بسمة سعد
باحثة في المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية
منعطف خطير تمر به العلاقات الصومالية الإثيوبية منذ إعلان أديس أبابا، وبشكل مفاجئ توقيعها مذكرة تفاهم مع أرض الصومال؛ يمنح الأولى فرصة للحصول على منفذ بحري وقاعدة عسكرية في ميناء بربرة، في خطوةٍ وصفتها الحكومة الفيدرالية الصومالية بأنها انتهاك صارخ لسيادتها، وتدعم المطالب الانفصالية لأرض الصومال، كما كشف في الوقت ذاته عن طموح رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” العابر للحدود لتعزيز مكانة إثيوبيا الإقليمية، ولو على حساب مصالح دول جوارها. ومثلما أثارت مذكرة التفاهم غضب الصومال، أثارت كذلك غضب جيبوتي التي قادت جهودًا حثيثة لرأب الصدع وإزالة المشاحنات بين مقديشو وهرجيسا اللتين أظهرتا استعدادهما للتباحث بشأن مسألة الوحدة أو الانفصال.
ويأتي التوتر الإثيوبي الصومالي في خضم مرحلة حرجة تمر بها مقديشيو لتعزيز أركان الدولة الصومالية؛ سياسيًّا وأمنيًّا وعسكريًّا، في إطار ما يجري من جهود لتطوير القدرات الأمنية والعسكرية الصومالية، ولتعزيز شبكة ممتدة من العلاقات الخارجية، ناهيك عن إعادة هيكلة المنظومة السياسية في إطار ما يحدث من تعديلات دستورية تشمل تغيير نظام الحكم من البرلماني إلى الرئاسي، إلى جانب اعتماد نظام الاقتراع العام المباشر، وتمديد الفترة الرئاسية من 4 سنوات إلى 5 سنوات، بالإضافة إلى ما أطلقته الحكومة الصومالية من عمليات عسكرية للقضاء على حركة الشباب.
ومن ثم، فإن الانخراط الإثيوبي في الصومال عبر كافة المستويات السياسية والأمنية والعسكرية لسنوات ممتدة، وضع مقديشيو أمام حزمة من المعضلات الناجمة عن توتر العلاقات الصومالية الإثيوبية، وهذا ما سنتناوله عبر المحاور التالية:
أولًا: مذكرة التفاهم الإثيوبية مع صوماليلاند… ما بين الانقسام والحفاظ على السيادة الصومالية
بات توقيع إثيوبيا وأرض الصومال مذكرة تفاهم تسمح لأديس أبابا باستئجار نحو 20 كيلو مترًا من ميناء بربرة الصومالي الواقع على خليج عدن، لمدة 50 عامًا، إلى جانب السماح بإقامة قاعدة بحرية تُمكّن الأخيرة من الوصول إلى البحر الأحمر والإشراف على حركة مرور سفنها التجارية، والمشاركة في تأمين حركة الملاحة المارة في البحر الأحمر، نظير حصول أرض الصومال على اعتراف إثيوبي رسمي باستقلال أرض الصومال([1])؛ أحد أبرز المعضلات التى تواجهها مقديشيو في عهد الرئيس حسن شيخ محمود، في ظل تدهور العلاقات الثنائية بين البلدين، انطلاقًا من كون هذه الخطوة الإثيوبية تمثل انتهاكًا صارخًا للسيادة الصومالية، وتكشف كذلك عن المخطط الإثيوبي لترسيخ حالة الانقسام بين الحكومة الفيدرالية الصومالية وباقي حكومات الولايات، بما يصبّ نحو إضعاف سلطة الحكومة المركزية وإجهاض أيّ محاولات لمقديشيو من أجل استعادة إقليم أوجادين، أو قد يدفع مقديشيو لحرمان أديس أبابا من استخدام الموانئ الصومالية، أو مطالبتها بمبالغ كبيرة نظير استخدام موانئها([2]).
