متوكل قادش
باحث وأكاديمي سوداني – جامعة البحر الأحمر – الخرطوم
تُعد كينيا من الدول الإفريقية المعروفة بتنوُّعها الثقافي الكبير وتركيبتها الإثنية المعقَّدة. وقد شهدت في كثير من الأحيان، توترات سياسية واجتماعية على أُسُس إثنية.
تاريخيًّا، لعبت الانتماءات الإثنية دورًا كبيرًا في تشكيل الولاءات السياسية، وضبط اتجاهات المعارضة، والتأثير في مجريات الأحداث الوطنية.
ومع ذلك، فإن الاحتجاجات التي اندلعت في الثامن عشر من يونيو 2024م إثر طرح حكومة الرئيس وليم روتو مشروع قانون المالية العام، حملت مؤشرات لتحوُّل كبير من الحشد على أساس الإثنية إلى حركة أكثر توحدًا، وتقوم على المواطنة والحقوق السياسية والمدنية ([1]).
أولاً: العوامل التاريخية والاجتماعية لتشكيل الهويات الإثنية في كينيا
لقد كانت الإثنية منذ فترة طويلة سمة من سمات السياسة الكينية. فمنذ الحقبة الاستعمارية، تم التلاعب بالاختلافات الإثنية وتضخيم التمايزات مِن قِبَل الاستعمار البريطاني لتسهيل السيطرة على المجموعات المنقسمة على نفسها، وهي إستراتيجية استمرت في فترة ما بعد الاستقلال. واقع الأمر، عادةً ما كان يحشد القادة السياسيون الدعم على أساس الهوية الإثنية، مما أدّى إلى مشهد سياسي مجزَّأ؛ حيث أكّدت أعمال العنف الشهيرة بعد انتخابات 2007م المثيرة للجدل، والتي أسفرت عن خسائر في الأرواح وتشريد العديد، على التقاطع الخطير بين الإثنية والسياسة في كينيا([2]).
شهدت حقبتي الرئيس جومو كينياتا وسلفه دانيال أرب موي الاستغلال الأكبر للإثنية في أغراض سياسية واقتصادية. فقد استخدم كينياتا وموي الإثنية عن طريق تكوين تحالفات سياسية مع مجموعات إثنية معينة لتعزيز قوتهما وضمان البقاء في السلطة. وقد تجسَّد ذلك في تركيز السلطة والمناصب الحكومية والمناصب الحكومية المهمة بشكل كبير بين أفراد المجموعات الإثنية التي كان الرئيسان ينتميان إليها. وأدى الحضور القوي للإثنية في فترة تعدُّد الأحزاب إلى تراجع أهمية البرنامج السياسي للحزب؛ حيث تجلَّى ذلك بوضوح في عمليات انتخاب السياسيين وفي سلوك الناخبين([3]).
وعلى الرغم من أن كينيا قد شهدت نموًّا اقتصاديًّا ملحوظًا في السنوات الأخيرة؛ إلا أن هذا النمو لم يؤدِّ إلى القضاء على الانقسامات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع. وقد زادت وتيرة التحول الليبرالي في الاقتصاد من تفاوت الدخل بين الطبقات الاجتماعية والإثنية، وأدَّى إلى تعميق الانقسامات في البلاد. وعلى الرغم من الاستثمارات الأجنبية والنمو الاقتصادي، إلا أن هذه العمليات لم تحقق التوزيع العادل للثروة والفرص الاقتصادية. بالتالي، يظل التحول الليبرالي هو السمة الرئيسية للاقتصاد الكيني، ولكن مع تباينات وانقسامات إثنية عميقة تؤثر سلبًا على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد. ومع ذلك، فإن ظهور ديناميات اجتماعية وسياسية جديدة بدأ في تحدي هذا الوضع الذي استمر لعقود ([4]).
ثانيًا: المتحول في احتجاجات 18 يونيو
لقد أظهرت الاحتجاجات الأخيرة في كينيا تحولاً ملحوظًا من الشكاوى ومشاعر الظلم المتمحورة حول الإثنية إلى المخاوف الوطنية الأوسع والأكثر شمولاً. فمن ناحية، يبدو أن الفجوة الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة قد أثَّرت على جميع الكينيين، بغضّ النظر عن الإثنية. لقد خلقت الصراع لتلبية الاحتياجات الأساسية شعورًا مشتركًا بالإلحاح والاستياء من الوضع الراهن. كما أبرزت الاحتجاجات بشكل متزايد قضايا مثل ارتفاع معدلات البطالة والخدمات العامة غير الكافية والحاجة إلى الإصلاحات الاقتصادية([5]).
