اهتمت الميديا الغربية بشكل ملفت بمرور عام على وفاة مؤسس وقائد مجموعة فاغنر الروسية يفجيني بريجوزين في أغسطس 2023 وكان من أهم ملفات اهتمامها، إلى جانب ارتباط ذلك بالحرب الروسية- الأوكرانية، متغيرات الدور الروسي في إفريقيا خلال العام الفائت. وأجمعت أغلب التحليلات المعنية على أن موت بريجوزين لم يحد من توسع السياسة الروسية الأمنية والعسكرية في إفريقيا من باب تمدد أنشطة الشركات الأمنية والعسكرية الروسية الخاصة في حزمة من الدول في الساحل الإفريقي وشرق إفريقيا وجنوبها.
قدم المقال الأول، المنشور في اللوموند الفرنسية، رواية تقليدية عن المواجهة بين الغرب وروسيا في إفريقيا، خلص إلى مواصلة موسكو تدخلها الأمني والعسكري في القارة الإفريقية وما يعنيه ذلك من أن دور بريجوزين كان بالأساس خط واضح واداة مباشرة للسياسة الخارجية الروسية في إفريقيا. ويفيد المقال في الإحاطة بطبيعة الرؤية الفرنسية/ الغربية للدور الروسي في إفريقيا باعتبار الأخيرة ساحة خلفية لنفوذ القوى الأوروبية حصرًا.
أما المقال الثاني فقد عمد مباشرة إلى تأكيد سردية أن روسيا تتوجه إلى الاستفادة من التطور الاقتصادي الذي تشهده القارة الإفريقية، وأن استمرار هذا التوجه بعد وفاة بريجوزين يعزز فرضيات المقال الأول بشكل متطابق، وأن مجمل سياسات روسيا نحو إفريقيا تهدف لتعزيز مكاسب الأولى الجيوسياسية بغض النظر عن أدوات السياسة الروسية الاقتصادية والعسكرية وغيرها.
تناول المقال الثالث بالتحليل خلاصات تقرير مهم صدر مؤخرًا لتتبع أنشطة المرتزقة الروس في سبعة دول إفريقية عن الفترة أكتوبر 2023- يونيو 2024 وكشف التناول عن ارتفاع أعداد وعمليات عناصر قوات الأمن الخاصة الروسية في القارة الإفريقية وفي الدول المعنية بالرصد وهي ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد ومالي وموزمبيق والسودان وموريتانيا.
إفريقيا وجبهة المواجهة الجديدة بين الغرب وروسيا([1]):
نشر الكرملين بنجاح نفوذًا عسكريًا وإعلاميًا في إفريقيا على نحو فاجأ الغرب في السنوات الأخيرة. وبعد عام من موت يفجيني بريجوزين، مؤسسة مجموعة فاغنر شبه العسكرية التي قادت الاختراق الروسي في إفريقيا، لم يعد بوتين يخفي نواياه تجاه القارة السمراء. وكان ملفتًا تحية الكابتن إبراهيم تراوري للرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال زيارته لأخير في سان بطرسبرج بقوله “الرفيق الرئيس فلاديمير بوتين” قبل أن يبدأ في شن هجوم ضد الإمبريالية. إن الصورة الباقية لقمة روسيا إفريقيا المنعقدة في سان بطرسبرج في 28 يوليو 2023 تظل بلا منازع صورة الضابط الشاب من بوركينا فاسو، قائد الانقلاب الذي وقع في واجادوجو قبل القمة المذكورة بنحو عشرة شهور، ورئيس الكرملين القوي. وأعلن زعيم الانقلاب بصوت عميق “إننا نشترك في التاريخ ذاته من جهة أننا (الروس والأفارقة) الشعوب المنسية في هذا العالم” قبل اختتام كلمته بعبارة “الوطن أو الموت، ولسوف نفوز” وهي عبارة حظيت بتصفيق حماسي من فلاديمير بوتين.
دعونا نواجه الحقيقة: إن وجود روسيا في إفريقيا لم يعد محض خيال. كما أنه ليس سرابًا كما كان يعتقد من قبل، وأن كل ذلك من أضغاث حرب المعلومات. بات الوجود الروسي في إفريقيا الآن حقيقة جيوسياسية، ووجودًا منتشرًا إن لم يكن دائمًا، ويعيد خلط الوراق بين القوى جنوب البحر المتوسط. ففي السودان والنيجر وليبيا وبوركينا فاسو ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى ومدغشقر تنسج موسكو بنجاح شبكة من النفوذ منذ العام 2017- 2018 لخدمة أجندتها الجديدة بمواجهة الغرب على خلفية الحرب في أوكرانيا التي جددت الانقسامات بين الشرق والغرب.
