لا يزال الأفارقة -وبعض المجتمعات الآسيوية– يعبِّرون عن غضبهم بعد موجةٍ جديدة من الهجمات في الأسبوع الماضي؛ نتيجة لكراهية الأجانب في جنوب إفريقيا؛ حيث أكَّد المسؤولون مقتل 12 شخصًا واعتقال 639 شخصًا؛ وإحراق عشرات المتاجر المملوكة للأجانب ونهب ممتلكاتهم. إضافة إلى إصابة أعداد كبيرة بجروح ما أجبر الشرطة على استخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي لتفريق مجموعات من الجنوب إفريقيين المسلحين بالسواطير والعصي وهم يردّدون شعارات معادية للمهاجرين.
ووفقًا لتصريحات رؤساء الاتحادات والمجتمعات الأجنبية في جنوب إفريقيا؛ فإنّ أسئلتهم منذ السنوات القليلة الماضية –لكثرة الأحداث المتعلقة بنهب ممتلكات الأجانب واستهدافهم في مختلف المدن– هي: متى سيكون الاندلاع القادم؟ ماذا ستفعل الحكومة لردعها وحمايتنا؟ هل سنكون نحن وعائلاتنا ومنازلنا آمنين كرجال أعمال في البلاد؟
“كل يوم نعيش (هنا) في خوف”؛ هكذا قال “أمير شيخ” أحد زعماء المجتمع الصومالي بجنوب إفريقيا الذي جاء إلى البلاد منذ 16 عامًا.
ويعتبر بعض المهاجرين الأجانب هذه الهجمات الأخيرة مخيفة للغاية؛ لأنّ المهاجمين المسلحين يأتونهم كمجموعة؛ أو كما وصفها البنغالي “صلاح الدين عبد الحليم” أحد ضحايا الهجمات الأخيرة من أصحاب المتاجر البنغالية، والذي يمتلك “سوبر ماركت” صغير في “سويتو”: “اعتدْنا على سماع الأخبار عن حادثة هنا أو هناك، ولكنها الآن أصبحت في كل وقت.. نحن مستهدَفون ولا أحد مستعدّ لحمايتنا”.
وقد وجّه رئيس جنوب إفريقيا “سيريل رامافوسا” خطابًا متلفزًا لشعبه في الأسبوع الماضي، دعا فيه إلى إنهاء الهجمات، وطالب المواطنين بالهدوء، وتذكّر الدور الذي لعبه الآخرون وخاصة الأفارقة في معركتهم منذ عقود ضد نظام الفصل العنصري.
الإكزينوفوبيا أم الأفروفوبيا؟
يحتوي تاريخ جنوب إفريقيا قبل عام 1994م على حالات وأحداث متعلقة بكره الأجانب (Xenophobia)؛ حيث واجه المهاجرون من بلدان أخرى التمييز والعنف في البلاد. وقد زادت هذه الحالات بعد نهاية حكم الفصل العنصري؛ ففي عام 2008م قُتِلَ أكثر من 60 شخصًا؛ بينما قُتِلَ سبعة أشخاص في عام 2015م خلال هجمات عنيفة أخرى بسبب كراهية الأجانب في جوهانسبرغ وديربان.
وقد نسب الباحثون أسباب كراهية الأجانب في جنوب إفريقيا إلى عوامل سياسية؛ وارتفاع مستويات الجريمة العنيفة، زيادة معدلات البطالة، وعدم المساواة بين أفراد المجتمع والشرطة غير المنظّمة. إلا أنّ هناك من الكُتّاب من أطلقوا على كل الأحداث مصطلح “الخوف من الأفارقة”، أو “كره ما هو إفريقي” (Afrophobia). بل ونالت الهجمات الأخيرة في الأسبوع الماضي نصيبها من هذه التسمية.
وإذ قد يكون وصف بعض هذه الأحداث بـ “الأفروفوبيا” في محلّه؛ إلا أنه في حالة الهجمات الأخيرة يوحي بأنّ المستهدفين هم المهاجرون الأفارقة فقط وليس غيرهم؛ ما قد يعني تجاهل حقيقة أن مهاجرين آخرين -من بنغلاديش وباكستان ودول عربية- ضمن المجموعة المستهدَفة وأنهم تضرّروا أيضًا منها.
