خلال ماسبق يمكن القول بأن هذا الوضع المعقَّد جعل جمهورية الكونغو الديمقراطية -في ظلّ تنوع تركيبتها الإثنوغرافية- بؤرةً متجدِّدة من النزاعات العرقية.
وإضافة إلى هذا الصراع الإثني، هناك صراع وتنافس بين الدول المجاورة للكونغو؛ لمحاولة إيجاد موطئ قدم لهذه الدول في استغلال ثروات تلك المنطقة، والسيطرة على مواردها المعدنية، لذا استغلت الميليشيات والحركات المسلحّة -وبصفة خاصة ميليشيا “تحالف القوى الديمقراطية” الأوغندية- هذا الوضع المتأزم، وراحت تنتهج سياسات العنف والقتل ضد السكان المدنيين في تلك المنطقة.
الفصائل المسلّحة في الكونغو الديموقراطية:
توجد عدة فصائل مسلَّحة، لكنَّ أبرزها “تحالف القوى الديمقراطية” الأوغندية، وهو مجموعة مسلَّحة أوغندية، تأسست عام 1995م، ولجأت إلى الكونغو الديمقراطية، ويضمّ التحالف مقاتلين فرُّوا من أوغندا، وأخذوا على عاتقهم الإطاحة بالحكومة الأوغندية والرئيس الأوغندي “يوري موسيفيني”، وقد ضمّ هذا التحالف تحت لوائه الحركات المعارضة للرئيس الأوغندي؛ من بينها: “الحركة الديمقراطية المتحدة”، و”الجيش الوطني لتحرير أوغندا”، و”جيش تحرير أوغندا المسلم”، ويتمركزون في سلسلة جبال “روينزوري” وسط إفريقيا على الحدود بين أوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
وظلّ هذا التنظيم لفترة طويلة تحت قيادة مؤسِّسه جميل موكولو، قبل أن يُلقى القبض عليه في تنزانيا أبريل 2015م، ويُسَلَّم إلى أوغندا في يوليو من نفس العام.
وميليشيا “تحالف القوى الديمقراطية” لم تكن هي الوحيدة في شرق الكونغو، بل يعاني هذا الإقليم من وجود العديد من الحركات والميليشيات المسلَّحة؛ لذا تحوّلت هذه المنطقة لتصبح تدريجيًّا بؤرة توتّر وعنف تهدّد منطقة البحيرات الكبرى بأَسْرِها.
وهذا الانتشار الواسع لهذه الفصائل المسلّحة يعتمد بشكل أساسي على النزاعات المحلية، وتوتّر العلاقات بين دول الجوار، وتهريب الثروات المعدنية الضخمة في هذه المنطقة؛ باعتبار أنّ هذه المنطقة تُشكّل نقطة عبور نحو العديد من دول غرب ووسط إفريقيا.
وتعتبر أبرز الفصائل في هذه المنطقة هي: “القوى الديمقراطية لتحرير رواندا”، و”تحالف القوى الديمقراطية” الأوغندية، و”القوى الوطنية لتحرير بوروندي”.
وهناك تكهنات غير مؤكدة تزعم بأن الهجمات الأخيرة في شرق الكونغو كانت من تنفيذ “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش)، وأن ثمة ارتباطًا بين “تحالف القوى الديمقراطية” الأوغندية و”تنظيم الدولة الإسلامية”، ولكنَّ الروابط بين المجموعتين لا تزال غير واضحة حتى الآن.
ومنذ أكثر من عقدين، وحتى الوقت الراهن، اتخذت تلك الميليشيات المسلَّحة العنف الدامي سبيلًا لها، وتخلّت عن سلمية العمل في تحقيق مطالبها السياسية المتمثلة في الإطاحة بالحكومة الأوغندية والرئيس الأوغندي “يوري موسيفيني” Yuri Museveni، بل وتبنَّت المشاركة في تهريب المعادن والثروات المعدنية من شرق الكونغو؛ تلك المنطقة الغنية بمعادن الذهب والنحاس والكوبالت، وغيرها.
ونتيجة لهذه الصراعات العِرْقِيَّة، وتصاعد حدَّة العنف والقتل من جانب الفصائل المسلَّحة، انعكس ذلك على تردِّي الأوضاع الصحية في البلاد، خصوصًا منطقة شرق الكونغو التي تفشَّى فيها وباء الإيبولا.
الأوضاع الأمنية في إقليم شرق الكونغو:
في العام الماضي، وقع 135 حادثًا إرهابيًّا في هذه الدولة المضطربة الواقعة في وسط إفريقيا، مما أسفر عن مقتل 410 أشخاص وإصابة 145 آخرين.
