محمد فوزي
باحث في العلوم السياسية
شهدت إثيوبيا منذ الأربعاء الماضي احتجاجات واسعة ضد رئيس الوزراء آبي أحمد، وتحديدًا من قومية “الأورومو” التي ينتمي إليها، والتي لطالما اعتُبِرَ وصوله إلى هذا المنصب الرفيع ثمرة نضال هذه القومية التي تعرَّضت لظلمٍ وتهميشٍ طوال عقودٍ.
فجاءت هذه الاحتجاجات لتثير العديد من التساؤلات المرتبطة بالسياق الذي جاءت فيه، وطبيعة الرسائل والدلالات التي حملتها، وتأثيرها على مستقبل المسار الإصلاحي الذي تبنَّاه رئيس الوزراء الإثيوبي؛ خصوصًا وأننا مقبلون على انتخابات تشريعية في 2020م، وهي التساؤلات التي سوف نحاول الوصول لعدة مقاربات لفهمها من خلال هذا التقرير.
أولاً: الاحتجاجات الإثيوبية: السياق والدوافع:
لم تمر سوى أيام على احتفاء الإثيوبيين بفوز رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، بجائزة نوبل للسلام، حتى اشتعلت الاحتجاجات ضده، وتحديدًا من قومية “الأورومو”، بدت التظاهرات في البداية كرَدّ فعلٍ على محاولة السلطات الإثيوبية التضييق على شبكة إعلام الأورومو، ومديرها المعارض البارز “جوهر محمد” المدير التنفيذي لشبكة أورومو الإعلامية، عقب تصريحات الحكومة بالعزم على عزل ضباط الأمن المعينين لحراسته عقب عودته من المنفى.
بدأت الاحتجاجات في أداما، على بُعد 90كم جنوب شرق العاصمة، وفي مدن أخرى في منطقة أوروميا، مقر إقامة آبي أحمد في العاصمة أديس أبابا، والتي يعيش بها جوهر في بلدة دادار الشرقية، بعد أن تجمَّع مئات من أنصار الناشط الإثيوبي الإثني جوهر محمد خارج منزله في العاصمة صباح يوم الأربعاء، وذكر موقع “أديس ستاندرد” أن المظاهرات خرجت من جميع مناطق الأورومو، وتم حشد مئات من أنصار جوهر، واستمرت المواجهة بين مؤيديه والشرطة الذين يحاولون تفريق الحشود وسط هتاف المتظاهرين “جوهر.. جوهر”، و”يسقط.. يسقط آبي”.
وأضاف موقع “كمبالا بوست” أنَّ الاحتجاجات جاءت عقب قيام محمد جوهر بنشر محادثة هاتفية على صفحته في فيسبوك بين أحد عناصر الحرس الخاص به وقائده الذي أمَر الأول بمغادرة منزل جوهر.
هذا، وقد بلغ عدد ضحايا هذه الاحتجاجات ما يزيد على 67 قتيلاً، من بينهم 5 عناصر شرطية حتى يوم الجمعة الماضية، بالإضافة إلى ما يزيد على 213 جريحًا.
وفي أول ردّ فعلٍ له قال رئيس الوزراء الإثيوبي: “إن وسائل الإعلام تريد أن تكون حرة، لكن هناك فرق بين الرغبة والتنفيذ”، وأضاف “إن الوضع نتج عن أجندات أصحاب المشروعات العِرْقِيَّة والدينية والسياسية في البلاد”، وأشار لدور وسائل الإعلام في عدم الاستقرار الذي تتعرَّض له البلاد، واتهم وسائل الإعلام بأنها تقوم بجمع الأموال من الشعب والجماعات العرقية لتعزيز النزاع، بدلاً من محاولة تسهيل السلام والديمقراطية في إثيوبيا، هذا إلى جانب التمويل الأجنبي الذي يعمل على تأجيج النزاع العرقي.
وشدَّد على اتخاذ الحكومة لإجراءات فورية في حال تهديد وسائل الإعلام للسلام، سواء تلك التي تبثّ باللغة الأمهرية، أو توجّه للأورومية، وأكَّد أنه يرحِّب فقط بمن يدعم سياسة الدولة الديمقراطية”، وهو ما اعتبره الكثيرون بأنها رسالة موجَّهة إلى جوهر خاصةً في ضوء حديثه عن المستفيدين من وسائل الإعلام لفرض سيطرتهم.