خريطة (1): أرض الصومال وميناء بربرة
وتُعدّ مذكرة التفاهم الإثيوبية مع أرض الصومال محاولة لإعادة إحياء اتفاق سبق أن وقَّعته إثيوبيا مع أرض الصومال في مارس 2018م، لشراء حصة قدرها نحو 19% من ميناء بربرة، بينما تحتفظ أرض الصومال بنسبة 30% من الميناء، وتمتلك شركة موانئ دبي العالمية 51% من الميناء الذي ستتولى إدارته لمدة 30 عامًا، إلى جانب العمل على تطويره بتكلفة تبلغ حوالي 442 مليون دولار([3])، وهو الاتفاق الذي تم تجميده نتيجة عدم التزام أديس أبابا بتطوير طريق بري يربط بين الميناء والحدود الإثيوبية، ويبلغ طوله 260 كيلو متر، مما دفع أرض الصومال للإعلان في يونيو 2022م عن فقدان أديس أبابا حصتها في الميناء([4]).
ومثلما أثار اتفاق 2018م غضب الحكومة الصومالية المنعكس في اتخاذ وزارة الموانئ والنقل البحري قرارًا بإلغائها في اليوم التالي من الإعلان عن الاتفاقية([5])؛ تبعها إعلان البرلمان الصومالي عن إلغاء الاتفاقية وبطلانها، ناهيك عن كونها زادت من حدة التوتر بين أرض الصومال ومقديشيو([6])، وتسببت مذكرة التفاهم كذلك في إثارة غضب الصومال التي قام رئيسها حسن شيخ محمود بإصدار قانون بإلغائها في 7 يناير 2024م([7])، داعيًا الصوماليين إلى الاستعداد للدفاع عن الوطن، بالتوازي مع تنظيم مسيرات في العاصمة مقديشيو رافضة لمذكرة التفاهم، ناهيك عن إعلان مستشار الرئيس الصومالي عن استعداد مقديشيو لخوض حرب لمنع إثيوبيا من الاعتراف بأرض الصومال والحصول على منفذ بحري([8]).
كما قامت الحكومة الصومالية بإغلاق قنصليتي إثيوبيا في كل من هرجيسا بأرض الصومال، وغروي بولاية بونتلاند الإقليمية([9])، وطرد السفير الإثيوبي من مقديشيو.
فلقد كان قرار الإعلان عن توقيع مذكرة التفاهم بمثابة خطوة مفاجئة للرئيس الصومالي، بعدما نفى رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد عزم أديس أبابا على اتخاذ هذه الخطوة خلال لقاء جمعه مع الرئيس حسن شيخ محمود خلال القمة العربية الإسلامية الاستثنائية المنعقدة في السعودية في نوفمبر 2023م([10]).
ومِن ثَم، تسببت مذكرة التفاهم في زيادة حدة التوتر في العلاقات الثنائية، ناهيك عن كونها حوَّلت الأنظار إلى معضلة أخرى لا تقل خطورة عن مذكرة التفاهم، والمتمثلة في القوات الإثيوبية المنتشرة في ربوع الصومال سواء، تحت مظلة بعثة الاتحاد الإفريقي الانتقالية في الصومال(ATMIS) أو بموجب اتفاقيات ثنائية؛ حيث تشارك أديس أبابا بنحو 3 آلاف جندي تحت مظلة أتميس، بينما يتمركز ما بين (5 آلاف- 7 آلاف) إثيوبي في عدة مناطق صومالية بموجب اتفاق ثنائي([11])، لاسيما في جوبالاند وهيرشبيلي([12]).
ومِن ثَم، تُعدّ إثيوبيا واحدة من أكبر البلدان المساهمة بقوات في هذه البعثة، وبالتالي تمتلك أديس أبابا ورقة ضغط سياسية وعسكرية على الحكومة الصومالية في غاية الأهمية، تتمثل في دور القوات الإثيوبية في دعم القوات الصومالية لاستعادة أمن واستقرار البلاد، والحفاظ على سيادته في خضم ما تواجهه مقديشيو من تحديات أمنية وعسكرية، وهو ما يُستدل عليه بتصريحات المشير بيرهانو جولا، رئيس أركان قوات الدفاع الوطني الإثيوبية، خلال مقابلة في مارس 2024م بشأن مستقبل التدخل العسكري الإثيوبي في الصومال في ضوء توقيع مذكرة التفاهم المعنية، والتي قال خلالها: “إن القوات الإثيوبية تغطي 60% من مساحة الصومال، وإذا انسحبنا فلن تتمكن الحكومة الصومالية من الاستمرار”([13]).
