د.كوناتي موسى عمر (*)
أنجبت القارة الإفريقية عبر تاريخها أفارقة وطنين نبغوا في ميادين علمية وفكرية مختلفة، وكان في استطاعتهم لو أتيحت لهم فرصة المضي قدما في مشاريعهم العلمية والفكرية أن يعطوا إفريقيا وجها مشرقا، غير أن عوامل خارجية ممثلة في الاحتلال الوافد الذي كان من أهدافه المضمرة طمس الهوية الإفريقية من الوجود ومن ثم ترسيخ تهم الأوصاف الموبوءة بها وبشعبها، استطاعت أن ترسخ تلك الأباطيل في بطون كتب تاريخية ما تزال الشعوب والأمم تتناقلها دون تمحيص وتعيد الأقلام غير الموضوعية تلك الأفكار الخرافية التي سلبت إفريقيا والأفارقة من كل القيم الحضارية وجعلتهما ضحايا التصور الخاصئ.
إن اضمحلال الهوية اللغوية لإفريقيا كان من أخطر ما تعرضت له القارة إبان فترات الاحتلال ، لأن المحتل فرض لغته علينا، وإن هذا مما حكم على اللهجات الإفريقية بالضياع، حيث لم يوجد من يصرف اهتمامه إلى إحيائها بالكتابة وإخراجها في صورة اللغة الحية، ولذا، كان من الطبيعي جدا أن تتأخر القارة في كتابة لهجاتها، بالإضافة إلى الملاحقات السرية التي استهدفت أشخاصا أهابت جرأتهم الفكرية المحتلين، ولقد قزم كل ذلك إلى حد ما النبوغ الإفريقي في المجالات الفكرية والعلمية. وليس من المستغرب أن نرى الكثير من اللهجات الإفريقية لم تستطع أن ترتقي إلى مصاف اللغات المكتوبة المسماة في الوقت المعاصر باللغات الحية، فأنى لها أن تحظى بشرف ذلك وقد كانت ضحية التقزيم المتعمد.!!
بيد أن إرادة الشعب لا تموت، وليس بقدور أحد أن يبقي عليه أو يحول دون يقظته، وهذا ما وقع فعلا، لأنه في غمرة تلك الأوضاع التعسفية التي عانت مرارتها إفريقيا والأفارقة معا، برز رجل موهوب من سفانا غينيا العليا، كان أحد الرؤوس الفكرية التي نجت من تلك الملاحقات ومن ذلك التقزيم، فاستطاع بفضل ما وهبه الله من العلم، أن يخترع الحروف الهجائية للغة “أنكو”، وهي اللغة التي تتكلم بها مجموعة من القبائل في غرب إفريقيا. ولقد عانى في سبيل مشروعه الفكري العناء الشديد من أشخاص شتى، وكل واحد منهم كان يحاول أن يطمر المشروع الكانطي لهدف أو لأخر، لكنه تمكن بتوفيق من الله بتحقيقه، لذلك من الأهمية بمكان أن أدرس حياة كرامو كانطي سليمان ، وأن نسلط الضوء على مسيرته الفكرية بيانا لقيمتها وتوضيحا لها.
حياته ونشأته:
ولد المفكر النفاجي في حدود عام 1922م بكولوني في سومانكوي بضاحية عاصمة بلاد السفانا “كانكان”، وتعد هذه البلدة إحدى بلدات منطقة باطي ماندن(Bate Mandén) وكان والده يدعى أمارى كانطي، وأما والدته فتسمى جاكا كيتا، لقد كان والده أحد الأشخاص الذين شملهم التعليم الإجباري الذي نظمه الإمام ساموري توري لشباب سومانكوي وواسلون (Wasolon). وقد فعل الإمام ذلك كسبا لثقة سكان المنطقة وجلبهم إلى صفه، ويندرج هذا ضمن مشروع محو الأمية الذي رسمه الإمام، ويمكن أن يسجل ذلك في سجل اهتماماته الدينية والتربوية. بدأ كانطي مسيرته العلمية على المدعو نايانلن سدكي شريف في شريفولا بسومانكوي. وظل في القرية إلى جوار والديه كما هو شأن كل أطفال القرى الإفريقية حتى بلغ السن السابعة، وهي السن التي اعتاد الأفارقة المسلمون على تمدرس الأطفال فيها، فالتحق بكتاب والده عام 1928م وظل به سنوات وهو يخدم الكتاب والوالد، ممارسا في الآن ذاته الفلاحة والتعليم ظالا على ذلك فترة من الزمن.