من ناحية أخرى، ظلت ظاهرة الفساد سرطانًا مستشريًا في جسد كينيا؛ حيث تفقد الحكومة مبالغ كبيرة من الميزانية الوطنية بسببها. وكانت المناداة بمحاربة الفساد ومساءلة المسؤولين الكبار من أبرز مطالب المحتجين في الحراك الأخير؛ إذ ربما أدرك المواطنون أخيرًا أن الفساد الذي يمارسه أبرز قادة النظام الحاكم يقوّض التنمية والازدهار في البلاد بأكملها. والحال أنه على الرغم من ارتفاع تكاليف المعيشة وتردي الأوضاع الاقتصادية، إلا أن القريبين من دوائر السلطة قد احتفظوا بنمط حياتهم المترفة وكل أشكال البذخ العلني. وهو ما أثار التساؤلات حول مصادر ثرواتهم وحجمها، وزاد من السخط وسط الشباب الحانق على سياسات الرئيس روتو ومعاونيه([6]).
بالإضافة إلى ذلك، وفرت وسائل التواصل الاجتماعي منصة للمواطنين للتعبير عن مخاوفهم والتعبئة دون قيود الانتماءات الإثنية التقليدية. كمثال، لعبت الوسومات “الهاشتاقات” والحملات التي تم تصميم غالبيتها عبر الإنترنت، دورًا محوريًّا في تنظيم الاحتجاجات الأخيرة ونشر الوعي حول القضايا التي تؤثر على جميع المواطنين الكينيين. ويسهم الجيل الجديد من الكينيين، الذين نشأوا في عصر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، بشكل كبير في هذا التحول. فقد قامت مجموعات شبابية بإطلاق حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسم أو هاشتاغ #tutanethursday، ويعني “أراك يوم الخميس” بمزيج من اللغة السواحيلية والإنجليزية. والواضح، أن هذه المنصات لم توفر فقط مساحات آمنة للتعبير عن إحباطاتهم، ولكنها أيضًا ساعدت في تنظيم حركاتهم وتوحيد أصواتهم. وواقع الأمر، يتميز هذا الجيل بارتباطاته العميقة بالقضايا العالمية والمحلية المتعلقة بالعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وهو أقل تأثرًا بالانقسامات الإثنية التي سادت الأجيال السابقة([7]).
هناك عامل آخر مهم، يتمثل في تطور ونضوج المجتمع المدني النابض بالحياة في كينيا، في ظل وجود العديد من المنظمات التي تدافع عن حقوق الإنسان والحكم الرشيد والعدالة الاجتماعية. وفور انطلاق شرارة المظاهرات الأخيرة، اتهم الرئيس روتو بعض هذه المنظمات بتلقي تمويل من جهات خارجية بغرض زعزعة الأوضاع في البلاد. وكانت هذه المجموعات أساسية في صياغة القضايا الوطنية بطريقة تتجاوز الانقسامات الإثنية، مما يعزّز الشعور بالمسؤولية الجماعية والمواطنة([8]).
ثالثًا: آثار الإثنية على الديمقراطية والهوية الوطنية
ربما تكون مؤشرات التحول من الإثنية إلى المواطنة في الاحتجاجات الكينية ذات أثر كبير في ترسيخ التجربة الديمقراطية الكينية. فمن خلال إعطاء الأولوية للقضايا الوطنية على الانقسامات الإثنية، يعزز الكينيون ثقافة سياسية أكثر شمولاً وذات درجة عالية من التوافق الاجتماعي والسياسي. كما يمكن لهذا التحول أن يعزز من قوة المؤسسات والعمليات الديمقراطية؛ بحيث يدشن لمرحلة جديدة تشهد عملية إخضاع القادة لمساءلة ورقابة دستورية أوسع بدلًا من المصالح الإثنية الضيقة. كما لدى الفاعلين الرئيسيين في هذا الحراك -الذي يعتمد على المواطنة- القدرة على تعزيز الهوية الوطنية في كينيا. فمن خلال التركيز على التحديات والطموحات المشتركة، يصنع الكينيون شعورًا بالوحدة يتجاوز الحدود الإثنية. هذا الشعور بالهوية الجماعية ضروري لبناء مجتمع متماسك؛ حيث يشعر الأفراد بروابط مشتركة ومسؤولية تجاه بعضهم البعض.
