لم يتوقّع كثيرون في مطلع العام الجاري عند ترشح اسم آبي أحمد لنيل جائزة نوبل للسلام وصوله إلى التتويج بالجائزة؛ بالنظر إلى أسباب موضوعية، أو ربما متحيزة نسبيًّا؛ من بينها: تعطُّل ملف السلام مع إريتريا، وعدم التراجع عن مشروع ميناء بربرة بولاية “أرض الصومال”؛ الذي أدانه الاتحاد الإفريقي ثم جامعة الدول العربية (مارس 2018م)، ودُشِّن بتنسيق إثيوبي- إماراتي مع ولاية أرض الصومال وتجاهل مقديشو؛ رغم تضمّنه ارتباطات عسكرية ومنح حصة للجانب الإثيوبي وامتياز “لتطوير” الميناء مدته ثلاثون عامًا، وتراه مقديشو انتهاكًا لسيادة جمهورية الصومال الفيدرالية، والصدام القائم مع إثنية التيجراي، وغموض الموقف إزاء الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة بإثيوبيا، خاصةً بعد إرجاء متكرِّر للإحصاء العام في إثيوبيا، وهو من أهم الإجراءات المقرّر القيام بها قبل وضع قواعد الانتخابات بحجة مشكلات تقنية، وكذلك تمرير البرلمان الإثيوبي (24 أغسطس 2019م) لقانون “الانتخابات الإثيوبية، وتسجيل الأحزاب السياسية، وأخلاقيات الانتخابات” الذي أكَّدت أحزاب معارضة مكوّنة من 57 حزبًا تجاهل التشاور معها بخصوصه.
غير أنَّ هذا التوقع السلبي تراجع تدريجيًّا مع قدرة آبي أحمد على تجاوز أزمات داخلية وإقليمية عديدة وبمهارة فائقة تبلورت مؤخرًا في رعاية إثيوبية (بالتنسيق مع الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية “إيجاد”) للمفاوضات بين الأطراف السودانية المختلفة، والتي قادت إلى التوصل لإعلان دستوري، وتفعيل اتفاق لتقاسم السلطة بين المجلس العسكري الانتقالي و”القوى المدنية” التي انحازت وتحمّست بدورها للوساطة الإثيوبية دون غيرها من وساطات إقليمية، وتمكن أديس أبابا من تحييد موقف المعارضة المسلحة السودانية الرافضة للإعلان الدستوري؛ مما يسّر انتقال سلس للغاية للبدء في المرحلة الانتقالية بالسودان.
وهو ما دفَع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس إلى مطالبة إثيوبيا –في نهاية سبتمبر الماضي- بتكرار جهودها تلك لتسوية الأزمة السياسية في جنوب السودان؛ ما يعني تسليمًا أُمَمِيًّا لافتًا بقدرة إثيوبيا على الانخراط القوِيّ والفعَّال في تسوية الأزمات الإقليميَّة في القرن الإفريقي وحوض النيل، وإن لم يحقّق نفس القَدْر من النجاح في الوساطة بين الصومال وكينيا بخصوص النزاع البحري بينهما، غير أنه نجح في تجميد التصعيد بينهما.
وجاء الإعلان عن فوز آبي أحمد بالجائزة الأشهر دوليًّا في فئة السلام ليثير تساؤلات وتفاؤلاً وقدرًا من التشكك حسب أطراف مختلفة. فوفقًا للجنة نوبل النرويجية؛ فإن فوز آبي أحمد جاء على خلفية جهوده لتحقيق السلام والتعاون الدولي ولمبادرته المهمة بتسوية النزاع الحدودي مع جارته إريتريا (وهي المبادرة التي قامت على قبول قرارات أُمَميّة في صالح إريتريا قبل نحو عقديْنِ)؛ وكذا إدخاله إصلاحات ليبرالية في إثيوبيا، ودوره الرائد في تمكين المرأة بتعيين حكومة أكثر من نصف وزرائها من النساء، بمن فيهن أول وزيرة للدفاع بإثيوبيا طوال تاريخها. وإطلاق سراح آلاف المعتقلين والسجناء السياسيين. ويُتوقع أن يعزّز فوز أحمد بالجائزة من مسار تقوية الدولة الوطنية في إثيوبيا، وجعلها دول مزدهرة للجميع؛ حسب بيان مكتب رئيس الوزراء احتفاءً بالجائزة.