بقي يخدم الوالد حافظا عليه بعض قصار السور مسيرا معه الكتاب إلى حدود عام: 1941م، وخلاله، أصيب بصدمة وفاة والده، وقد سببت له هذه الوفاة المفاجئة صدمة نفسية قوية شعر جراءها بالإحباط، إذ قضى أياما وهو يعاني في الصمت المطبق لوعة هذه الوفاة، فإن كان هذا الرحيل قد خلق لكانطي ما خلق، فإنه أيضا قد شكل حدثا بارزا انعكس سلبا على القرية والتلاميذ والكتاب على حد السواء، حيث فقدوا جميعا رجلا أعطى لبلدتهم وجها جديدا بانيا صرحا قرآنيا عظيما في منطقة باطي.
ظل إلى جوار إخوته الأب وهو يرأس التلاميذ، ليجد نفسه أمام مسئولية جسيمة لم تكن له القدرة الكافية على تحملها، ولما لم يكن هناك التأطير الجيد للكتاب، تفرق كبار التلاميذ في أرجاء القرية. إضافة إلى قلة المردودية التي كان من شأنها ضمان معيشة التلاميذ الوافدين، ومعلوم أن تلامذة الكتاتيب بإفريقيا كثيرا ما يقطنون في دار الفقيه الذي يضمن لهم المعيشة والمبيت، وهكذا كانت أحوال الكتاتيب بإفريقيا في قديم الزمان، وأمام هذه المشاكل المتراكمة التي لم يقدر كانطي وإخوته على حلها، كان مصير هذه المعلمة القرآنية التي أرسى الوالد دعائمها في المنطقة السقوط عام:1943م، ولقد كان كتّابا مثل دورا عظيما في الإشعاع القرآني، ولكنه اضمحل نتيجة العوامل سالفة الذكر، وكان هذا من أسباب انفصاله عن الدراسة بصفة مؤقتة في حدود عام 1943م إذ رحل إلى ساحل العاج حيث اشتغل بالتجارة. بيد أن المعطيات التاريخية التي اطلعت عليها لم تذكر لنا ملابسات هذا الانفصال لكانطي، غير أن الفضول العلمي دفعني إلى هذا التساؤل الملح الذي مكمنه: هل أن انفصاله عن مواصلة الدراسة كان مرتبطا بمشاكل عائلية ممثلة في النزاع الذي كثيرا ما يندلع بين الإخوة الأب حول التركة كما هو الحال بإفريقيا، أم أنها كانت مادية كما سبق أن أشرت.؟ وعلى أية حال تبقى أسباب هذا الانفصال بالنسبة إلي غامضة.
رحلته
رحل عن البلدة متوجها صوب البلاد العاجية(ساحل العاج) سالكا طريق كوروسا، ولسوء الحظ، طلب منه مضيفه هناك العودة الفورية إلى بلدته من جديد محذرا إياه من التجنيد الإجباري الذي تقوم به السلطات الفرنسية في المنطقة استعدادا للحرب العالمية الثانية التي ستخوض غمارها مع الحلفاء في محاولة منهم للإطاحة بالنازية التي أربكت العالم. لم يكن له مندوحة أخرى غير قبول عرض المضيف ومن ثم الرجوع من حيث أتى.
بيد أنه ما لبث أن أعاد الكرة ثانية، حيث خرج عام:1944م قاصد البلاد العاجية متحديا المخاطر المتمثلة في التجنيد الإجباري تارة وفي الحرب الشرسة الوشيكة بين الحلفاء وخصمهم اللدود أدولف هتلر تارة أخرى، ولانعدام المواصلات ووعورة الطرق، اقتضى الأمر أن يسلك الطريق البرية ماشيا على الأقدام مارا بكوروكو أحد كبريات المدن الواقعة في الجنوب العاجي غير مكترث بالرقابة الصارمة التي تفرضها القيادة الاستعمارية على الطرق، علما أنه لو سقط في شباك الأسر لكان مصيره حتما إلى السجن. ولكن روح اكتشاف العالم العاجي مدته بطاقة نفسية لا تنكسر، فتابع سيره مارا بعدد من المدن والقرى، وبلغ العاصمة العاجية “بنزرفيل” حيث كان يمارس تجارة الكولا بينها وبين كوماسي، وفي الوقت ذاته كان يختلف إلى بعض الشيوخ قصد التعلم عليهم.