كما أضاف المشير جولا: إن القوات الإثيوبية تشكل العمود الفقري للأمن في الصومال، وإنها تمنع حركة الشباب من السيطرة على مدينة مقديشو([14])، منتقدًا محاولة مقديشيو تقويض ما قدّمته قوات أديس أبابا من جهود في محاربة حركة الشباب ودعم قواتها لاستعادة أمنها واستقرارها، عقب توقيع مذكرة التفاهم([15])، فكانت تصريحات المشير جولا بمثابة تهديد مبطن مفاده أن بقاء الحكومة الصومالية وحفاظ الرئيس الصومالي على مقعده، يستند في حقيقه الأمر إلى ما تُقدّمه القوات الإثيوبية من دعم في إطار بعثة أتميس، كما أن تصريحه يُعدّ محاولة للتقليل من جهود العسكرية الصومالية لمكافحة الإرهاب، كما أنها تحمل رسالة ضمنية إلى الحكومة الصومالية بضرورة إعادة النظر بشكل براجماتي حول علاقاتها مع أديس أبابا في ضوء ما تمر به من وضع أمني حرج، مع الأخذ في الاعتبار بالمصلحة السياسية للحكومة الصومالية.
ومن ثم، حاولت أديس أبابا تحويل ورقة القوات الإثيوبية المنتشرة في مختلف المناطق الصومالية لورقة تهديد وضغط، بدلًا منها آلية لترسيخ الاستقرار والأمن في الصومال وتعزيز التعاون بين البلدين؛ حيث تدرك أديس أبابا أنها تمتلك ثقلاً عسكريًّا في الداخل الصومالي، وأن انسحاب قواتها سيضع مقديشيو أمام معضلة أُخرى في غاية الخطورة تتعلق بمسعى بعض الولايات للحكم الذاتي، مثلما هو الحال في جوبالاند وبونتلاند، وبالتالي دفع الصومال لإعادة النظر في شريكها الإثيوبي والانصياع إلى طموح آبي أحمد في الحصول على منفذ بحرى عبر أرض الصومال([16]).
أما بالنسبة للموقف الصومالي بشأن وضع القوات الإثيوبية، فلقد أفاد مستشار الأمن القومي الصومالي حسين شيخ علي في تصريح له في مارس 2024م، بأن القوات الإثيوبية لن تكون جزءًا من قوات الاتحاد الإفريقي التي يتم تنظيمها مع شركاء دوليين لتأمين المنشآت الرئيسية في الصومال لمدة عام اعتبارًا من يناير 2025م، وذلك ردًّا على مذكرة التفاهم الإثيوبية مع أرض الصومال([17])، وهو ما يضع الصومال أمام حزمة تحديات جديدة:
أولها؛ حالة الفراغ الأمني التى ستنجم عن انسحاب القوات الإثيوبية في ضوء ما تُمثّله من ثِقل، ولو على المستوى الكمي في مناطق انتشارها، عقب بدء المرحلة الثالثة من انسحاب قوات أتميس في يونيو 2024م، والتي تم خلالها تسليم 4 قواعد إلى الجيش الصومالي كان آخرها قاعدة “عبد الله بيرول في 6 يوليو 2024م([18])، على أن يستكمل انسحاب نحو ألفي جندي من القوات بحلول سبتمبر 2024م، بينما سيتبقى نحو 9500 جندي من قوات الاتحاد الإفريقي في البلاد، ومن المحتمل مشاركتهم في قوات بعثة حفظ السلام الجديدة التابعة للاتحاد الإفريقي التي ستنطلق في يناير 2025م([19])، عقب الموافقة على قرار تشكيلها في يونيو 2024م، بعد الانسحاب الكامل لقوات أتميس في ديسمبر 2024م([20])، ناهيك عن حالة الفراغ الأمني التي ستنجم عن عدم مشاركة القوات الإثيوبية في قوات البعثة الإفريقية الجديدة في ضوء ما اكتسبته هذه القوات من خبرة ميدانية للبيئة الصومالية وما تواجهه من تحديات، ستصب في نهاية المطاف في مصلحة حركة الشباب.