وجاءت عودة “جوهر” إلى إثيوبيا بعد إعلان قانون العفو العام، وإطلاق سراح المعتقلين، وإسقاط اتهامات “الإرهاب” ضد عددٍ من التنظيمات السياسية والشخصيات المعارضة في الداخل الإثيوبي وفي المنفى، ضمن الإجراءات الإصلاحية التي تبنَّاها آبي أحمد بعد وصوله إلى السلطة خلفًا لرئيس الوزراء المستقيل، هالي مريام ديسالين، الذي أجبرته احتجاجات استمرت بين عامي (2016- 2018م) على الرحيل؛ حيث كان “جوهر” محرّكها السياسي والإعلامي من منفاه في الولايات المتحدة، ليعود في أغسطس (آب) 2018م، ويعلن أنه “اختار العودة إلى الوطن لتحويل فكر الشباب من مرحلة المعارضة إلى مرحلة اجتثاث الاستبداد، وتحويل فكرهم وسلوكهم نحو بناء نظام ديمقراطي مستدام”، وعليه جرى افتتاح مكاتب شبكة “أورومو” الإعلامية في إثيوبيا.
فى ضوء ما سبق يمكن القول: إن ما يحدث في إثيوبيا هو نتاج طبيعي لصراعٍ بين رؤيتين متعارضتيْن بين رئيس الوزراء والناشط السياسي المعارض ذي التأثير الواسع والقدرة الكبيرة على الحشد، وهو ما يُمثل تهديدًا كبيرًا لآبي أحمد وفرصه في الانتخابات المقبلة، خصوصًا في ضوء تلميحات جوهر بأن الترشح ضد آبي في الانتخابات المقبلة أمر وارد ومحتمل، هذا من جانبٍ.
بالإضافة إلى مخاوف كبيرة مِن قِبَل الإثنيات الإثيوبية التي ترى في استراتيجية آبي أحمد -غير واضحة المعالم- تهديدًا كبيرًا، مع علو الأصوات التي تنتقد فكرة ارتهان مستقبل إثيوبيا بسياسات آبي أحمد –الداخلية والإقليمية- كفرد وحيد متحكّم في هذا المستقبل، مع تهميش تامّ –دون مبالغة- لكافَّة “مؤسسات الدولة الإثيوبية”، وحلولها تالية لقراراته وخياراته، ومنفّذة لها دون أدنى قدر من المراجعة والمحاسبية المؤسسية، في محاولات لتكرار النموذج الإثيوبي الأثير لما بعد ثورة 1974م؛ ميليس زيناوي، أو ما يراه آخرون بأنه قد يصل إلى إعادة إنتاج النظام الإمبراطوري؛ من جانب آخر.
ثانيًا: الاحتجاجات: الدلالات والرسائل
أثارت الاحتجاجات الحالية التي تشهدها إثيوبيا اهتمام العديد من الدوائر السياسية والأكاديمية؛ وذلك في ضوء كون إثيوبيا دولة محورية في منطقة القرن الإفريقي، وما توليه القوى الدولية لها من اهتمام، بالإضافة لما تحمله هذه الاحتجاجات من دلالات ترتبط بالمسار الإثيوبي، وعملية التحول الديمقراطي، وإدارة التعددية الإثنية.
جدير بالذكر أن هذه الاحتجاجات قد حملت العديد من الرسائل التي يجب الوقوف عندها:
1- وجود اعتقاد لدى بعض الجماعات والفئات الإثنية أن التوجُّه الإصلاحي وشعارات الديمقراطية التي يرفعها آبي أحمد، ويشير إليها دائمًا؛ ما هي إلا نوع من المواءمة السياسية، وقد عزَّز التوتر السياسي والإثني المتزايد، وفشل نظام آبي أحمد في الاستجابة الحقيقية لمطالب وآمال مَن دفعوا باتجاه التغيير -ما عدا الوعود والتعهدات غير المصحوبة بخطوات حقيقية يمكن البناء عليها-؛ التساؤلات حول حقيقة النهج الإصلاحي الذي أعلن آبي أحمد عن تبنّيه منذ وصوله إلى سُدَّة الحكم، وما إن كان هنالك أجندة إصلاح سياسي لدى الرجل تحمل رؤية حقيقية للتحول الديمقراطي في إثيوبيا.
وقد عزَّز هذا الاعتقاد ما جاء في حديث آبي أحمد أمام البرلمان؛ عندما ذكر أن هناك وسائل إعلام تعزّز حالة عدم الاستقرار في البلاد، وغيرها من الاتهامات التي حملها خطابه في إشارة واضحة لـ”جوهر”، هذا ناهيك عن القبضة الأمنية الشديدة التي تم التعامل من خلالها مع الاحتجاجات وسياسة الترهيب الواضحة تجاه المخالفين، مما أثار تخوفات وتساؤلات كبيرة بشأن نوايا آبي أحمد الإصلاحية.
