شهدت جنوب إفريقيا منذ أغسطس الماضي، موجة جديدة من العنف الموجَّه ضد الأجانب، ولا سيما النيجيريين وغيرهم من الأفارقة.
ويبدو أن الأمر هذه المرة يختلف عن موجات العنف السابقة؛ حيث إنه امتدَّ إلى ما وراء الحدود ليصل إلى لاجوس وكينشاسا؛ من خلال ردود فعل غاضبة وانتقامية ضد كلّ ما هو جنوب إفريقي.
كانت نية الغوغاء المسلحين بأسلحة بدائية واضحة للغاية. لقد أخذوا على عاتقهم ما فشلت الدولة في القيام به وهو: طرد وإبعاد الأجانب عن البلاد. أصبح العنف المصاحب لمعتقد كراهية الأجانب، ولا سيما “الأفروفوبيا”، سمةً منتظمةً وواضحة للغاية للمشهد السياسي في جنوب إفريقيا بعد التحول الديموقراطي عام 1994م.
وبإمعان النظر في الهجمات الأخيرة الموجهة ضد كلّ ما هو إفريقي أو أكثر سوادًا يصبح السؤال حول موقف الدولة الرسمي مشروعًا. وكذلك حقيقة كراهية الأفارقة لبني جلدتهم، وهو الأمر الذي يجعل تراث أمة قوس قزح التي أرسى دعائمها نيلسون مانديلا على المحك.
تبرز على الفور ثلاث ملاحظات أولية؛ وهي أولاً نزوع الخطاب السياسي السائد إلى دعوة المواطنين للدفاع عن سيادة البلاد وحماية مكتسباتها الديمقراطية؛ وهو أمر من غير المحتمل أن يرفضه المواطن، الذي يحتضن بالفعل مشاعر قوية مرتكزة على كره الأجانب في ظل هيمنة نزعة وطنية شيفونية متطرفة. ثانيًا: قد يعني عدم وجود استجابة حاسمة مِن قِبَل الشرطة لمنع أو وقف الهجمات المتكررة تورطها ولو بشكل سلبي. ثالثًا: لم تطرح هذه الهجمات المحملة بمشاعر الكراهية للأجانب أيّ اعتراف رسمي مِن قِبَل الدولة حيث يصرّ الخطاب الرسمي على وصفها بأنها أعمال إجرامية.
الأساس الأيديولوجي
طبقًا لمشاهدات المفكر الكاميروني البارز جوزيف أخيلي ميمبي فإن مكمن الخطورة في ظاهرة “الأفروفوبيا” التي تهدد تراث وفلسفة أوبونتو المتسامحة لدى أبناء مانديلا، هو ظهور أساس “أيديولوجي” ذرائعي. فثمة خطاب سائد يهدف إلى تبرير الفظائع والجرائم بحقّ الأفارقة المقيمين واللاجئين. يبدأ الخطاب التبريري بالقوالب النمطية المعتادة مثل القول: “إنهم أكثر سوادًا”، “إنهم يسرقون وظائفنا”، “إنهم لا يحترموننا”، “إنهم يُستخدَمون مِن قِبَل البيض الذين يفضّلون استغلالهم بدلاً من توظيفنا”، وهلم جرا.
بَيْدَ أنَّ هذا الخطاب أصبح أكثر تطرفًا من خلال تأكيده على أن جنوب إفريقيا ليست مدينة لإفريقيا. فخلال سنوات التفرقة العنصرية كان هناك أقل من ثلاثين ألفًا من مناضلي جنوب إفريقيا يعيشون في المنفى في جميع أنحاء العالم؛ قلة منهم في دول مثل غانا وإثيوبيا وزامبيا، وثلة غيرهم في روسيا وأوروبا الشرقية. لذلك يرفض هذا الخطاب العنصري أيّ مسؤولية أخلاقية تجاه الأجانب من الأفارقة.