وقد أوضح مسؤول في الاتحاد الإفريقي في يونيو 2024م، أن العدد النهائي للقوات في إطار المهمة الجديدة وفقًا لآخر مناقشات قد يصل إلى 12 ألف جندي، وأن مقديشيو تحرص على بقاء قوات كينيا وبوروندي وجيبوتي وأوغندا في المهمة الجديدة الجاري تشكيلها([21]).
أما بالنسبة لثاني التحديات التي ستواجهها الحكومة الصومالية، فهي تتعلق بحكم التوافق السياسي والعسكري بين الولايات الصومالية بشأن مشاركة أو عدم مشاركة القوات الإثيوبية؛ فعلى سبيل المثال، أعرب وزير الأمن في ولاية جنوب غرب الصومال حسن عبد القادر محمد أن القيادات السياسية في الولاية داعمة لوجود القوات الإثيوبية، وأن أي قرار يتعلق بسحب قوات أتميس، وبالتالي عدم مشاركة قوات إثيوبية يتطلب اتفاقًا بين كافة الأطراف المعنية([22]).
أما بالنسبة لثالث التحديات فتتمثل في مدى التنسيق بين الصومال والاتحاد الإفريقي لضمان تدبير الأخير القوات البديلة عن قوات أتميس، والقادرة على سد الثغرة الناجمة عن عدم مشاركة القوات الإثيوبية خلال الوقت المتبقي من هذا العام([23])، وذلك بعدما أفاد دبلوماسيون من الاتحاد الإفريقي مطلعون على خطة تشكيل قوات البعثة الجديدة أن مقديشيو قد طلبت ألا تكون أديس أبابا من بين الدول المساهمة في هذه البعثة([24]).
ثانيًا: معضلات أمنية مركبة… حركة الشباب وجماعات الجريمة المنظّمة العابرة للحدود
إن أحد التحديات الأمنية التي تواجهها الصومال تتمثل في حجم المخاطر/ التهديدات الأمنية التي تواجهها الصومال عبر الحدود الإثيوبية، والتي يأتي على رأسها تنامي نشاط جماعات الجريمة المنظمة العابرة للحدود بكافة أنشطتها المتعددة، بما في ذلك تهريب الأسلحة، بما يهدّد أمن واستقرار البلاد في خضم مرحلة حرجة. فعلى سبيل المثال، أعلنت وزارة الأمن الداخلي الصومالية في 17 يوليو، ضبط أسلحة مُهرَّبة مِن قِبَل تُجار سلاح غير مشروعيين في إثيوبيا في محافظة غلغدود، وأن الميلشيات المسلحة العشائرية قامت باعتراض الأسلحة عقب استيلاء القوات الأمنية عليها([25])، وهو ما سيسفر عنه تحويل الصومال إلى سوق رائج لتجارة الأسلحة غير المشروعة، وهو ما يمنح الجماعات المسلحة مصادر متجددة للتسليح، وبيئة مثالية لتنامي الاضطرابات الأمنية، بما يُشتّت القوات الصومالية في حربها مع حركة الشباب.
ولقد أوضح مؤشر الجريمة المنظمة العالمي لعام 2023م، أن الصومال حصلت على الدرجة (9.0) من إجمالي 10 في مجال تهريب الأسلحة في شرق إفريقيا، لا سيما خلال الفترة من (2021- 2023م)، نتيجة زيادة معدل التدفق غير المشروع للأسلحة بكافة أنماطها من اليمن إلى الصومال، والتي يتم تهريبها إلى داخل الأراضي الصومالية إما عبر حركة الشباب، أو ميلشيات العشائر الصومالية أو شبكات التهريب العابرة للحدود، والتي تحول على إثرها الصومال إلى جزء من شبكة عابرة للحدود من سوق الاتجار غير المشروع بكافة أنشطته([26])، وما لذلك من دور في إثارة النزاعات بين العشائر الصومالية، والتي زادت في البلاد خلال الفترة الأخيرة، كالنزاع المندلع بين عشيرة “سعد” وعشيرة “يلاكسا” من ولايتي “بونتلاند” و”غلمدغ” في أواخر يونيو 2024م؛ نتيجة الخلاف حول ملكية أراضي، مما أسفر عن مقتل وإصابة العديد في إقليم مودوغ، إلى أن نجحت جهود بذلها علماء دين ولجان من إدارتي غلمدغ وبونتلاند في وقف النزاع وتسوية الخلافات([27]).