وعادة ما تميل الهجمات إلى التركيز على المنطقة القلقة في شرق البلاد، بالقرب من الحدود مع أوغندا ورواندا وبوروندي.
ولعلَّ أكثر أشكال الإرهاب شيوعًا في عام 2018م يتمثَّل في أخذ الرهائن والاعتداء المسلح، والتي شكَّلت نحو 84% من إجمالي الهجمات.
وجاء في تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش Human Rights Watch، الذي صدر في أغسطس 2019م، “أن الميليشيات المسلَّحة في مقاطعات كيفو الشرقية، بجمهورية الكونغو الديمقراطية، قتلت 1900 مدنيّ، واختطفت 3300 آخرين خلال الفترة ما بين يونيو 2017م حتى يونيو 2019م.
هذا وقد تأثرت منطقة بيني Beni – الواقعة في مقاطعة شمال كيفو شرق الكونغو الديمقراطية والمتاخمة لأوغندا ورواندا- بصفة خاصة بعنف ميليشيات “تحالف القوى الديمقراطية” الأوغندية، التي قتلت مئات المدنيين خلال السنوات الخمس الماضية.
وقد أسفرت هذه الأحداث الأخيرة التي شهدتها منطقة شرق الكونغو خلال شهر نوفمبر الماضي عن سقوط العديد من القتلى والجرحى؛ حيث كانت حصيلة القتلى في مدينة بيني وضواحيها شمال كيفو، خلال الفترة من 5 نوفمبر 2019م وحتى 26 نوفمبر 2019م ما يقرب من 70 مدنيًّا، كردٍّ على العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش الكونغولي ضدّ هذه الميليشيات المسلّحة، إضافة إلى نزوح عدد كبير من السكان إلى مناطق أكثر أمنًا؛ حيث ذكرت المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة (UNHCR)، نقلاً عن المفوضية الأوروبية في منتصف نوفمبر أن ما لا يقل عن 2560 نازحًا -91٪ منهم من النساء والأطفال- من مباو وأويشا انتقلوا إلى بيني هاربين من هجمات الميليشيات المسلّحة.
وتعقيبًا على هذه الأوضاع المتوترة؛ صرّحت رئيسة البرلمان الكونغولي، جانين مابوندا Janine Maponda، بأنه “لا يمكن لبعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية أن تبقى في البلاد إلى أجل غير مسمَّى، مضيفةً بأن: “هناك شعورًا بالقلق من وجود وتكلفة “مونوسكو” في جمهورية الكونغو الديمقراطية، والنتائج التي حققتها”.
ومن الجدير بالذكر بأن بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية كان من مهامها حماية المدنيين من الجماعات المسلّحة، لكن على مدار فترة وجودها التي استمرت 20 عامًا، واجهت بانتظام اتهامات بالتراخي والتقاعس، خصوصًا في عام 2012م عندما سيطر متمردو حركة 23 مارس على محافظة جوما Goma، وأيضًا في ديسمبر2017م؛ حيث قُتِلَ 15 جنديًّا من جنود حفظ السلام التنزانيين، وأُصيب 44 غيرهم، عندما نصب “مسلحو تحالف القوى الديمقراطية” كمينًا لقاعدتهم في بيني في واحدة من أكثر الهجمات دموية على الإطلاق على بعثة منظمة الأمم المتحدة، بالإضافة إلى الهجمات المسلّحة الأخيرة على المدنيين في شرق الكونغو.
لذا كان هناك ردّ فعل عنيف من جانب الجيش الكونغولي الذي لم يقف مكتوف الأيدي تجاه هذه الجرائم التي ارتكبتها الميليشيات المسلّحة، وقام في 31 أكتوبر 2019م، بشنّ عمليات واسعة النطاق ضد هذه الميليشيات التي تسبَّبت في أعمال عنف في شرق البلاد المضطرب منذ ما يقرب من ربع قرن، كما قام بالعمل على حماية ثروات هذه المنطقة، والتى يتم نهبها عن طريق عدد من الحركات المسلّحة بشكل غير قانوني، كما قررت خمس دول في منطقة البحيرات العظمى -جمهورية الكونغو الديمقراطية، بوروندي، رواندا، تنزانيا، وأوغندا– توحيد عملياتها العسكرية في تلك المنطقة للقضاء على تلك الميليشيات.
وردًّا على هذه العمليات العسكرية التي قام بها الجيش الكونغولي، شنَّت ميليشيات “تحالف القوى الديمقراطية” الأوغندية في 11 نوفمبر 2019م هجومًا عنيفًا في شرق الكونغو، وتحديدًا على بلدية كوكولا Kokola؛ حيث أسفر هذا الحادث عن مقتل عشرة مدنيين.