ولم يسهم موت يفجيني بريجوزين رئيس فاغنر (وهي المجموعة شبه العسكرية التي كانت السلاح السري في يد الروس للتوغل في إفريقيا) إثر حادث تحطم طائرة في 23 أغسطس 2023 في حدوث أي تغيير مهم (في سياسات روسيا الإفريقية). وبعد ذلك بعام يواصل الكرملين تغيير مخالبه. ويكمن الاختلاف الوحيد في أنه يقوم بذلك الآن علانية. وبعيدًا عن إنكارها المخاوف التي طالما جاهرت بها الحكومات الغربية فإن موسكو لم تعد تخفي أعمالها. فقد استحوذت وزارة الدفاع الروسية – في الغالب- على “الإمبراطورية” التي شيدها بالفعل بريجوزين ولاسيما في القارة الإفريقية.
وعلى سبيل المثال فإن مسئولًا رفيع المستوى مثل يونس بيك إيفكرورف Yunus-bek Evkurov، نائب وزير الدفاع، يتنقل باستمرار في العواصم الإفريقية من أجل إبرام اتفاقات أمنية. وإلى جانب مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى، فقد اختفى شعار فاغنر من عناصر المجموعات الروسية في إفريقيا وحل محله اسم “فيالق إفريقيا” Africa Corps والتي كان اختيار تسميتها مباغتًا ( كانت Afrika Korps هي فيالق جيش النازي التي عملت في المنطقة من مصر إلى تونس بقيادة الفيلد مارشال إيروين روميل Erwin Rommel في الفترة من 1941 إلى 1943).
روسيا في ساحة إفريقيا الجيوسياسية ([2]):
تقف القارة الإفريقية عند مفترق طريق للتطورات الكبرى، لاسيما أنها غنية بمواردها الطبيعية وتحتل موقعًا جيوسياسيًا هامًا وما يقرب من 30% من الموارد المعدنية في العالم، كما ان إفريقيا إقليمًا غني بالمقدرات. وحققت دولًا مثل نيجيريا وجنوب إفريقيا ومصر بالفعل نفوذًا كبيرًا كقوى إقليمية مما زاد من مكانتها الاستراتيجية.
وقد تعززت مكانة إفريقيا الدولية بفضل مجموعة من التطورات الداخلية: مثل وقف أو تراجع الحروب الأهلية الوحشية، والإصلاحات الوطنية والإقليمية الهائلة، وإرساء مؤسسات جديدة مثل البرلمان الإفريقي والمحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان. ومثلت هذه التطورات، مع توجه صاعد للنمو الاقتصادي في العديد من الدول الإفريقية، دفعة لتقوية الطبقة الوسطى في القارة وحسنت صورتها العالمية. وباتت إفريقيا، عقب التحرر من الاستعمار، ساحة تنافسية للاستثمارات العالمية. وضخت شركات مثل كارليل جروب Carlyle Group وإميرجينج كابيتال بارتنرز Emerging Capital Partners كميات هائلة من رأس المال في القارة، بناء على توقعات بأن تضيف إفريقيا نحو 130 مليون مستهلك لحلول العام 2030 – في مقارنة كاشفة مع نحو 25 مليون مستهلك متوقع في الولايات المتحدة عن نفس الفترة.
كما يستضيف اقتصاد إفريقيا العديد من الشركات الدولية في قطاعات مختلفة- مثل Equity Bank و Ecobank في الخدمات المالية، ودانجوت Dangote في الصناعة، و METL في المبيعات، و سوبرايت Soprite وناكومات Nakumatt في التجزئة، وMTN في الاتصالات. ونجحت هذه الشركات في اعتلاء قمة البورصات الإفريقية، وزادت رأس مالها بشكل كبير. كما يتوقع زيادة عدد سكان الحضر في إفريقيا بنحو 500 مليون نسمة بحلول العام 2040 مما سيؤدي إلى تغير عميق في الاقتصاد من الزراعة واستخراج المعادن إلى صناعات الخدمات. وبحلول العام 2050 يتوقع أن يصل عدد سكان القارة على 2.5 بليون نسمة، وهو ضعف عدد سكانها حاليًا.