بل إن إثارة النزاعات العشائرية تُعدّ أحد أبعاد إستراتيجية حركة الشباب لتشتيت القوات الصومالية بعيدًا عن خططها العسكرية للقضاء على الإرهاب، واستنزافها في معارك جانبية، إضافة إلى تفكيك الجبهة القبائلية الداعمة للجهود الصومالية ورفع الظهير الشعبي عنها، بما يصبّ في نهاية المطاف نحو تقويض الإستراتيجية الصومالية لمكافحة الإرهاب؛ حيث إن الرفض القبلي لحركة الشباب فكريًّا ومجتمعيًّا الآن يُعدّ أحد العوائق التي تحول بين الحركة وبين ترسيخ نفوذها في الصومال، لا سيما أن الممارسات العنيفة لحركة الشباب بحق المدنيين الصوماليين، تسهم في خلق حالة ثورية في نفوس العشائر بضرورة حمل السلاح والدفاع عن أنفسهم ضد حركة الشباب في إطار ما يُعرف باسم “معويسلي” أو مقاتلي العشائر([28]).
وعلى الرغم من أن ثورة العشائر ضد حركة الشباب تعود لعام 2014م([29])، إلا أنه يُمكن القول بأن انتفاضة عشيرة حوادلي إحدى فروع قبيلة الهوية الكبرى، في مدينة بلدوين في إقليم هيران في ولاية هرشبيلي عقب مقتل نحو 20 شخصًا، معظمهم من النساء والأطفال في مايو 2022م، وحملهم السلاح لطرد حركة الشباب من مناطقهم، يُعدّ نقطة تحوُّل فيما يُمكن وصفه بالمقاومة العشائرية لحركة الشباب، انطلاقًا من تزامنها مع تولي حسن شيخ محمود رئاسة الصومال، وإطلاقه الإستراتيجية الشاملة لمكافحة حركة الشباب، وهو ما منح المقاومة العشائرية ظهيرًا سُلطويًّا، كان بمثابة شراكة فعَّالة لمحاربة الإرهاب.
وبالفعل، تمكنت هذة الشراكة الاستثنائية من تحرير نحو 70 مدينة وبلدة خلال عام واحد من القتال، وهو ما كان حافزًا لكافة العشائر في مختلف مناطق الصومال للمشاركة في هذه الحرب. فعلى سبيل المثال، جهَّزت ولاية غالمودغ وحدها نحو أكثر من ١٠ آلاف فرد من أبنائها لقتال حركة الشباب في الولايات الوسطى، وفق تصريحات قائد قوات القبائل في غالمودغ “عبد المنان محمد عثمان”([30])، وهو ما يُهدّد حركة الشباب بفقدان أحد أوراقها الرئيسية في إستراتيجيتها المضادة لحرب الحكومة الصومالية ضدها، فكان مخرجها الرئيسي لتفعيل هذه الورقة مرة أُخرى هو أن تلجأ حركة الشباب لإثارة النزاعات بين العشائر مرة أخرى، كلجوء حركة الشباب لتسليح العشائر الصغيرة لتعزيز نفوذها في مواجهة العشائر الكبيرة، إلى جانب إثارة الغيرة والتنافس بين العشائر، وهي الآلية التي اعتمدتها حركة الشباب في التعامل مع انتفاضة حوادلي ضد حركة الشباب بإشاعة توظيف العشيرة حربها على عناصر الحركة من أجل توسيع نفوذها على حساب باقي العشائر، بتوسيع أراضيها([31]).
ومن الجدير بالذكر، أنه منذ يونيو 2023م وحتى مايو 2024م، تم تسجيل نحو 6 اشتباكات بين مسلحي قبيلتي حوادلي وأبغال في هيران وشبيلي الوسطى([32]).