ولا ينافي ما سبق وجود نظرة ازدرائية في جنوب إفريقيا ضدّ الأفارقة من بلدان أخرى أو انتشار أفكار تنظر إليهم على أنهم جاؤوا إلى جنوب إفريقيا للاستفادة من مواردها وشَغل وسدّ الفرص المتاحة لسكانها المحليين.
“الشيء المضحك هو أن الإغريق والبلغار وغيرهم يأتون إلى جنوب إفريقيا، وبفضل بشرتهم البيضاء يُنْظَر إليهم على أنهم مُساهمون. وتصوُّر الجنوب إفريقيين في ذلك هو أنهم سيفيدون (المجتمع والاقتصاد)، على عكس الأجنبي الأسود غير الجنوب إفريقي”؛ هكذا قال البروفيسور “روثني تشاكا” – مدير كلية العلوم الإنسانية بجامعة جنوب إفريقيا.
وأوضح “تشاكا” أنّ الأفروفوبيا في جنوب إفريقيا أصبحت اليوم مظهراً من مظاهر انعدام الثقة والحسد تجاه الأجانب الأفارقة؛ إذ يُنظر إليهم على أنهم تهديد للسكان الأصليين؛ لأن هولاء الأفارقة قادرون على “التزحلق في المجتمع الأسود دون اكتشافهم، وبالتالي يمكنهم سرقة وظائف جنوب إفريقيا والتزوّج من نسائها. بالنسبة لأولئك السكان المحليين الذين خاب أملهم من مشروع تحرير جنوب إفريقيا، فإنّ انعدام الثقة هذا يبدو كمبرّر لمعاداتهم للأفارقة الآخرين من بلدان أخرى”.
“جريمة” منظّمة:
من الملاحظ في كل البيانات الصادرة من حكومة جنوب إفريقيا تفادي وصف الهجمات الأخيرة بـ”كره الأجانب”؛ حيث كان موقفها أنها “جريمة” منظمة من مواطنين جنوب إفريقيين، وليست بسبب كرههم للأجانب. كما أنّ الأوراق الرسمية حول الحادثة -وفق تقارير صحف جنوب إفريقيا- تُثبت الدور الذي لعبته الأخبار المزيفة على مواقع التواصل الاجتماعي في إشعال العنف.
فقد اندلعت أعمال العنف بعد أن قُتِلَ سائق سيارة أجرة جنوب إفريقي مِن قِبَل أحد تجار المخدرات في العاصمة بريتوريا. وقد أشارت أولى التغريدات عن الحدث بأنّ القاتل مهاجر نيجيريّ. وهكذا بدأ نهب عشرات المتاجر المملوكة للأجانب وحرقها؛ وامتدت الهجمات إلى جوهانسبرغ، المركز الاقتصادي في جنوب إفريقيا.
غير أن اعترافات سكان المدينة في أحد الفيديوهات نفَتْ كون قاتل سائق الأجرة مهاجرًا نيجيريًّا؛ وأظهرت وثيقة من الشرطة أن هناك تحذيرات حول الهجمات تجاهلتْها الحكومة وسلطات إنفاذ القانون؛ كاحتجاج النيجيريين أمام سفارتهم طلبًا للحماية وتوفير الأمن.
وشمل التخطيط للهجمات نشر تغريدات ومنشورات كاذبة على وسائل التواصل الاجتماعي تدعي أن المهاجرين متورطون في تجارة غير مشروعة؛ وأنهم حصلوا على مزايا معينة ووظائف من الحكومة بدلاً من السكان المحليين، وأن المتاجر الصغيرة المملوكة للمهاجرين قد هيمنت على المستوطنات غير الرسمية.
واتهم ممثلو الجاليات المهاجرة في جنوب إفريقيا كبار المسؤولين في حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” الحاكم وسياسيين آخرين باستخدام لغة تُعبّر عن كُرْه الأجانب وتُشَجِّع الهجوم عليهم.
وعلى سبيل المثال: صرّح “هيرمان مشابا” رئيس بلدية جوهانسبرج بأن “الأجانب -سواء كانوا شرعيين أم غير شرعيين- ليسوا ضمن مسؤولية المدينة”، وأن “مدينة جوهانسبرج لن توفّر سكنًا بشكل حصري إلا لمواطني جنوب إفريقيا”.