الانطلاق
من المعلوم أن المناطق الإفريقية عجت منذ فجر الاستقلال بالجاليات الأجنبية من كل الأجناس، وما تزال الوتيرة مستمرة حتى الوقت الراهن، هذا، وتعتبر الجالية اللبنانية الأكثر حضورا بإفريقيا، ولقد تسربوا عبر المناطق الإفريقية مبكرا جدا، ونجد من أسباب هذا التسرب مشكلة الحرب الأهلية التي أهلكت الأخضر واليابس في لبنان في فترة من الفترات، وأدت إلى نزوح الجموع الغفيرة عبر العالم، على أن العالم الإفريقي كان الأكثر تأثرا بهذا النزوح اللبناني، واليوم تشكل الجالية اللبنانية قوة اقتصادية مهمة بإفريقيا، بل وإن عددا منهم قد تجنسوا في البلاد التي يقطنونها.
كان كانطي عام: 1944م يتجول في أحد أسواق مدينة بواكي، واجتذبه عنوان مقال في أحد محلات بيع المجلات، فذهب وأخذ من ضمنها مجلة، وإذ هو يتصفحها، فإذا به يرى أن المقال لكاتب لبناني يدعى “كمال موري”، كان مقيما بساحل العاج، ويبدو أن إدارة المجلة اللبنانية هي التي طلبت من هذا الكاتب أن يسلط الضوء على حياة الجالية اللبنانية المقيمة في المستعمرات الفرنسية والإنجليزية بإفريقيا، وفي إطار ذلك، تحدث الكاتب عن جغرافية وديمغرافية البلاد المعنية بالدراسة، وتطرق أثناءها إلى العادات والتقاليد وكذا المظاهر الاجتماعية والعقدية والثقافية لشعوب تلك المناطق الإفريقية التي يقطنها سواد أعظم من جاليتهم، وخلص في ختام مقاله إلى نتائج منها أن لساحل العاج وحده لهجات محلية متعددة تصل –حسب الكاتب- إلى 77 لهجة، غير أنها على الرغم من هذه الكثرة فليس منها ما يكتب، وأنى لها أن تحظى بالكتابة وأصحابها لا يكلفون أنفسهم عناء إيجاد الوسائل الممكنة لكتابتها، ممثلة في وضع الأبجدية الخاصة بها، والسبب في نظر الكاتب راجع إلى كون هذه اللهجات لا تتوفر على قواعد نحوية منظمة وإنما على مجرد الأصوات التي لا تتوافر فيها ضوابط الكتابة. وأن هذا مما يدفع الأفارقة إلى ترجمة لهجاتهم إلى اللغة الإنجليزية وبحروف لاتينية طبعا، مشيرا في السياق ذاته إلى أن قبيلة فينكا في ليبيريا تمتلك أبجدية ولكنها ناقصة ومزدوجة، دون نسيان ما يتخللها من كثرة راءات (جمع الراء) وتتكون من 150 حرفا، مضيفا أيضا إلى أن هذه الأبجدية الفينكية بالرغم من كونها غير تامة، إلا أنها أفضل بكثير من لهجة لا تتوفر على شيء كما هو الحال بالنسبة لمعظم اللهجات. انتهى. كلام في الحقيقة واقعي لا مهرب منه، وما أن قرأه كانطي حتى اعترف بصدق قول الرجل.
رحلة البحث عن المجهول:
شعر كانطي بعد إتمامه قراءة ذلك المقال بتأنيب الضمير، والمقال بالرغم مما يتضمنه من الحقيقة المرة، فإنه قد حفزه وحرك ضميره باعثا فيه عزيمة البحث وروح التنقيب، فعكف سنوات على البحث الحثيث عن المجهول المتمثل في الحروف الهجائية للهجته الأم التي هي لهجة أنكو.