ومِن ثَم، فإن توتر العلاقات بين مقديشيو وأديس أبابا، في خضمّ الحرب الصومالية متعددة المراحل على حركة الشباب، يضع مقديشيو أمام معضلة إضافية؛ باعتبار أن إثيوبيا أبرز البلدان المساهمة بقوات في الصومال، والتي تتمثل في مدى قدرة الحكومة الصومالية على الحفاظ على مكاسبها الميدانية في حربها على حركة الشباب، لا سيما مع الانسحاب التدريجي لقوات أتميس حتى اكتمال الانسحاب بشكل كامل في ديسمبر 2024م.
فعلى الرغم من أن الحرب الصومالية على حركة الشباب المندلعة في أغسطس 2022م، تمكنت من إضعاف قبضة حركة الشباب، وحققت بالفعل خلال مرحلتها الأولى (أغسطس 2022- أغسطس 2023م) نجاحًا ميدانيًّا بارزًا تُوِّج بطرد عناصر حركة الشباب من مناطق خضعت لسيطرتهم لأكثر من عقد؛ إلا أن هناك مخاوف وقلقًا بشأن مدى قدرة الحكومة الصومالية على الحفاظ على مكاسبها الميدانية في ضوء ما يُمكن وصفه بالشدّ والجذب بين الحكومة الصومالية وحركة الشباب حول مناطق السيطرة والنفوذ([33]).
بل إن الحرب الصومالية أسهمت في زيادة عنف حركة الشباب بنسبة 41% خلال العام 2022م، كما بدأت بعض عناصر الحركة في توسيع وجودها في شمال الصومال([34]) بحثًا عن مناطق آمنة لإعادة تجميع صفوفهم وهيكلة إستراتيجية مقاومتهم، إلى جانب تشتيت القوات الصومالية التي تركز ضرباتها على معاقل الحركة في وسط وجنوب الصومال.
ثالثًا: ورقة ضغط أُخرى… اللاجئون الصوماليين في إثيوبيا
لطالما تُوظّف أديس أبابا اللاجئين الصوماليين المتمركزين في إثيوبيا كأحد أوراق الضغط المهمة على الحكومة الصومالية، لا سيما في ضوء إدراك إثيوبيا لحجم التحديات الداخلية مركبة الأبعاد التي تواجهها مقديشيو، والتي تحول بينها وبين استقبال مواطنيها اللاجئين في دول الجوار مرة أخرى، وبالتالي يُعدّ سيناريو طرد اللاجئين الصوماليين ورقة تلوّح بها إثيوبيا للضغط على الصومال؛ حيث تستضيف إثيوبيا حتى30 يونيو 2024م نحو (216,721) لاجئًا صوماليًّا في مخيمات اللاجئين الخمسة في إثيوبيا([35]).
جدول (1): إجمالي عدد اللاجئين الصوماليين في إثيوبيا
رابعًا: ارتكان الصومال على شراكاتها الخارجية في مجال تعزيز قدراتها الأمنية
إن أحد المعضلات الرئيسية التي تواجهها الصومال تتمثل في أن استقرار نظامها السياسي والأمني والعسكري يتوقف على نسجها شبكة متنوعة من العلاقات والاتفاقيات مع عدد من القوى الدولية والإقليمية، التي يرتبط استمرار دعمها السياسي والأمني والعسكري لمقديشيو على الأجندة السياسية الصومالية، ومدى اتساقها مع مصالح شراكاتها الخارجية، وبالتالي يظل الاستقرار السياسي والأمني والعسكري للصومال مرتهنًا بمدى قدرتها على توافق مصالحها مع مصالح شركائها الخارجيين، وهو ما ينعكس بشكل بارز في نموذج الشراكة والتعاون الصومالي الإثيوبي، لا سيما على المستوى العسكري والأمني، وكيف أن توتر العلاقات بين البلدين قد يُهدِّد استقرار الدولة سياسيًّا وأمنيًّا، وهو ما يُفاقم من حجم التحديات التي تواجهها الصومال.