ودعا بيان صادر عن حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” إلى وضع حدّ للهجمات على المهاجرين؛ ولكنه أيضًا نادى إلى تشديد الرقابة على الحدود، مضيفًا أن “المواطنين الملتزمين بالقانون سئموا بشكل مفهوم من أولئك الذين يكسرون القواعد الأخلاقية في مجتمعنا من خلال تحويل أطفالنا إلى البغايا والمدمنين على المخدرات”.
إن هجمات كراهية الأجانب والموقع المحدد لها تعتمد في الغالب على عوامل اجتماعية وسياسية معقدة موجودة على أرض الواقع. وهي في وجهة نظر “لورين لانداو” –الباحث من “المركز الإفريقي للهجرة والمجتمع” بجامعة ويتواترسراند – “لا تتعلق فقط بالفقراء وخيبة الأمل.. فالكثير منها يتعلق بالسياسة على المستوى المحلي”.
تداعيات الهجمات الأخيرة:
ندَّدت مختلف الحكومات الإفريقية بما يحدث لمواطنيها في جنوب إفريقيا؛ ونشبت في كل من زامبيا وزيمبابوي ونيجيريا مظاهرات للتنديد بهذه الحوادث والتهديد بشنّ هجمات انتقامية على فروع كبريات المتاجر والشركات الجنوب إفريقية في تلك الدول. وعبّر “موسى فكي محمد” رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، ومسؤولون من نيجيريا وزامبيا عن غضبهم؛ وقاطعت دول إفريقية بسببها النسخة الإفريقية لـ”المنتدى الاقتصادي العالمي” في كيب تاون يوم الأربعاء.
وبعث الرئيس النيجيري “محمد بخاري” مبعوثًا خاصًّا إلى جنوب إفريقيا لإجراء محادثات مع الرئيس “سيريل رامافوسا”، ومناقشة توفير الحماية لمواطنيها، وتعويضهم على خسائر ممتلكاتهم. كما أعلنت الحكومة النيجيرية عودة حوالي 600 نيجيري من جنوب إفريقيا في الأيام المقبلة. وهناك سياسيون نيجيريون دعوا الرئيس “بخاري” إلى تأميم الممتلكات والشركات المملوكة لجنوب إفريقيا في نيجيريا. وهو طلب رفضه “بخاري”؛ لكن بيان حكومته وتصريحات ممثلي الجمعية الوطنية النيجيرية تؤكد تأزّم العلاقات بين الدولتين المتنافستين اقتصاديًّا.
ويرى الكثير من النشطاء الأفارقة أن هذه الهجمات وضعف استجابة القوات الأمنية في جنوب إفريقيا تُشعرهم بأنّ حكومة جنوب إفريقيا تردّ الخير بالشرّ؛ حيث إن شركات جنوب إفريقيا منتشرة في مختلف دول القارة كزامبيا وزيمبابوي ونيجيريا بحماية كافية وبدون عوائق. وفي المقابل يُقتل شعوب هذه الدول وتُحرق متاجرهم.
كما أن تكرار الأحداث المتعلقة بكره الأجانب أو “كره الأفارقة” قد شوّهت سمعة جنوب إفريقيا لدى الأفارقة الآخرين الذين يفضلونها لمتابعة دراستهم العليا والسياحة أو حتى للاستثمار؛ نظرًا لأنها دولة ذات اقتصاد صناعي، وهي نقطة جذب لكثير من سكان الدول الفقيرة الذين ينتقلون إليها بحثًا عن حياة أفضل.
وبالفعل أكدت تقارير على أن الكثير من المهاجرين الأفارقة والمهاجرين من آسيا بدأوا ينقلون تجاراتهم ويغادرون مع عائلاتهم إلى بلدانهم أو دول أخرى.
يضاف إلى ما سبق أن رئيس جنوب إفريقيا “رامافوسا” مضطرّ إلى تحسين اقتصاد بلاده؛ للحدّ من تكرار حدوث مثل هذه الأحداث في المستقبل. ومع ذلك فإنه من المرجّح أن يخاف المستثمرون -الذين يحتاجهم “رامافوسا” لتحسين اقتصاد البلاد- من مثل هذه الهجمات. وستُبدي الأشهر القادمة حقيقة قيادته، وما إذا كان باستطاعته الوفاء بالوعد الذي قطعه لمواطني جنوب إفريقيا عند تسلّمه للسلطة.