هل يمكن القول: إننا أمام ما يمكن تسميته باللحظة الإفريقية في النظام الدولي، وبصفة خاصة منذ بداية الألفية الجديدة؟
لقد ظلت مجلة “الإيكونومست” البريطانية لسنوات طويلة، مؤشرًا مفيدًا للفكر الاقتصادي الغربي المتعلِّق بإفريقيا، كما عكست الغموض الرهيب الذي كان الأوروبيون يشعرون به دائمًا بشأن القارة؛ والذي يُعبِّر بحقٍّ عن أزمة النموذج المعرفي في دراسات المستفرقين من بلاد الشمال المتقدِّم.
في أوائل عام 2000م، وصفت مجلة الإيكونوميست إفريقيا على صدر غلافها بأنها “القارة الميؤوس منها”؛ بسبب عقد التنمية المفقود في الثمانينيات، واستمرار الحروب والصراعات المسلحة، وتفشّي الفساد والحكم السيئ في القارة خلال التسعينيات.
بَيْدَ أنَّ هذه الصورة التشاؤمية حول إفريقيا تغيَّرت في عام 2011م؛ حيث جعلت المجلة ذاتها عنوانها الرئيسي: “إفريقيا الصاعدة”، بل ويتحوَّل العنوان بعد عامين فقط ليصبح “إفريقيا الواعدة”.
ما الذي تغيَّر إذن في الرؤية الغربية للواقع الإفريقي؟
إنها باختصار اعتبارات التكالب الثالث على مراكز الثروة والنفوذ في قارتنا الغنية.
لقد تغيرت بيئة الأعمال والاستثمار في إفريقيا، ودخل إلى الساحة لاعبون جدد؛ أبرزهم الصين.
في عام 2011م شهدت إفريقيا وجود ستة من بين العشر اقتصادات الأسرع نموًّا في العالم.
وكانت التوقعات في بداية هذا العقد أن إفريقيا سوف تشهد “نموًّا متسارعًا” في مؤشرات اقتصاديَّة مهمَّة؛ مثل إجمالي الناتج المحلي (بنسبة تقارب 6٪)، وفي إنتاج الموارد المعدنية (من 31٪ إلى 40٪ من الإنتاج العالمي)؛ وفي نسبة وصول الكهرباء للسكان (من 35٪ إلى 55٪). ولا شك أن ذلك النهوض يستلزم استثمار ما بين 50 مليار إلى 90 مليار دولار في البنية التحتية، مع متوسط عائد يبلغ 29٪. إنها بحق فرصة كبيرة للاستثمار في الأعمال في إفريقيا.
ولا شك أن تزايد عدد السكان في إفريقيا يُمثّل عاملاً جاذبًا لقطاع الأعمال؛ إذ تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو 80% من سكان العالم عام 2100م سوف يعيشون في إفريقيا. كما أن نحو 45% من الأفارقة سوف يعيشون في المدن، وأغلب هؤلاء من أبناء الطبقة الوسطى الذين لديهم قدرة شرائية.
وعليه فإن المعادلة الخاصة بتشجيع التنافس على الأعمال في إفريقيا تتطلب وجود عدد كبير من السكان مع تزايد القدرة الشرائية لشرائح الطبقة الوسطى التي تميل إلى السكنى في المدن؛ حيث تتوافر الخدمات الحياتية المريحة.
وعليه يمكن القول بأن هذه اللحظة الجديدة التي تمر بها إفريقيا ترتبط ارتباطًا مباشرًا بمعدلات النمو المتسارع الذي قدَّمته معظم اقتصادات القارة في العقد الأخير؛ من جهة، وبظهور التوجهات الإقليمية الجديدة والتوكيد على عمليات التكامل الإقليمي من جهة أخرى. مع ملاحظة خاصة لإنشاء الاتِّحاد الإفريقي كبديل عن منظمة الوحدة الإفريقية في عام 2002م؛ وذلك من أجل توفير ميكانزمات جديدة للأمن الجماعي وطرح حلول إفريقية أكثر فاعليَّة للمشكلات الإفريقية.
كما ترتبط تلك اللحظة الإفريقية الجديدة كذلك بظهور العديد من المبادرات التكاملية في مجال التنمية والحوكمة والأمن، وعلى رأس ذلك كله: اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية التي وقَّعت عليها 53 دولة إفريقية في قمة نيامي هذا العام.