الخطاب الشعبوي
ما يجري في جنوب إفريقيا لا يمكن تجاهله؛ لأنه يضرّ بتراث جيل كامل من الآباء المؤسسين للوحدة الإفريقية أمثال نكروما وسيكوتوري ونيريري. هناك نمط عام في معظم الهجمات التي تعبّر عن كراهية الأجانب من الأفارقة في جنوب إفريقيا. إنها تحدث أثناء أو بعد إلقاء مسؤول سياسي خطابًا مثيرًا يحرّض فيه أو يبرّر المعاملة اللاإنسانية للأجانب. في مارس 2015م، مباشرة قبل واحدة من أكثر الهجمات كراهية للأجانب، أدلى ملك الزولو جودويل زويليثيني بتصريحات تحريضية. يقول الرجل صراحة وبدون مواربة في حديثه مع أفراد مجتمع بونجولو : “بصفتي ملكًا لأمة الزولو، لا يمكنني أن أتسامح مع موقف يتولى فيه أمرنا أناس لا رأي لهم على الإطلاق. إني أطلب من القادمين من الخارج أن يعودوا إلى بلدانهم“.
والأخطر من ذلك هو رفض ملك الزولو تحمُّل أيّ مسؤولية أخلاقية تجاه الأفارقة الآخرين. يقول: ”لا ينبغي أن تُستخدم حقيقة أن هناك دولًا لعبت دورًا في كفاح البلاد من أجل التحرير كذريعة لإيجاد موقف يُسمح فيه للأجانب بإزعاج السكان المحليين. أعلم أننا كنا في بلادهم أثناء الكفاح من أجل التحرير، لكن حقيقة الأمر هي أننا لم نؤسس شركات استثمارية هناك“.
وفي عام 2017م، استخدم عمدة جوهانسبرج هيرمان ماشابا أيضًا لغة تحريضية محمَّلة بمشاعر الكراهية القوية ضد الأجانب؛ قال الرجل: “إن المهاجرين غير الشرعيين يحتجزون بلدنا طلبًا للفدية، وسوف أكون آخر مواطن جنوب إفريقي يسمح بذلك“، بعدها بأيام قليلة، اندلعت أعمال عنف مستعرة ضد الأجانب السود في جوهانسبرغ.
في واقع الأمر تحمل الاستخدامات اللغوية في جنوب إفريقيا، كما نعلم، معاني ودلالات مختلفة لا تخلو من استعارات مكنية. وقد دفع ذلك بعض السياسيين إلى استخدام لغة خطاب تحريضي عنيف. وقد يُفضي ذلك لا محالة إلى دفع الآخرين للتعصب وكراهية الأجانب والعنصرية والعنف. إن مقولات “اقتل البوير”، و”اقطع رقاب المؤسسة البيضاء”، لا تعني ذلك حرفيًّا. ولكنها في المقابل ضد هيمنة القوة البيضاء؛ بحيث يتم العمل على تفكيكها ودحرها.. كان هذا شيئًا يعرفه ويفهمه الفيلسوف والمنظّر النقابي المناهض لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ريك تيرنر، الذي قُتل على أيدي شرطة نظام الأبارتهيد في عام 1978م. كان تيرنر صديقًا ورفيقًا وحليفًا لمؤسّس حركة الوعي الأسود؛ ستيف بيكو، الذي تعرض للتعذيب والقتل على أيدي دولة الفصل العنصري قبل عام من تيرنر. أدرك كلا الزعيمين أن الأفراد في مجتمع عنيف وعنصري يحتاجون أولاً إلى الانكفاء على الذات في نوع من التعامل النفسي العميق كي يتم تحريرهم بشكل صحيح. رأى تيرنر أن الناس يمكنهم تعلم قِيَم جديدة من خلال العيش بها. وبينما سعى بيكو إلى التحرر، بمعزل عن البيض في جنوب إفريقيا، كان تيرنر يأمل في إطلاق “وعي أبيض”، أو “وعي بشري” متجدد من شأنه أن يساعد على تفكيك مفاهيم العِرْق والطبقة والهوية. وفي نفس الوقت أدرك تيرنر أهمية الحرية الاقتصادية للأغلبية السوداء في البلاد. لكن لا شيء من هذا يهمّ النخب الشعبوية الفاسدة في مرحلة ما بعد الأبارتهيد، والتي تبحث دائمًا عن كبش فداء لصرف الانتباه عن عيوبها وعن طموحاتها الأنانية.