وعلى غرار الشراكة الإثيوبية الصومالية، تُعدّ الشراكة الإماراتية الصومالية نموذجًا جديدًا لأحد التحديات الأمنية والسياسية التي تواجهها مقديشيو؛ حيث خفَّضت الإمارات خلال العام 2024م حجم التمويل الذي تُقدّمه إلى الجيش الصومالي، والذي يعود على الأغلب إلى زيادة مستوى التقارب والشراكة الصومالية مع كلٍّ من تركيا وقطر في الفترة الأخيرة، لا سيما عقب توقيع أنقرة اتفاقية دفاعية واقتصادية مع مقديشيو خلال زيارة وزير الدفاع الصومالي لأنقرة في فبراير 2024م، تُلزم الأولى بزيادة دعمها العسكري للجيش الصومالي، ودعم البحرية الصومالية في مراقبة ساحلها([36])، والتي كان أحدث نتائجها إعلان وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي “ألب أرسلان بيرقدار” في 9 يوليو عن اعتزام بلاده التنقيب عن النفط والغاز في ثلاث مناطق قبالة الساحل الصومالي، وأنه من المقرر أن تتوجه سفينة “الريس عروج” التركية للأبحاث إلى مقديشيو مع سفن الدعم نهاية سبتمبر 2024م([37])، وهو بالطبع أثار غيرة الإمارات.
علاوة على ذلك، تواصل قطر تقديم دعمها المالي والعسكري للحكومة الصومالية، في محاولة منها لاستعادة نفوذها مرة أُخرى في الصومال عقب تراجعه مع وصول الرئيس حسن شيخ محمود إلى السلطة بدعم إماراتي، وهو ما حوَّل الساحة الصومالية لساحة تجذبات وتنافس بين القوى الإقليمية وكذلك الدولية.
صفوة القول: إن مرور العلاقات الخارجية للدول بمراحل من الصعود والهبوط، يُعدّ أحد السمات المعهودة في دراسات العلاقات الخارجية، لكنّ ما تُسجّله العلاقات الصومالية الإثيوبية من توتر، وضع مقديشيو أمام خريطة من المعضلات الناجمة عن الانخراط المتزايد للنفوذ الإثيوبي في الصومال على مدار سنوات، وهو ما يَفرض على الصومال التفكير في حزمة من الخيارات العملية لإعادة تنظيم علاقاتها مع إثيوبيا بشكل لا يُهدّد أمنها القومي في حال توتر العلاقات بين البلدين.
………………………………….
[1] – ماذا نعرف عن أرض الصومال ومذكرة التفاهم بينها وبين إثيوبيا؟، بي بي سي عربي، 9 يناير 2024م:
https://www.bbc.com/arabic/articles/cq51p9dgx4ro
[2] – أيمن شبانة، ما الذي تريده إثيوبيا من الصومال؟، مركز فاروس للاستشارات والدراسات الإستراتيجية، 26 أبريل 2020م:
[3] – المرجع السابق.
[4] – صراع الموانئ في القرن الإفريقي: مآلات الاتفاق بين إثيوبيا وأرض الصومال على “ميناء بربرة”، مركز إيجبشن انتربرايز للسياسات والدراسات الاستراتيجية، 8 مارس 2024م: https://2u.pw/IrWuWDkq
[5] – الصومال تلغي اتفاقية دبي لإدارة ميناء بربرة، الجزيرة، 2 مارس 2018م، https://2u.pw/8G9ARHAS
[6] – برلمان الصومال يلغي اتفاقية بشأن ميناء بربرة، سويس انفو، 13 مارس 2018م، https://2u.pw/3Hm4EDBg
[7] – الصومال يقر قانونًا يلغي اتفاق إثيوبيا وإقليم أرض الصومال حول ميناء، العربية، 7 يناير 2024م: https://2u.pw/3Jec18Qy
[8] -We are ready for a war’: Somalia threatens conflict with Ethiopia over breakaway region, The Guardian, 13 Jan 2024 https://www.theguardian.com/world/2024/jan/13/we-are-ready-for-a-war-somalia-threatens-conflict-with-ethiopia-over-breakaway-region
[9] – إغلاق قنصليتين لإثيوبيا… الصومال توافق على اتفاقية دفاع مع مصر، العربية، 21 يوليو 2024م: ttps://2u.pw/YEqvKCGF
[10] -We are ready for a war’: Somalia threatens conflict with Ethiopia over breakaway region, OP.CIT.