ومن الواضح تمامًا أن الجائزة ستمثّل قيمةً مضافةً للدور الإقليمي الإثيوبي في المنطقة في المرحلة المقبلة، وتُضيف زخمًا لهذا الدور ذي السمة الكلاسيكية بالارتباط بسياسات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مضافًا لها الصلة الوطيدة (اقتصاديًّا بالأساس) بدول عربية وإقليمية ذات نفوذ متنامٍ في دول جوار إثيوبيا، والصلة المتميزة مع الصين الشريك التجاري الأول لإثيوبيا.
وأشار بيان إعلان الجائزة إلى ذلك صراحة؛ بالرد على أيّ تصور بأن منح أحمد الجائزة -الذي تقلَّد منصبه منذ عام ونصف تقريبًا- قد أتى قبل أوانه (كما أُثير في حالة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما الذي حصل على الجائزة بعد عام واحد تقريبًا من بدء رئاسته)، بتأكيد اللجنة أن جهود آبي أحمد تستحق التقدير، وتحتاج إلى التشجيع.
ولعلّ من أهم الملفات الإقليمية المتوقّع تنشيطها قريبًا: ملف اتفاق السلام مع إريتريا؛ حيث لم يُنْجَز بعدُ الاستئناف الكامل للعلاقات الطبيعية بين البلدين، وهو ما يُرجعه محلِّلون غربيون إلى التحفّظ الإريتري. أو بحسب محلّل الشؤون الإثيوبية وليام ديفسون: “لقد أنهى اتفاق السلام تجميد العلاقات الدبلوماسية، وفتح خطوط الهواتف، وسمح للبعض بالسفر بين البلدين؛ لكن النزاعات الحدودية لا تزال دون تسوية (حقيقية)”، كما تفتقر إريتريا لحكومة دستورية (بينما لم يتم تعديل دستور الجبهة الشعبية الإثيوبية الحاكمة لتمكين تحوّل ديمقراطي حقيقي في إثيوبيا، وهو ما تتجنب الإشارة له بشكل لافت أغلب وسائل الإعلام الغربية)؛ مما يمنع استفادة إريتريا من اتفاق السلام. وهكذا يُتوقع في الفترة المقبلة تزايد الضغوط على إريتريا، وبعضها سيكون بشكل غير مباشر وبتأثير من ارتفاع المكانة الدولية لزعامة أبي أحمد؛ للاستجابة للمقاربة الإثيوبية لتسوية المشكلات العالقة بينهما.
كما يُتوقع أن تنخرط أديس أبابا بقوَّة في ملف جنوب السودان؛ حيث استضاف آبي أحمد قبل ساعات من نيله الجائزة رؤساء جنوب السودان والصومال وجيبوتي وأوغندا وممثل الرئيس الإريتري في أديس أبابا لافتتاح “متنزه الوحدة” الذي أُقِيمَ على موقع القصر الوطني الذي شُيِّدَ في العام 1887م على يد الإمبراطور منليك؛ ما يؤشِّر على تزايد رسوخ مكانة إثيوبيا كقوَّة إقليمية رائدة تكتسب مزيدًا من ثقة دول الجوار بها.
وتحتاج جنوب السودان إلى دفعة كبيرة، في الفترة القصيرة المقبلة؛ لتسوية الخلافات العالقة بين الرئيس كير وزعيم المعارضة المسلحة رياك مشار؛ كضرورة إعلان تكوين حكومة وحدة وطنية انتقالية بحلول 12 نوفمبر المقبل. وبالنظر إلى قِصَر الفترة المتبقية فإن إثيوبيا تظل البديل الجاهز دائمًا، والأكثر ثقة بعد الجائزة، لإنجاز الوساطة وتمرير الاتفاقات، وإن بقدر من تأجيل حسم بعضها، كما تم في إرجاء مسألة السلام في الإعلان الدستوري بالسودان رغم الاتفاق على إدراجها في أديس أبابا في نهاية يوليو الفائت، وكذا بتهميش أدوار أخرى (حيث لعبت الصين ومصر دورًا كبيرًا في الدفع بمسار تكوين قوات مسلحة موحدة بجنوب السودان).