الاتجاه النقدي للقدوم الإفريقي في النظام الدولي
على أن هناك اتجاهًا نقديًّا ينبع من مدرسة الاقتصاد السياسي؛ يرى بأن اللحظة الإفريقية الراهنة لا تعني صعودًا إفريقيًّا مستدامًا، وإنما تعكس مزيدًا من الاندماج والتبعية في ظل نظام عالمي بالغ التنافسية. فعلى سبيل المثال: يلاحظ إيان تايلور، في دراسة بعنوان: “إعادة التبعية: لماذا لا تنهض إفريقيا؟” أنَّ “الديناميات التي تصاحب النهوض النظري والشكلي لإفريقيا تسهم فعليًّا في دفع القارة إلى مزيد من التخلف والاعتماد. لقد تمت نهضة إفريقيا من خلال تكريس اعتماد الدول الإفريقية على صادرات الموارد الأساسية، وتراجع عمليات التصنيع، عوضًا عن إحداث تغيير جوهريّ في ميزان القوى الدولي.
علاوة على ذلك، لا ينبغي أن ننسى أن الصين قامت بدور رئيسي في تحفيز نموّ الناتج المحلي الإجمالي في إفريقيا؛ من خلال استثماراتها الكبيرة في البنية التحتية الإفريقية، وكذلك الاستثمارات الخاصة الأخرى في جميع أنحاء القارة.
إن قياس التقدم الاقتصادي عن طريق قاعدة “النمو من أجل النمو” لا يُعبِّر عن التنمية ذات القاعدة العريضة والمستدامة.
وعلى أيَّة حال؛ إذا كانت هناك أسباب تدعو للتفاؤل عند النظر إلى القارة الإفريقية اليوم، فلا ينبغي لنا أن نركِّز فقط على المفهوم الضيِّق الخاصّ بنمو الناتج المحلي الإجمالي كمقياس وحيد للنجاح. وإنَّ أحد التحديات الكبرى تتمثل في ضرورة معالجة المشكلات الاجتماعية التي يولِّدها النمو الاقتصادي الجديد، مثل عدم المساواة والعدالة في التوزيع، وتفشّي الفقر والفساد في المجتمعات الإفريقية.
لقد كانت التغطيات الإعلامية المروِّعَة لتفشِّي فيروس إيبولا في سيراليون وغينيا وليبيريا تُذكِّرُنا بالصور النمطية والقوالب الجامدة لإفريقيا كقارَّة ميؤوس منها ابتُلِيَتْ بأزمات متكررة، وتعتمد على المساعدات الغربية لإنقاذها. إنها تتناقض تناقضًا صارخًا مع صور مراكز التسوق والمقاهي وناطحات السحاب المستخدَمَة لتصوير إفريقيا باعتبارها “قارة صاعدة”.
في الدفاع عن القدوم الإفريقي:
لقد كشفت العديد من الدراسات أن المستهلكين في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى يتبنون بسرعة التكنولوجيا المعاصرة؛ مثل الهواتف النقَّالة والطاقة الشمسية.
على سبيل المثال، أصبحت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات واحدة من أسرع قطاعات الأعمال نموًّا في كينيا؛ حيث أصبحت معدلات الاتصال بخدمة الإنترنت واحدة من أعلى المعدلات في الدول النامية. لقد جعلت هذه التقنية كينيا مركزًا إقليميًّا لخدمات الهاتف المحمول ذات القيمة المضافة، وأبرزها خدمة الدفع عبر الهاتف المحمول M-PESA، وهي منصَّة تُقدِّم خدمات مالية بالتجزئة عبر الهاتف المحمول للكينيين، خاصة لمن يفتقرون للخدمات في المناطق الريفية.
لقد أحدثت الشركة الكينية الرائدة للهواتف المحمولة “سفاري كوم” تحوُّلاً كبيرًا في طريقة إنفاق الكينيين لأموالهم؛ وذلك بتشغيل منصة M-PESA.. وكان تحويل الأموال عن طريق الرسائل النصية هو أولى الخدمات المتاحة. فبإمكان المستخدمين إرسال واستقبال الأموال إلكترونيًّا عن طريق هاتف محمول عاديّ. ويجري تبادل الأموال، أي: الإيداع والسحب بواسطة شبكة من وكلاء يحلُّون بالأساس محل ماكينات الصرّاف الآلي.