وبالتزامن مع ذلك تمكنت روسيا من إعادة ترسيخ وجودها كقوة عالمية رئيسة عقب حل الاتحاد السوفييتي، ووضعت أعينها صوب إفريقيا. ووفقًا لمبدأ سياستها الخارجية، الذي أعلن في مارس 2023، فإن روسيا تهدف إلى “زيادة التجارة والاستثمار” مع القارة. بأي حال فإن العلاقة بين روسيا وإفريقيا كانت محدود تاريخيًا ورجع ذلك بالأساس إلى غياب الصلات الثقافية واللغوية والتاريخية مقارنة بنظيرتها التي تربط إفريقيا بدول غرب أوروبا. علاوة على ذلك فإن الشركات الروسية تجاهلت إفريقيا بشكل مبالغ فيه كسوق هامة. لكن هذا الوضع آخذ في التغير مع تطلع روسيا لفرص جديدة في قطاعات مثل الطاقة، وإنتاج الغذاء، والتشييد- وهو قطاع بمكن للشركات الروسية النشاط فيه لتعويض حالة البنية الأساسية المتخلفة في إفريقيا.
وميزت قمة روسيا إفريقيا الاقتصادية الأولى التي عقدت في سوتشي في أكتوبر 2019 خطوة كبيرة إلى الأمام في هذا المسار. وقد حضرها 42 زعيمًا إفريقيا وترأسها كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ونتج عن القمة توقيع عدد من الاتفاقات ومذكرات تفاهم لتعميق التعاون الروسي- الإفريقي. وبينما كانت تجارة روسيا مع إفريقيا بقيمة 15.6 بليون دولار في العام 2021 – وهي رقم ضئيل مقارنة بتجارة الاتحاد الأوروبي مع إفريقيا التي بلغت 300 بليون دولار والولايات المتحدة بقيمة 65 بليون دولار والصين بقيمة 254 بليون دولار- فإن نفوذ روسيا أخذ في النمو. ووجد خطاب بوتين المناهض للاستعمار استجابة هائلة في إفريقيا حيث لا تزال مسألة عدم الثقة في القوى الاستعمارية السابقة قوية. وكان هذا العداء واضحًا عندما أقدمت 25 دولة إفريقية، في مارس 2022، بالغياب أو الامتناع عن التصويت على قرار للأمم المتحد يدين غزو روسيا لأوكرانيا.
ويمتد حضور روسيا في إفريقيا فيما يتجاوز التجارة الثنائية. إذ تملك روسيا نفوذًا عسكريًا متزايدًا في إفريقيا إذ توفر موسكو 50% من الأسلحة المقدمة للقارة سنويًا مع حلول العام 2022 وكان أكبر عملائها دولًا مثل الجزائر والسودان ومصر وانجولا ونيجيريا ومالي. ورغم فقد روسيا مكانتها كأكبر مورد للسلاح لإفريقيا في العام 2022 لصالح الصين فإنها لا تزال لاعبًا رئيسًا في قطاع الدفاع بالقارة.
إضافة إلى ذلك أطلقت روسيا شبكة من مدارس اللغات الروسية وفروع جامعاتها في إفريقيا مع وجود مؤسسات روسية هامة في دول مثل مصر وزامبيا والكونغو- كينشاسا، وتونس، والجزائر، وسيراليون. كما تبث المنافذ الإعلامية الروسية برامجها عبر قنوات مثل روسيا اليوم وسبوتنيك باللغات الإنجليزية والفرنسية والعربية في أرجاء إفريقيا، وثمة اتفاق خاص مع شبكة تليفزيون Afrique Media الكاميرونية لبث برامج روسية.
وفي الختام، تظهر روسيا كلاعب كبير في إفريقيا، وتقر بأهمية نمو القارة الإفريقية في الساحة العالمية. ويجب النظر للتدخل الروسي على أنه قوة توازن محتملة ضد القوى الغربية والآسيوية، مما يوفر لإفريقيا شريكًا بديلًا في مسعاها لتحقيق التنمية. إن إفريقيا ببساطة من الأهمية بمكان كي تحظى باهتمام روسيا كقوة عالمية.
المرتزقة الروس أكثر نشاطًا في إفريقيا بعد موت قائد فاغنر ([3]):
بات المرتزقة الروس أكثر نشاطًا في إفريقيا منذ مقتل زعيم فاغنر يفجيني بريجوزين قبل نحو عام حسب بيانات جديدة. ووفقًا لبحوث أجرتها مجموعة Armed Conflict Locations and Event Data (Acled)، وهي مجموعة مراقبة مقرها في الولايات المتحدة، فإن المجموعات الروسية المنخرطة في أحداث العنف المتفاقم في إفريقيا في الشهور التسعة وصولًا ليونيو 2024 أكثر من أية فترة أخرى منذ بدء تسجيل أنشطة هذه المجموعات في العام 2018. وكشفت بيانات Acled أن الشهور الثلاثة الأخيرة من العام 2023 في إفريقيا كانت فترة عنف واضح لمقاتلي فاغنر، والذين شاركوا في نحو 180 حادث مرتبط بالعنف السياسي مقارنة بتسعين حادث فقط في الشهور الثلاثة (يوليو- أغسطس 2023).