[11] – الصومال يتهم القوات الإثيوبية بالتوغل داخل أراضيه، روسيا اليوم، 25 يونيو 2024م: https://2u.pw/GYqAye2G
[12] -Harun Maruf, Somalia wants all Ethiopian troops to leave by December, voa news ,3 June 2024
https://www.voanews.com/a/somalia-wants-all-ethiopian-troops-to-leave-by-december/7641135.html
[13] -Ashenafi Endale, Post-ATMIS Somalia and the fate of Ethiopian troops, the reporter Ethiopia, 16 March 2024. https://www.thereporterethiopia.com/39261/
[14] -Somalia: Ethiopian Troops Control 60 Percent of Somalia, Says General Birhanu Jula, All Africa, 31 April 2024. https://allafrica.com/stories/202403110058.html
[15] -Ashenafi Endale, OP.CIT.
[16] Imad K. Harb, The Dangerous Chipping Away of Somalia’s Sovereignty, Arab Center Washington DC (ACW), Feb 16, 2024
https://arabcenterdc.org/resource/the-dangerous-chipping-away-of-somalias-sovereignty/
[17] Harun Maruf, OP.CIT.
[18] – البعثة الإفريقية “أتميس” تواصل الانسحاب من الصومال، اليوم السابع، 6 يوليو 2024م: https://2u.pw/y4McMa7p
[19] Harun Maruf, OP.CIT.
[20] – بعد أتميس.. الاتحاد الإفريقي يقرر إنشاء بعثة جديدة لحفظ السلام في الصومال، صدى البلد، 22 يونيو 2024م:
[21] -Harun Maruf, OP.CIT.
[22] –Idem
[23] -Idem
[24] -Somalia threatens to expel Ethiopian troops unless Somaliland port deal scrapped,The East African, 3 JUNE 2024 https://www.theeastafrican.co.ke/tea/news/east-africa/somalia-expel-ethiopian-troops-somaliland-port-deal-scrapped-4645358
[25] – وزارة الأمن الصومالية تعلن عن إحباط عملية تهريب للسلاح من إثيوبيا، الصومال الجديد، 17 يوليو 2024م:
[26] – مجدي محمد محمود، قراءة تحليلية لموقع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء في مؤشر الجريمة المنظَّمة العالمي لعام 2023م، قراءات إفريقية، 31 ديسمبر 2023م. https://2u.pw/JtFPa8Tu
[27] – رئيس ولاية غلمدغ يتهم سياسيين بالتحريض على القتال بين العشائر، الصومال الجديد، 3 يوليو 2024م:
[28] – “معويسلي”… نجاح عشائري في دحر الإرهاب بالصومال يُثير مخاوف من تكرار تجربة “الحشد الشعبي”، رصيف 22، 5 مارس 2024م: https://2u.pw/VDvYNhvu
[29] – الصومال.. لهذه الأسباب قاتلت “معويسلي” حركة الشباب، سكاي نيوز عربية، 18 مارس 2024م: https://2u.pw/tLhfplvu
[30] – قائد قوات القبائل الصومالية: قررنا الانضمام للحرب ضد جماعة الشباب لهذه الأسباب، أخبار الآن، 15 يناير 2024م:
[31] – “فتنة العشائر”.. سلاح “حركة الشباب” لمواجهة تقدم جيش الصومال، سكاي نيوز عربية، 12 يونيو 2024م:
[32] -Somalia: Renewed counter-insurgency operations expected as al-Shabaab regroups, The Armed Conflict Location & Event Data Project , 31 May 2024. https://acleddata.com/2024/05/31/somalia-situation-update-may-2024-renewed-counter-insurgency-operations-expected-as-al-shabaab-regroups/
[33] -Conflict With Al-Shabaab in Somalia, Council for foreign Relations, 12 June 2024 https://www.cfr.org/global-conflict-tracker/conflict/al-shabab-somalia
[34] –Idem
[35] -Refugees from Somalia, UNHCR , 30 June 2024. https://data.unhcr.org/en/situations/horn/location/161
[36] – عيدو ليفي، الدعم العسكري الإماراتي يحدث فرقًا في الصومال، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، 18 مارس 2024م:
https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/aldm-alskry-alamaraty-yhdth-frqana-fy-alswmal
[37] – تركيا تستعد لإرسال قوات بحرية للصومال بعد الموافقة على التنقيب عن النفط والغاز هناك، روسيا اليوم، 9 يوليو 2024م.