ولم تكتفِ الميليشيات بهذا الحادث الدموي، بل لم تمرّ سوى ثلاثة أيام حتى شنّت هجومًا جديدًا في يومي 15، 16 نوفمبر 2019م، وأسفر هذا الهجوم عن مقتل 14 مدنيًّا في منطقة بيني شمال كيفو؛ انتقامًا من هجوم الجيش الكونغولي عليها.
كما شنّت ميليشيات “تحالف القوى الديمقراطية” الأوغندية هجومًا آخر على مدينة بيني في 25 نوفمبر 2019م.
أثر التصاعد المسلّح على الوضع الصحي:
من الطبيعي أن التصاعد المسلّح، وانتشار العمليات الإرهابية في شرق الكونغو؛ يرتبط ارتباطًا طرديًّا باستمرار تفشّي وباء الإيبولا في هذه المنطقة، فخلال الفترة القليلة الماضية كانت هناك مكاسب كبيرة تحقَّقت فى مواجهة هذه الوباء المنتشر في البلاد، ولكن بدأت المكاسب تتضاءل نتيجة تعليق المساعدات التي تقدّمها وكالات الإغاثة، وإجلاء موظفي الأمم المتحدة؛ إثر هذا الوضع المضطرب، فالاحتجاجات التي قام بها المدنيون والتوترات الأخيرة في المنطقة كانت عقبة أمام جهود الإغاثة لإنقاذ المجتمعات المتأثرة من وباء أيبولا.
وقد أفادت منظمة الصحة العالمية في 28 نوفمبر 2019م بأنه تمَّ الإبلاغ عن ستّ حالات مؤكَّدة بين 20 و26 نوفمبر، وقالت المنظمة: “إن العنف والاضطرابات التي تشهدها شرق الكونغو عرقل فِرَق مكافحة إيبولا، ومنعت الوصول إلى الجماعات المتضرِّرَة في أماكن عدَّة”، بالإضافة إلى أنه تم مقتل أربعة أشخاص من فِرَق مكافحة إيبولا في هجومين مسلحين يومي 27، 28 نوفمبر في بياكاتو Piakato “إيتوري” Ituri ومانجينا Mangina “شمال كيفو”؛ بحسب منظمة الصحة العالمية.
ردود الأفعال الشعبية والرسمية:
عمَّت حالة من السخط والغضب الشعبي من جانب سكان المدينة، فما كان أمامهم إلا القيام باقتحام معسكر لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة؛ تعبيرًا عن غضبهم بسبب ما اعتبروه “تقاعسًا” من جانب الجيش الكونغولي وقوات البعثة الأممية في وضع حدّ للمجازر التي ترتكبها ميليشيات “تحالف القوى الديمقراطية” الأوغندية بحق المدنيين.
وترتب على ذلك مواجهات مع القوات الكونغولية التي أطلقت الرصاص الحي في محاولة لتفريق المتظاهرين.
كما أن هناك حالة من السخط من جانب المسؤولين الكونغوليين تجاه أداء بعثة منظمة الأمم المتحدة، وهذا ما يبرز في تصريحات رئيسة البرلمان الكونغولي، كما أن هناك سخطًا شعبيًّا برز في المظاهرات الأخيرة لسكان بيني، ومهاجمتهم لمقر البعثة الأممية، وهذا دليل على الأداء السيئ للبعثة الأممية في الكونغو.
بالإضافة إلى ذلك؛ فهناك حوالي مليار دولار تُنْفَق كل عام على هذه البعثة دون جدوى، لذا هناك جهود رامية لتقليص ميزانية البعثة، وهناك توصيات نُشرت مؤخرًا بأن تبدأ البعثة انسحابًا تدريجيًّا مع حلول عام 2022م.
مقعد متقدم من حيث تأثير الإرهاب:
ومجمل القول؛ نتيجة لتزايد أنشطة الحركات والمجموعات الإرهابية في هذه المنطقة، جعل جمهورية الكونغو الديمقراطية في عام 2018م تتبوأ مقعدًا متقدمًا من حيث تأثير الإرهاب؛ حيث احتلت المرتبة الحادية عشرة في العالم من حيث تأثير الإرهاب، والأدهى من ذلك أنه تمَّ إدراجها هذا العام (2019م) من بين أسوأ 10 دول؛ نتيجة تزايد أنشطة مجموعات إرهابية، مثل: تحالف القوات الديمقراطية، والجبهة الديمقراطية لتحرير رواندا، وميليشيات ماي ماي.