الشوفينية الوطنية
الأمر المثير للدهشة، والذي يساعد على تفسير تعقيدات كراهية الأفارقة “الأفروفوبيا في جنوب إفريقيا هو ديالكتيكية العلاقة بين الطبقة الرأسمالية المهيمنة والطبقات الفقيرة والمعدمة. فالملاحظ أن الشركات الكبرى ورأس المال الجنوب إفريقي يتوسع داخل الدولة، وفي جميع أنحاء القارة. وربما تمارس بعض هذه الشركات أحيانًا أسوأ أشكال العنصرية التي تم التسامح معها حتى في ظل نظام الفصل العنصري. وبينما تعمل هذه الشركات الكبرى وفقًا لمبدأ “الأفرقة”، ونزع الطابع الوطني عنها في ظل اقتصاد معولم، فإن الطبقة السوداء الفقيرة وأجزاء من الطبقة الوسطى يتم تغذيتها وتلقينها مبادئ “الشوفينية الوطنية”. حتى أضحت هذه الشوفينية تطل برأسها القبيح في كل شرائح مجتمع جنوب إفريقيا. وطبقًا لرأي أخيلي ممبي فإن الشوفينية المتطرفة تكون دومًا بحاجة إلى كبش فداء. إنه يبدأ بأولئك الذين ليسوا من عشيرتنا. ولكن بسرعة كبيرة، يرتد على عقبيه ليتحول إلى الأشقاء. إنها دائرة مفرغة قد لا تتوقف مع “هؤلاء الأجانب”، وإنما قد تصبح البلاد مثل الهرة التي تأكل أبناءها.
الاقتصاد السياسي
إذا نظرنا إلى ما وراء الاحتجاجات، والنهب، وأعمال الشغب وتدمير الممتلكات من أجل فهم طبيعة عوامل الاقتصاد السياسي، ولا سيما العلاقة المتوترة بين مُلاك الأراضي والطبقة العاملة. طبقًا للغة الأرقام: يبلغ معدل البطالة 29٪، أي أن هناك أكثر من 6.6 مليون شخص بلا عمل؛ كما أن هناك 30٪ من سكان جنوب إفريقيا لا يحصلون على المياه الجارية النقية؛ ويعيش 13٪ في مساكن غير رسمية أقرب إلى عشش الصفيح. ولا شك أن ذلك كله يدعو إلى الإحباط واليأس.
من ناحية أخرى، هناك حوالي 2.5 مليون مهاجر في البلاد يبحثون عن الحماية والوظائف. يناضل الكثيرون منهم من أجل الحصول على الوثائق القانونية التي يحتاجون إليها بسبب عدم قدرة وزارة الداخلية عن تلبية طوفان الطلبات المتزايدة. حتى أولئك الذين يحملون تأشيرات وتصاريح رسمية يدركون أنهم لا يضمنون الحماية والاستقرار في جنوب إفريقيا. ويتعين على هؤلاء المهاجرين مثل الملايين غيرهم من فقراء جنوب إفريقيا، النضال بشكل يومي من أجل العيش في الاقتصاد غير الرسمي، أو إيجاد طرق مشروعة وغير مشروعة لإرسال أطفالهم إلى المدارس والحصول على الخدمات الحياتية الضرورية.
كل ما سبق يدعو إلى التساؤل حول ماذا حدث لتراث أوبونتو الأخلاقي في جنوب إفريقيا؛ والذي يؤكّد على لُحْمَة الترابط الإنساني؛ حيث تعني كلمة “أوبونتو”، المرتبطة بمفهوم الجماعة، أننا أشخاص من خلال الآخرين. وقد استخدمها كل من نيلسون مانديلا وديزموند توتو لإثبات ترابط أمة قوس قزح.
وبالنظر إلى تاريخ جنوب إفريقيا وخبرة الفصل والتمييز العنصري، لا يسع المرء إلا القول بأن كراهية الأجانب هي نوع من العنصرية؛ إنها تعبّر عن نفس الشيء، وتعني في المقابل حدوث انقطاع في ثقافة الأوبونتو المتصالحة مع النفس ومع الغير.
ولا شك أن العامل الاقتصادي يصبح حاسمًا في جنوب إفريقيا، طالما يوجد عدد كبير من السكان الفقراء وغير المتعلمين، يواصلون النضال اقتصاديًّا من أجل لقمة العيش. وفي هذه الحالة يصبح الحديث عن أوبونتو نوعًا من الرومانسية الطوباوية. لا بد من قطع دابر الفقر واستيعاب طموحات الملايين من الشباب الذين يبحثون عن فرصة أفضل للحياة، عندئذ يمكن أن تسود ثقافة أوبونتو مرة أخرى.