وفي عام: 1944م، جرب كتابة اللهجة الماندنكية في الحروف العربية، بيد أن هذه الطريقة لم تنجح، فعدل عنها عام: 1945م إلى اللغة الفرنسية، ولكنها أيضا لم تستجب لأدبيات هذه اللهجة، فتيقن أن كتابتها في اللغات الأجنبية غير ممكنة الوقوع، ولقد كادت هذه المحاولة الأولى غير الناجحة تسبب له الإحباط، حيث انصرف عن متابعة مسيرة البحث ورجع إلى مزاولة مهنة التجارة ريثما تتاح له الفرصة الملائمة لمواصلة مشروعه الفكري الصعب. وما لبث غير هنيهة حتى استأنف رحلة البحث من جديد، مما يدل على أن عزيمة المفكرين لا تخمل ولا تموت، لهذا، لم يستسلم للهزيمة التي لحقت به في التجربة الأولى، وإنما واصل حفر المسار بأساليب أخرى آملا دائما التوصل إلى النتيجة المتوخاة، وما كان له هذه المرة إلا أن يضاعف الجهود ويستمر في التنقيب، مؤمنا أشد ما يكون الإيمان بأنه سيضع يده يوما ما على ما يبحث، وكما يقال: كلما بحث المرء وجد جديدا وهذا غاية ما يسعى إليه كانطي.
وأقف هنا وقفة التأمل لأبين أن استمراره وجدَه في البحث ومثابرته على ما يصادفه خلاله من الصعاب والمشاق، راجع بعد الله تعالى إلى صديق شجعه على المضي قدما في تحقيقه، وطمأنه بالوقوف إلى جانبه ماديا إن هو احتاج إلى شيء من هذا القبيل، غير أن كل ما يهمه هو أن يستأنف المشروع. وما كان له إلا العمل بنصيحة صديقه والانطلاق من جديد،. وفي الوقت الذي عقد كانطي العزم على خوض غمار التجربة من جديد، تزامن ذلك مع مجيء أخيه الأكبر المدعو “جاكا موري” من القرية إلى أبيدجان طالبا منه الرجوع إلى القرية للزواج، ومعلوم في العادة الماندنكية أن الشاب إذا رحل إلى الخارج ومكث هناك حتى بلغ سن الزواج، فإن الأسرة ترسل إليه وابلا من الرسائل طالبة منه العودة إلى مسقط الرأس للزواج، وإن لم يستجب فقد توفد إليه شخصا من أفرادها لإحضاره عنوة وهذا ما فعله أخو كانطي به. ولم يكن له خيار المخالفة عن هذا الطلب الأسري الملح، لأن رفضه يعني حتما تحديا للوالدين إن كان حيين يرزقان أو عصيانا سافرا لمن يمثلهما من الأعمام والأخوال وغيرهم من أسياد القبيلة. لهذا، رجع صحبة أخيه إلى القرية أواخر عام:1948م، وتزوج عام:1949م ثم عاد إلى أبيدجان في نفس العام وواصل عمله بلا ملل ولا كلل حتى وفقه الله تعالى هذه المرة التي وضع فيها الأبجدية للهجة الماندن إحدى اللهجات الإفريقية الأكثر شيوعا في غرب إفريقيا، وكان ذلك في الرابع عشر من شهر أبريل من عام:1949م، وبذلك تحقق لكانطي ما ظل يحلم به أعواما حيث تنفس سعيد جدا.
الحكمة الكانطية:
كان من حكمة كانطي أنه لما أتم العمل، وجد نفسه أمام أمر محير تمثل في وضع الاسم المناسب والجامع لكل القبائل التي تتكلم لغة الماندن على اختلاف فصائلها ومناطقها وبلدانها. فاهتدى بعد الدراسة والتفكر العميق إلى أن يسميه بـ أنكو، ولكن، لماذا لم يسمه مثلا بلغة الماننكا؟ سؤال وجدته جديرا بالمناقشة والتحليل. أقول إن التاريخ الماندنكي تاريخ ممتد الجذور متشعب الأحداث، والأمة الماندنكية أمة عريقة، ولست مبالغا إن قلت إن الماندنغ كما يقال قد صنعوا لإفريقيا تاريخا حفل بالعزة والمجد في المسارين الإسلامي والسياسي، بل وسطروا في مضمار الكفاح المسلح بالقارة المواقف البطولية، ويكفي أن يقرأ المرء تاريخ إمبراطوريتي مالي وبيساندو اللتين ما تزالان بالرغم من مرور الأزمان الطوال مذكورتين في متاحف التاريخ. هذا، فإن القبائل الماندنكية متعددة، وأسماؤها ولغاتها بناء على ذلك متباينة، فمنذ أن سقطت إمبراطوريتهم التي كانت مهيمنة على غرب إفريقيا في فترة من فترات التاريخ، فإنهم قد تشتتوا في الأمصار، فمنهم من ظلوا في مالي البلد الأم، بينما السواد الأعظم منهم نزحوا إلى كل من غينيا، وليبيريا، وسيراليون، وساحل العاج، وبوركينا، فاصو، والسنغال، وغامبيا، ويوجد منهم نزر بغينيا بيساو ومناطق أخرى بغرب القارة، ومع ذلك، ظل أصل اللغة الماندنكية القاسم المشترك بينهم، وللعلم، فإن الغالبية منهم مسلمون، بل ولم يكتفوا بمجرد اعتناق الإسلام وإنما عملوا خلال الهجرات التي قاموا بها داخل المناطق التي رحلوا إليها في إطار التجارة على أسلمة القبائل غير المسلمة، ولهم في هذا المضمار جهود دعوية مقدرة.