وإن بدت الفرص السابقة، كأمثلة، ذات قابلية كبيرة للتحقّق، وربما تجاوز التوقعات في نجاح آبي أحمد وقيادته القوية والنشطة، فإنه ثمة تداعيات لفوز آبي أحمد –حقيقة أو محتملة في واقع الأمر- في العديد من الملفات الأخرى؛ لعل أبرزها ملف سد النهضة مع مصر، والذي شهد تصعيدًا مقلقًا قبل إعلان فوز آبي أحمد بجائزة نوبل. ووجْه القلق أن التصعيد جاء في وقت قصير نسبيًّا، وأن اللهجة الإثيوبية تحوَّلت من التسويف والتجاهل قدر الإمكان إزاء “المطالب” المصرية إلى لهجة عدائية إلى حدّ ما، وإلى اتهام القاهرة بتخريب مفاوضات سدّ النهضة، وهي المفاوضات التي استمرت دورات عدَّة تدور حول مسائل إجرائية وفنية للاجتماعات نفسها دون تحقيق اختراقات حقيقية للملف، كما اتَّسم ردّ فعل القاهرة بتصعيد ملموس في التأكيد على تعنت إثيوبيا، واللجوء إلى وسيط دولي مثالي في هذه الحالة وهو الولايات المتحدة، وهو ما رفضته إثيوبيا بدورها.
ويثور هنا احتمالان رئيسيان؛ مبادرة آبي أحمد بتقديم حلّ وسط للقاهرة بصدد سدّ النهضة وإظهار قَدْر من المرونة، ولو مرحليًّا، لتجاوز توتر العلاقات مع القاهرة، وما قد يقود إليه من اضطراب في علاقة ظلت مثالية إلى حدّ ما، وشابها التفاؤل المصري بقيادة أبي أحمد. أما الاحتمال الآخر فربما يدفع التقدير الدولي لآبي أحمد والاعتراف بقدراته وارتقائه إلى مصافّ أهم قادة إفريقيا إلى الاستمرار في سياساته المتعلّقة بسدّ النهضة وهي التسويف واعتبار إدارته وتشغيله شأن داخلي بحت لن يؤثّر سلبًا على دولتي المصبّ. لكنْ يظل الاحتمال الأول، وفي ضوء شخصية آبي أحمد واعتبارات مصالح بلاده على المدى البعيد، هو الأقرب والأكثر واقعية.
أما الملف الثاني الذي قد يشهد تداعيات فهو البحر الأحمر؛ حيث قادت إثيوبيا جهودًا إقليمية لتكوين قوَّة مهام إفريقية بحرية في البحر الأحمر تتكون من دول “إيجاد”، وتجسَّدت هذه الجهود في أبريل 2019م مع طرح “إيجاد” لرؤيتها حول فكرة تشكيل “قوَّة مهام البحر الأحمر وخليج عدن”؛ بهدف تعزيز السلام والأمن في المنطقة المذكورة، وتحظى القوة بدعم مؤسَّساتي أوروبيّ، وإن على نطاق محدود.
ويرتبط هذا الملف بمسار تطبيع العلاقات مع إريتريا، وتقاطعات العلاقات الخليجية- الإثيوبية، ورهانات إثيوبيا على علاقات أوثق مع دول إقليمية مثل تركيا (شريك إثيوبيا الاقتصادي المهم وصاحبة الاستثمارات الكبيرة في الأخيرة)، وإسرائيل، وكذا بقدرة إثيوبيا على تنسيق الأدوار الإقليمية للدول المعنية بالقوَّة، وهي أمور ستشهد بالتأكيد تطورًا في ضوء تحسن صورة إثيوبيا ونظامها السياسي.
وفيما ذهبت جائزة نوبل للسلام لضابط مخابرات سابق يرأس نظام حكم الجبهة الشعبية الإثيوبية الذي لم يشهد أية انتخابات ديمقراطية حقيقية منذ قيامه، ما اعتبره مراقبون -بينهم الألماني لودجر شادومسكي Ludger Schadomsky رئيس المكتب الأمهري بدويتش فيله الألمانية وأحد أبرز ناقدي آبي أحمد منذ وصوله للسلطة-، جائزة على عملٍ لم يُنْجَز بعدُ؛ في إشارة لاتفاق السلام مع إريتريا، وإلى حدّ ما إصلاحاته الداخلية انتظارًا لانتخابات العام 2020م؛ فإن ملفات كثيرة ستُوضَع في دائرة الضوء في الفترة المقبلة؛ منها: سياساته للمصالحة الداخلية والإقليمية المعروفة باسم Medemer، ونجاعة دور إثيوبيا الإقليمي –أو تأكيد نجاعة هذا الدور في واقع الأمر- في جنوب السودان والصومال وجيبوتي والسودان، والعلاقات مع إريتريا، وبشكل ذي أهمية خاصة وأكثر حساسية مسألة سد النهضة مع مصر، وأمن البحر الأحمر بتشابكاته الإقليمية والدولية بالغة التعقيد.