رابعًا: التحديات
لكن، على الرغم من الاتجاهات الإيجابية التي تم ذكرها، لا تزال التحديات قائمة. إذ لا يمكن محو الولاءات الإثنية عميقة الجذور والتناقضات الاجتماعية في بلد مثل كينيا بسهولة. أكثر من ذلك، ما يزال القادة السياسيون مستمرين في توظيف الانقسامات الإثنية لتحقيق مصالحهم السياسية، ما يعني محاولة إبقاء الوضع على ما هو عليه. سيستدعي ضمان أن يؤدي التحول نحو الاحتجاجات المعتمدة على المواطنة إلى تغيير سياسي واجتماعي ملموس جهودًا مستمرة ويقظة من القوى المدنية والحركات الاجتماعية. بالإضافة إلى كل ذلك، يعتمد نجاح هذا التحول على قدرة المجتمع المدني والقادة السياسيين والمؤسسات على معالجة الأسباب الجذرية للسخط. ويجب تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية والتدابير المناهضة للفساد وممارسات الحكم الشامل لبناء الثقة وضمان توزيع فوائد التنمية بشكل عادل بالنسبة للكينيين.
الخاتمة:
يشكّل التحول في الاحتجاجات الكينية من الإثنية إلى المواطنة تطورًا مهمًّا في المشهد السياسي للبلاد. من خلال التجمهر حول القضايا الوطنية المشتركة، يتحدى الكينيون الانقسامات الإثنية التقليدية التي طالما شكَّلت مجتمعهم. والحال أن هذا التحول قادر على تعزيز الديمقراطية، وتعزيز التماسك الاجتماعي، وبناء هوية وطنية أكثر شمولية. ومع ذلك، فإن تحقيق هذه الإمكانيات سيتطلب التزامًا مستمرًّا بمعالجة التفاوتات الاقتصادية، ومحاربة الفساد، وتعزيز الحكم الشامل. بينما تتنقل كينيا في هذا المفترق الحرج، يقدم التضامن الذي ظهر في الاحتجاجات الأخيرة رؤيةً مليئةً بالأمل للمستقبل؛ حيث تكون المواطنة، بدلًا من الإثنية، هي التي تُحدّد الطموحات الجماعية للأمة.
……………………………….
1- في 5 أسئلة.. لماذا تستمر احتجاجات كينيا رغم التراجع عن زيادة الضرائب؟، الجزيرة نت، 27/6/2024، شُوهد في 6/7/2024، في www.aljazeera.net.
[2] -Kisaka, M. O., & Nyadera I. N. (2019). Ethnicity and politics in Kenya’s turbulent path to democracy and development. Sosyal Siyaset Konferansları Dergisi, 76, 159-180. https://doi.org/10.26650/jspc.2019.76.0002
[3] -Mati, J.M. (2019). Ethnicity and Politics in Kenya. In: Ratuva, S. (eds) The Palgrave Handbook of Ethnicity. Palgrave Macmillan, Singapore. https://doi.org/10.1007/978-
[4]– Ibid.
[5] – مصدر سابق.
[6]– كيف فجّر بذخ وثراء حلفاء الرئيس روتو الغضب الشعبي بكينيا؟، الجزيرة نت، 5/7/2024، شوهد في 6/7/2024، في www.aljazeera.net.
[7]– الرئيس الكيني يسحب قانون “زيادة الضريبة” عقب احتجاجات دامية، بي بي سي عربي، 26/6/2024، شوهد في 6/7/2024، في //www.bbc.com.
[8]– فورد تنفي تمويل الحراك.. قتيل في نيروبي مع استمرار الاحتجاجات، العربي، 6/7/2024، شوهد في 6/7/2024، في //www.alaraby.com.