غير أن هناك أمرا حريا بالملاحظة، ويكمن في التغيير الذي حصل في أسامي هذه القبائل، فأسماء القاطنين منها بغينيا مثلا ليست هي أسماء القاطنين بساحل العاج وهكذا، وحتى تكون هذه القبائل كلها معنية بالقضية، ارتأى مفكرنا كانطي أن يضع اسما جامعا لهذه القبائل فأسماه بـ (أنكو)، لأنه لو سماه بـ اللغة الماننكية لكان فيه التخصيص، ولخرج بذلك من ليس بماننكي، فهذا يُبين لنا عن الحكمة الكانطية فعلا.
فالقاطنون منهم بجمهورية مالي البلد الأم يسمون بــــــ: البمبارا والماننكا، وفي ليبيريا وغامبيا وسيراليون يسمون بــــــ: الماندنكو، وفي السنغال بــــــ: الماندنكو أو السوننكي، بينما في ساحل العاج فلهم مسميات مختلفة منها: الجولا، الموكا، وجنيكا، بيكا، كورو، كويا، بونجاليكا. وأما في غينيا فإن أساميهم تتعدد بتعدد مناطقهم فمن هذه الأسامي: طارونكا، الكورونكو، ليليه، وُلادلاكا، الكونياكا، سنكوفلا، كيروانكا، سماندوكا، كوروكا، طاما مانيان، بيكا.
فهذه هي القبائل التي يتشكل منها الماندن وتنقسم إلى فروع كثيرة، ويطلق عليها جميعا: الماندنكا أي أهل الماندن، والماندن اسم لمنطقة شاسعة تشمل المناطق التي كانت خاضعة لسيادة إمبراطورية مالي الإسلامية، ولهذه القبائل بالرغم من اختلاف أساميها ومواطنها عبر القارة، القواسم المشتركة في اللغة والعادة والتقاليد، مع العلم أنهم يتواصلون فيما بينهم بكل السهولة، وإنما يقع الاختلاف أحيانا في أسماء بعض الأشياء والكلمات. ومن أبرز ما يشتركون في استعماله أثناء الكلام هو لفظ: أنكو، ومعناه في العربية (أقول) ما جعل كانطي فضَل أن يسمي لغتهم بـ أنكو، وفي نظري لو أنه سماها بلغة الماندن لكانت التسمية صحيحة وجامعة أيضا، ولما جاء المستعمر فدأب على تسميتهم بـ الماندنغ حتى ترسخ عليهم ذلك في الكتب التاريخية.
حروف الهجائية التي اخترعها:
ومن المفيد هنا القول بأن هذه الحروف التي وضعها مفكرنا، لا تنبي على أية جهود سابقة، وإنما هي نتاج الابتكار الذي وهبه تعالى، وهذا ما عنّ لي إذ كنت أتصفح المصادر والمراجع التي عالجت حياة الرجل، فهو الواضع الأول الذي لم يسبق إلى هذا العمل المتضمن ستة وعشرون حرفا، وتضم الحركات والأصوات والمدود.
مرحلة ما بعد الاختراع
لم تتوقف الجهود الكانطية عند حد مجرد الاختراع والاستنامة على أمجاد ذلك، ولكنها تواصلت، ولكي يعرف الناس بقيمة ما توصل إليه من تلك النتيجة العلمية، كان لزاما عليه أن يقوم بالتوعية في محيطه توضيحا لهذه القيمة وبيانا لأهمية العمل حتى ينمو الوعي الشعبي بضرورة الاهتمام بهذه الخدمة الفكرية المقدرة التي تصلح لكتابة كل اللغات، المحلية منها والعالمية. وأول ما شرع فيه هو كتابة كتيبات كثيرة وتوزيعها على الناس مجانا في محاولة منه لتشجيعهم على تعلم لغة “أنكو”. ولقد نشر عددا هائلا من تلك الكتيبات التي حظيت بالقبول السريع لدى الناس لاسيما في ساحل العاج، وظل على تلك الحال حتى العام الذي نالت فيه بلاده استقلالها التام غير المشروط من فرنسا في 2\ اكتوبر\ 1958م.