وعلى الرغم من أن عدم كفاية البنية التحتية للنقل والمواصلات كان العائق الرئيسي لعدم قدرة إفريقيا على جذب الاستثمارات الأجنبية الكبرى، فقد تم إحراز تقدُّم كبير في السنوات الأخيرة، لا سيما في قطاع النقل الجوي، وقطاع السكك الحديدية.
على سبيل المثال؛ فإن منطق “السماوات المفتوحة” قد أسهم بشكلٍ كبيرٍ في تخفيض تكلفة السفر في العديد من أسواق إفريقيا جنوب الصحراء.
ونظرًا للهجوم الصيني الناعم على إفريقيا؛ فقد أسهم التمويل الصيني وصناديق الاستثمار الخاصة في ربط العديد من الأسواق الإفريقية بخطوط السكك الحديدية الكهربائية عالية السرعة؛ يربط أحد هذه الخطوط بين جيبوتي وإثيوبيا بطول 466 ميلاً، وتكلفة تقديرية مقدارها 4 مليارات دولار.
لقد أصبح من السهل الآن على الشركات التواصل مع الموزِّعين والمستهلكين المحليين في العديد من الأسواق الإفريقية التي كانت في السابق تعيش بمعزل عن حركة المعاملات التجارية الدولية.
وعلى الرغم من استمرار العديد من الدول الإفريقية في الاستثمار في الصناعات الاستخراجية، إلى حد كبير بأموال استثمارية من الصين، فإن العديد منها يتَّجه نحو تنويع قطاعاتها الإنتاجية، مع إيلاء اهتمام أكبر للأنشطة الاقتصادية ذات القيمة المضافة.
على سبيل المثال؛ ففي حين اعتمدت نيجيريا على تصدير النفط الخام والغاز الطبيعي لسنوات طويلة، فإن هناك وعيًا متزايدًا لدى صانعي السياسات بأنَّ البلاد تحتاج إلى اتجاه اقتصادي استراتيجي جديد يؤكّد على أهمية التصنيع، وتصدير المنتجات والخدمات ذات القيمة المضافة غير النفطية. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت كلٌّ من كينيا ورواندا اللتين اعتمدتا في الماضي بشكل كبير على السلع الزراعية تُصدران المنتجات ذات القيمة المضافة؛ مثل المنتجات البترولية، والسلع الرأسمالية، والمنتجات الغذائية المصنَّعَة، والأسمدة الكيماوية.
لقد أصبحت أسواق شرق إفريقيا أحد محاور المنتجات الصناعية والطاقة المتجددة؛ علاوةً على ذلك، فقد حققت بوركينا فاسو نجاحًا ملحوظًا في تنويع مصادر دخلها القومي، كما استطاعت تنزانيا أن تُحَوِّل اقتصادها المغلق إلى اقتصاد سوقيّ نَشِط أكثر تنوُّعًا وانفتاحًا.
بشكل عام؛ يمكن القول: إن اللحظة الإفريقية في النظام الدولي تُعبِّر عن اتجاه إيجابي. لكنَّ هذا الاتجاه غير مستقر، ولا يشمل بالضرورة مختلف أرجاء القارة. إذ يلاحظ المراقب لقضايا التحول المجتمعي في إفريقيا أن الظروف المعيشية تتحسن في العديد من الأماكن، ولكن ليس في كل مكان، وليس لجميع السكان. فلا يزال النمو السكاني في معظم البلدان يلتهم عوائد النمو الاقتصادي. صحيح أن التكنولوجيا يمكن أن تساعد -كما بيَّنَّا- في تعزيز التنمية البشرية، ولكنَّ قدرتها على القيام بذلك ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتطوير القدرات البشرية الأساسية الأخرى. كما أن تطوير المؤسسات الإدارية -من خلال تحسين نظام تحصيل الإيرادات والتخطيط الفعَّال وصنع السياسات والتنفيذ- يُعدّ أمرًا حيويًّا لتحقيق التنمية المستدامة.
إن إفريقيا الناهضة سوف تُواجه يقينًا العديد من التحديات في العقود المقبلة. ومع ذلك، فإنَّ التحولات المستمرة التي يُعبّر عنها الواقع المتغير تأتي بالعديد من الفرص التي يجب اغتنامها لتحويل إمكانات إفريقيا إلى قدرات ملموسة في مجال التنمية الشاملة.