ولقد كان بريجوزين (63 عامًا) حليفًا قديمًا للرئيس فلاديمير بوتين حتى قاد فاغنر في حركة تمرد وجيزة ضد حكومته في يونيو 2023، بعد خلافاته مع الجنرالات الروس إثر استخدامهم لقواته في الحرب في أوكرانيا. وشهد النزاع بين بريجوزين وجنرالات بوتين تهديد قوات الأول في نهاية الأمر للأراضي الروسية وتوجيه كتيبة عسكرية نحو موسكو. بأي حال فقد انسحب بريجوزين بعد أيام قليلة.
وقال لاد سيروات Ladd Serwat، المتخصص الإقليمي في شئون إفريقيا لدى Acled، أن المجموعة قالت في آخر تقرير لها حول المرتزقة الروس في إفريقيا أنه بعد موت بريجوزين توقع كثيرون إقدام موسكو على غلق مجموعة فاغنر وإجبار مقاتليها على التقاعد أو الانضمام للجيش الروسي. بأي حال فإن مقاربة بوتين في إفريقيا تجاه فاغنر، والتي أعيد تسميتها بفيلق إفريقيا في بعض دول القارة، كانت مختلفة، حسب سيروات. وبينما كانت هناك تغييرات في قادتها الرئيسيين وأسلوب إدارتها فإن ما يحدث على الأرض الآن يختلف من دولة إلى أخرى.
“لقد لاحظنا (وجود) عقود جديدة لمقاتلين وفق بناء شبه عسكري جديد، إضافة إلى تقديم عقود أخرى لشركات عسكرية خاصة PMCs [private military companies] أصغر حجمًا في الإقليم. ويبدو أن روسيا تريد تفادي قيام منظمة واحدة تحوز قدرًا مفرطًا من السلطة وتمثل تهديدًا لها كما كان حال مجموعة فاغنر بقيادة بريجوزين” حسبما شرح سيروات.
ووفقًا لـ Acled، فإن الجزء الأكبر من تزايد نشاط مجموعة فاغنر في إفريقيا في العام الماضي يتعلق بدعم حكام مالي العسكريون، الذين يحاربون “متمردي الطوارق الانفصاليين” في شمالي البلاد. كما تتبعت Acled العنف السياسي المرتبط بمجموعة فاغنر في سبعة دول هي ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد ومالي وموزمبيق والسودان وموريتانيا. ومنذ وفاة بريجوزين نشرت الشركات العسكرية الخاصة الروسية قوات أخرى في بوركينا فاسو وفي النيجر حسب سيروات. كما حدث تطور آخر في درجة ادعاء الحكومة الروسية تملكها لنشاط الارتزاق في إفريقيا. وخلال عهد بريجوزين وقيادته لمجموعة فاغنر كانت روسيا قد أنكرت تورطها مع المجموعة حتى قبيل وفاة بريجوزين بقليل.
بأي حال أكد سيروات أن فيلق إفريقيا “أصبح بشكل أكبر امتدادًا مباشرًا لوزارة الدفاع الروسية، وقد أقرت موسكو بتمويلها. كما يبدو أن فيالق إفريقيا ستركز بشكل أكبر على العمليات الأمنية والعسكرية”. وفيما يتعلق بمستقبل الشركات العسكرية الخاصة الروسية في إفريقيا فإن سيروات يوقن بأنها جميعًا ستوسع نفوذها في الدول التي تمكنت من إيجاد موطئ قدم لها بالفعل. واختتم سيروات إفاداته بقوله “أتوقع أنه في غضون الشهور الستة أو العام المقبل سنرى مجموعة فاغنر/ فيالق إفريقيا تقوم بتدريب قوات الدولة في النيجر وبوركينا فاسو، مع إمكانية بدئها الانخراط في عنف مباشر”.
…………………………………………..
[1] Frédéric Bobin and Benjamin Quénelle, Africa, the new frontline between the West and Russia Le Monde, August 21, 2024 https://www.lemonde.fr/en/international/article/2024/08/21/africa-the-new-frontline-between-the-west-and-russia_6719110_4.html
[2] Isidoros Karderinisو Russia in Africa’s Geopolitical Arena, The Reporter, August 24, 2024 https://www.thereporterethiopia.com/41550/
[3] Bill Corcoran, Russian mercenaries more active in Africa since death of Wagner group leader, The Irish Times, August 25, 2024 https://www.irishtimes.com/world/europe/2024/08/25/russian-mercenaries-more-active-in-africa-since-death-of-wagner-group-leader/