وفي العام الذي تلاه أي 1959م، رجع إلى وطنه واستقر بعاصمة بلاد السفانا كانكان، وقضى بها خمس سنوات وهو يعلم الناس ويمارس إلى جانب ذلك التجارة التي ألفها في ساحل العاج، وداوم على ذلك إلى الوقت الذي صدر فيه القانون الإطاري الذي حظرت فيه السلطة الثورية الحاكمة آنذاك كل الممارسات التجارية بغينيا، مما سبب للتجار البسطاء مثل كانطي خسارة كبيرة في رءوس الأموال، فاضطر للعودة ثانية إلى العاصمة كوناكري، وهناك، كثف جهوده منتهزا الفرصة كلما سنحت له ويعرض مشروعه الطموح على السلطات لعله يجد لديها الاعتراف به أو على الأقل دعما ماديا يمكنه من تطويره، وظل يختلف إليها بلا جدوى، لقد قضى بكوناكرى هذه المرة قرابة ثلاثة عشر عاما وهو ضيف على أحد أفراد جالية قرية بَرَنَمَا (Branama) المقيم هناك، ويدعى: برنما سيكوبا (Branama Sekouba). ولما باءت هذه المساعي بالفشل، غادر كوناكري متوجها إلى كانكان ثانية وذلك في صيف عام:1977م، وقضى بها هذا العام كله عاكفا على تطوير عمله.
العرض على الرئيس سيكو توري:
ظل على تلك الحال في “كانكان” باحثا ومنقبا إلى أن بلغ صيته الحسن مسامع الرئيس أحمد سيكو توري-رحمه الله- الذي حسب بعض المعطيات طلب من المدعو محمود كانطي أحد المهتمين بدراسة أنكو أن يستدعي إليه كانطي سليمان وقد أخذته اللهفة الشديدة لمعرفة ما اخترعه والمتعلق بذلك الإنتاج الباهر، فاستجاب هذا الوسيط وأبلغ شيخه بطلب الرئيس، وما لبث أن جاء إلى كوناكري، وحين التقى به، قص عليه قصة الاختراع من البداية إلى النهاية، فسر فخامته بالمشروع إذ اعتبره عملا جديرا بالاهتمام. غير أن طموحه لم يتحقق في هذا اللقاء التاريخي الذي جمعه بالرئيس، لقد كان يأمل أن يتم اعتماد لغة أنكو إلى جانب اللغة الفرنسية ولكن فخامته اكتفى بتشجيعه معنويا على المضي قدما في مشروعه ناصحا إياه بعدم مغادرة الوطن بهذا المشروع الطموح إلى بلد آخر حتى لا يصير ضحية المآمرة، متنبئا بأن المشروع سيحظى على المدى البعيد بالقبول والاهتمام، مشبها إياه بالثمرة الناضجة التي تشرئب إليها الأعناق، مقدما لكانطي بتلك المناسبة ستين ألف السيفا(60) ليوفر به ما يحتاجه من أدوات الكتابة، مخبرا إياه بأنه رهن إشارته. لقد رفع هذا التشجيع من معنويات المفكر كانطي وجعله يضاعف الجهود، خرج من اللقاء وهو مفعم بالأمل. وظل بالعاصمة كوناكري وهو ينقب ويبحث، ويؤلف ويترجم.