2- بالرغم من أن سياسات آبي أحمد حظيت بدعمٍ شعبيّ كبير بلغ حدَّ الاقتناع بكاريزما الرجل، أو ما عُرِفَ في الإعلام الغربي بالوَلَع بآبي أحمد؛ إلا أنها في المقابل كوَّنت العديد من الجبهات الساخطة على الرجل والغاضبة على سياساته.
3- إن هناك فشلاً كبيرًا على الصعيد الأمني في أنحاء عدة من إثيوبيا، مع تزايد معدلات العنف، خصوصًا تلك المبنية على أُسُس عرقية.
4- تراجع درجة الانبهار بآبي أحمد، والتي بلغت حدَّ التقديس، وبدء إثارة تساؤلات عن مدى صحة مسار إثيوبيا في عهده.
5- تأتي هذه الاضطرابات مع اقتراب موعد انتخابات 2020م، وهو الأمر الذي يؤدي في حال استمراره وعدم احتوائه إلى حالة طويلة من عدم الاستقرار، والإضرار بالمسار السياسي الإثيوبي، كما سوف يدفع بأزمة ثقة تجاه الحكومة من مختلف القوى.
6- وجود مخاوف كبيرة لدى آبي أحمد من النفوذ والحضور الواسع لـ”جوهر”، وذلك في ضوء كونه سياسيًّا محنكًا، وخطابيًّا مؤثرًا لدى جموع الناس، ويتمتع بصلات قوية مع قادة الأحزاب السياسية، وبالأخص الكيانات السياسية الأورومية الكبيرة، وهو ما يعني أن ترشُّحه أمام آبي أحمد ربما يقلب اللعبة السياسية، ويقلّل من فرص رئيس الوزراء الحالي.
ثالثًا: سيناريوهات متوقعة
لقد اصطدم المخطَّط الطموح لآبي أحمد بالعديد من التحديات الداخلية، والتي يقع على رأسها موقف القوميات المختلفة من مشروعه، فضلاً عن انفجار طموح هذه القوميات، ووسط حالة التفاؤل المستقبلي التي يتحدث عنها آبي أحمد بشكل مستمر، وبالنظر إلى كَمّ الاضطرابات التي حدثت في إثيوبيا منذ وصول الرجل إلى الحكم؛ بدءًا من محاولة اغتياله في مقرّ مجلس الوزراء، ثم محاولة التمرد في إقليم الصومال، وبعدها المحاولة الانقلابية الفاشلة، وصولاً إلى الاحتجاجات الأخيرة؛ يمكن القول: إن إثيوبيا تمر بمنعطف حرج، وهو ما يجعلنا أمام سيناريوهين بالنسبة لمستقبل العملية السياسية في إثيوبيا:
1- استمرار آبي أحمد في رفع الشعارات الإصلاحية، واستمراره في خططه الاقتصادية الرامية إلى تحسين الأوضاع، مع التركيز على الشّقّ الأمني، ومحاولة السيطرة على العنف المتزايد، في نفس الوقت الذي سيسعى فيه إلى تحجيم واحتواء المعارضة بما في ذلك الاحتجاجات الحالية، وتشديد قبضته على السلطة، بما يعزّز فُرَصه في انتخابات 2020م، وهي الفرضيَّة التي إذا ما حدثت فإننا في الغالب سوف نكون أمام حاكم مطلق ذي سلطة كاملة، ولن يكون ذلك بمثابة مفاجأة في ضوء أنه مارَس بالفعل صلاحيات رئيس الدولة بشكل موسَّع للغاية، لكنْ سيكون على آبي أحمد -إن أراد لأجندته النجاح- أن يحصل على دعم عابر للإثنيات وسط أُمَّة مُكَوَّنَة من 105 ملايين نسمة بها حوالى 80 قومية.
2- يتمثل السيناريو الثاني في فشل مقاربة آبي أحمد ومشروعه في تجاوز الاضطرابات والانقسامات الداخلية عبر الحلول السطحية، وربما فقدانه لموقعه في السلطة لصالح شخصية جديدة بضغط من الجماعات التي ترى أن إصلاحات آبي أحمد لم تُلَبِّ طموحاتها، أو تعادل التضحيات التي قدَّمتها بنزع فتيل حراكها الثوري، ويعزّز هذا السيناريو نُمُوّ رأيٍ عامّ وسط قطاعات لا يُستَهان بها من الإثيوبيين بأنَّ إصلاحات آبي أحمد انتقائيةٌ وبالغةُ السطحية، بل وإنها إعادة إنتاج لأدوات نظام الجبهة.