ولكنّ هناك سؤالا مهما يفرض نفسه علي بإلحاح شديد إذ كنت أقرأ هذا النص المتعلق بموقف الرئيس، في الحقيقة أعتبره حسب تحليلي الخاص موقفا متناقضا، وبرهاني على ذلك أنه ظل طوال فترة حياته يردد في المحافل المحلية والدولية أن الأفارقة يجب عليهم الاعتزاز بكل ما هو إفريقي، وكان ينافح عن هذا التوجه باجتهادات شخصية، فلماذا إذن لم يتبن أنكو إلى جانب اللغة الفرنسية لغة وطنية مع أنه مشروع يمثل تلك الفلسفة الإفريقية التي يدعو إليها. ؟ فبدلا من تقديم ستين ألف السيفا لكانطي، كان من الأجدر به أن يعتمده على غرار ما فعلته بعض البلاد التي تبنت إحدى لهجاتها الوطنية إلى جانب اللغة الإدارية، ولا تنقصنا النماذج الحية لتلك الدول. وكان يتوفر على كل الآليات لتحقيق ذلك، ولقد تحمل يوم 2\ أكتوبر عام1958م مسئولية سياسية جريئة حينما وقف في وجه الجنرال شارل ديغول رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك قائلا له مقولة تاريخية أصبحت مثلا يرويه الغينيون: ((نحن نفضل العيش في الفقر على الغنى في العبودية))، فلماذا إذن لم يتحمل المسئولية ذاتها عند ما عرض عليه كانطي ما عرض.؟
فهل تخوف من أن يقال إنه قد آثر لهجته الأم على بقية اللهجات؟ وإذا سلمنا بهذه الفرضية جدلا، فأقول بأنه لو كان هناك أحد الغينيين من القبائل الأخرى استطاع أن يتوصل إلى ما توصل إليه كانطي لرحبنا بمشروعه بل ولدافعنا عن اعتماده كما ندافع الآن عن كانطي، فكل اللهجات الغينية متساوية في نظري ما دامت جمعيها تمثل الهوية الغينية التي هي القاسم المشترك بيننا، وللأسف الشديد فإن مشكلة الإقليمية قد جعلت العديد من غير الماندن لم يولوا الاهتمام اللائق لعمل كانطي، مع أن المسألة في عمقها حضارية وثقافية أكثر من أي شيء آخر، فلو نظروا إليها من هذا الجانب لأنصفوا الرجل. إذن فلو أن سيكو تبنى المشروع ما كان العقلاء سيعتبرون ذلك انتصارا للجنس والإقليم واللهجة، وإنما للحضارة الغينية. فهذه هي المسئولية التي وددت أن يتحملها في وقتها.
غير أن ما يجب أن يعلم في هذه القضية هو أن مسألة اعتماد لهجة أنكو إلى جانب اللغة الفرنسية بغينيا باتت وقتية فقط، لأنه قد أوجد لنفسه اليوم سواء داخل الجمهورية خصوصا وغرب إفريقيا بشكل عام موضع القدم، ولقد بات من أداة التواصل بين السواد الأعظم في المنطقة، وإذا كان مخترعه قد تحدى ذلك اللبناني مبرهنا له ولأمثاله ممن يشاطرونه الرأي، قدرة الإفريقي على الاختراع بتفنيد مزاعمه بذلك البرهان العقلي الناصع، فإن أنكو قد بدأ هو الآخر يتحدى الإقليميين الذين يحاولون أن يقللوا من شأنه، إذ صار يحظى بالاهتمام الكبير في العالم، وهذا ما تؤكده كل المؤشرات والدلائل في الوقت الراهن.
كتابة حياة كانطي ضرورة حضارية ومعرفية:
إن التاريخ الغيني حافل بأسماء شخصيات متعددة لمعت في مجالات مختلفة، ونجد منها نزرا يسيرا في كل منطقة من المناطق الطبيعية الأربعة، وإذا كانت غينيا قد عرفت عبر تاريخها ظهور وجوه مشرقة في الأدب والسياسة والنضال، والتصوف هلم جر، فإن مما لا شك فيه هو أن كرامو كانطي من أبرز من تفتقت عنه الأرض الغينية في المجال الفكري، وهذا الإنجاز التاريخي المقدر الذي قام به خير برهان ناصع على نبوغه فكريا. لهذا، فإن كتابة حياة شخصية في حجمه باتت في الوقت المعاصر من المطالب الحضارية، ونلمس عمق هذا الكلام في الإنتاجات العلمية التي خلفها، والتي تشكل مكونا حضاريا وثقافيا للشعب الغيني.
وأشير إلى أن لكل أمة حضارة وثقافة خاصة بها، وتختلف باختلاف الشعوب. فالحضارة الغربية ليست هي الحضارة العربية أو الهندية، أما إفريقيا فقد ذهب أشخاص غير موضوعيين إلى أن الأفارقة لم تكن لهم لا حضارة ولا ثقافة، فأتوا هم وحضروهم ثم ثقفوهم، كلام في منتهى الخرافية، لأنه كيف يكون من المنطق أن تكون هناك شعوب بلا حضارة.؟ وكنا سنتفق معهم لو أنهم قالوا مثلا إن الحضارة الإفريقية لم تتبلور إلا متأخرا، أما أن ننفيها عن أمة بأسرها ففي ذلك الحيدة عن الحقيقة، فحضارتنا في الحقيقة لم تكن إلا ضحية ظاهرة الاستعمار التي تعرضت لها إفريقيا في زمن من الأزمان، فجاء هذا المفكر وأثبت العكس جاعلا عمله شيئا مذكورا، من خلال هذا الإنتاج الذي سيظل في الأرض بحول الله تعالى مما ينفع الناس والتاريخ والثقافة((وأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)) وإن هذا مما يجعل كتابة حياته ضرورة حضارية وثقافية ومعرفية في آن واحد، وبعد ما فرغ من تأصيل المشروع وترسيخه رحل إلى ربه يوم الاثنين الثالث والعشرين(23) من شهر نوفمبر عام:1987م على الساعة السابعة وخمسة وأربعين دقيقة صباحا بحي بونفين(Bonfin) في العاصمة كوناكري، مخلفا وراءه تركة فكرية مهمة ورثها عنه ليس آل بيته فحسب وإنما العالم عموما والأفارقة خصوصا، وجرت مراسيم جنازته بمسجد كولييا (Koléya) الكائن على الشارع الساحلي الشهير بـــ :النيزير -رحمة الله تعالى الواسعة عليه-
مؤلفاته:
ألف عددا من المؤلفات القيمة، وكذا قام بترجمة مئات الكتب المفيدة إلى “أنكو” في مجالات مختلفة، واليوم تقوم الأكاديمية العلمية التي أنشئت مؤخرا ولها تمثيليات في الأقاليم الغينية بمجهودات مقدرة تهدف إلى حل القضايا اللغوية التي تعتري “أنكو” وتعمل على إيجاد السهولة والمرونة في كثير من الجوانب. وهناك اليوم كتب إسلامية مفيدة ترجمت إليها.
العوامل التي ساعدت على نشر الأنكو:
إن تلك العوامل التي أسهمت بصورة أو بأخرى في نشر هذه اللغة في غينيا خصوصا وفي البلدان المجاورة عموما على نطاق أوسع، يمكن تقسيمها إلى العوامل الذاتية المتمثلة في الأفراد المتكلمين بهذه اللغة والذين يقومون بالجهود الفردية فيما يتعلق بنشرها. وأما الموضوعية فتتجسد في عدد من أسباب أوجزها في:
أولا: تنقلات التجار في غرب إفريقيا
ثانيا: المدارس الخاصة بأنكو عبر البلاد من تأسيس المهتمين بها.
ثالثا: المدارس التي قررت تدريس أنكو إلى جانب اللغة العربية ويمثلها هنا معهد سبيل النجاح في مدينة أنزريكوري بغينيا الغابية.
رابعا: برامج محو الأمية لفائدة متعلمي الأنكو والتي تنظمها الفعاليات الخاصة عبر جمهورية غينيا كوناكري.
خامسا: الجمعيات والهيئات العلمية والطلابية ومن أقدمها ” N’ko karan dee” أي: إتحاد أنكو للتعليم، و منها: ICRA-N’ko و ARAF في غينيا، و NCD N’ko في مالي، و KKT في كوت ديفوار، و AAC و KKN في نيجيريا، و هناك مدارس عديدة تابعة لهذه الجمعيات في مدن و قرى و وعواصم دول غرب إفريقيا.
سادسا: وجود فرع لهيئة تدريس “أنكو”، على أرض الكنانة بمصر والذي أنشئ منذ عام 1983م على أيدي نخبة من طلاب غرب إفريقيا الدارسين في جامعة الأزهر الشريف، وقد استطاعت هذه الاتحادات بتعاون بعضها مع بعض برمجة خطوط أنكو لمواكبة تطورات عصر كمبيوتر في التطبيقات و غيرها، ويوجد لها حاليا عدة مواقع على الشبكة المعلوماتية الدولية “الإنترنيت” منها: www.fakoli.net , www.kanjamadi.com , www.nkoinstitute.com ويمكن لمزيد من المعلومات المفصلة عن الأنكو الرجوع إلى المواقع المذكورة.
الهوامش
(*) باحث وداعية من غينيا كوناكري