مختار حسين هلولي
باحث كيني متخصص في شؤون شرق إفريقيا
بدايةً وقبل الدخول في لبّ الموضوع فليعرف القارئ أنّ (lapsset) “لابست” اختصار لـ“ Lamu port south Sudan Ethiopia”، وهي تعبير عن النطاق الجغرافي الذي يغطّيه المشروع، والذي يتمثّل في دول ثلاث؛ هي: كينيا وإثيوبيا وجنوب السودان، وإن كانت كينيا تُمثِّل المستفيد الأكبر ورأس الحربة في المشروع؛ لأنّها تحظى بمنفذ بحري تسعى جارتاها للاستفادة منه.
يعتبر “لابست” أكبر مشروع بنيوي في شرق إفريقيا، ويتشكّل من مشاريع جزئية تكاملية الهدف منها ربط إثيوبيا وجنوب السودان بميناء لامو الكيني. وقد أطلقته كينيا ضمن رؤية 2030م التي دشّنها “مواي كباكي” الرئيس السابق للبلاد، ومن خلالها أعلنت الحكومة حينها رؤيتها بنقل كينيا من دولة فقيرة إلى دولة صناعية متوسطة الدخل مع قدوم عام 2030.
بعد مرور عشر سنوات على تدشين الرؤية لا تزال على الأرض مؤشرات تدل على جدِّيَّة الحكومة في المُضِيّ قُدُمًا لإتمام وسائل تلك النقلة المنشودة، تحت مسمى “لابست”، وقد تم إنجاز بعض المشاريع الجزئية وإن لم يكن لبعضها أهميّة كبيرة بالنسبة إلى الهدف العام من المشروع برُمَّته، وهو ربط البلدين بكينيا لتكون منفذًا بحريًّا لهما إلى العالم؛ عوضًا عن بقية الموانئ الإقليمية كجيبوتي وبربرة في شمال الصومال.
ولا شك أن فكَّ ما تبقى من الارتباط بين دولتي السودان وجنوب السودان، وتغيير الواقع الجيوسياسي في القرن الإفريقي من صميم أهداف المشروع، وإن لم يكن ذلك معلنًا، فنفط جنوب السّودان الحبيسة لا يزال يُصَدَّر عبر موانئ السّودان اضطرارًا لوقوع المصافي في ما كان يُعرَف سابقًا بشمال السّودان قبل انفصال جنوب السّودان في 2011م.
وتتمثّل هذه المشاريع التكاملية في ستة محاور هي: ميناء لامو، وإنشاء طرق إقليمية سريعة، خطوط أنابيب لنقل النفط الخام، وسكك حديد، وأخيرًا مطارات دولية، ونخصِّص هذا المقال للتعرُّف عليها واحدًا واحدًا.
ميناء لامو
من أهم مشاريع “لابست” التي بدأت فعلاً ميناء لامو البحري في جزيرة لامو العريقة المطلة على المحيط الهندي، وتُخطط الحكومة الكينية لإنجاز ميناء عصري يتكون من 32 مرسى يستوعب السفن التجارية الكبيرة.
تُقدَّر التكلفة الإجمالية للمشروع بخمسة ملايين دولار، وبحسب إفادة الحكومة سيتم إنجاز المرسى الأوّل في غضون ثلاثة أشهر، وبذلك يكتمل ثلث أعمال الخطة قصيرة المدى.
المراسي الثلاثة الأولى تتم بتمويل كيني، بينما بقيّتها يُموِّلها مستثمرو القطاع الخاص. ولا يخلو المشروع من مشاركات من دول غربية، بَيْدَ أنَّ الحكومة لم تُشِر إلى أمرٍ كهذا في نافذتها الإلكترونية الخاصَّة بالمشروع.
ملف المتأثرين بالمشروع (Project affected persons)
بعيدًا عن الحملة الترويجية الواسعة التي أطلقها الإعلام الموالي للنظام الحاكم في كينيا، وتركيزها على الجوانب النيِّرَة للمشروع؛ فقد ظهرت في الخط الموازي شكاوى من مواطنين صُودِرَتْ أراضيهم بهدف إنجاز أعمال لها صلة بالمشروع، ولو من بعيد.
في يناير 2018م وُقِّعَت مذكرة تفاهم بين الهيئة المسؤولة عن المشروع والمفوضية الوطنية للأراضي ممثلة في رئيسها البروفسور محمد سوزوري، تؤسِّس للتعاون بين الجهتين على توفير أراضٍ كافية لإقامة المشروع، سواء من أراضي الحكومة أو بنزع ملكيات خاصة بموجب قانون الأراضي لسنة 2012م. كما أكَّدت المذكرة على دَفْع تعويضات عادلة وفورية للمتأثرين بالمشروع.
رغم وعود الجهات المسؤولة المتكررة بتعويض الذين صُودِرَتْ أراضيهم إلّا أن شيئًا ملموسًا لم يحدث في هذا المضمار، وتظل هذه الشكاوى تتكرّر في خضم أحداث سياسيّة واقتصادية متسارعة تَعُجّ بها المنابر الإعلامية في البلاد، فمن البديهي أن لا تجد صيحات المظلومين آذانًا صاغية أو تغطية إعلامية كافية تجعل منها قضية رأي عام يمكن أن تَضغط على النظام ليتعامل مع الملف بالجدية التي يستحقها.
الطرق الإقليميّة السّريعة
في إطار الخطّة العامّة لمشروع “لابست” أنجزت الحكومة متعاونة مع جهات دوليَّة مانحة طريقًا دوليًّا يبدأ من ميناء لامو الذي هو بمثابة العمود الفقري للمشروع، وينتهي في أديس أبابا، ومنها إلى جوبا في جنوب السّودان. تُشكِّل مدينة إسيولو في الشرق نقطة التقاء الطرق؛ حيث منها يبدأ الطريق السّريع باتجاه مدينة “مويالي” على حدود إثيوبيا، ومنها إلى أديس أبابا. وآخر باتجاه جوبا عبر “لوكشار” في مقاطعة “تركانا”.
رغم التمويل الهائل الذي رُصِدَ لتعبيد هذه الطرق التي ستُسَهِّل عمليّة النقل من وإلى ميناء لامو فور تشغيله، إلّا أنه يُلاحَظ بُطْء واضح وغموض في عملية التنفيذ؛ بحيث بَقِيت مراحل منه غير مُنْجَزَة، وفي أرجح الأحوال يعود السبب في ذلك إلى الغموض الذي يكتنف الجانب التنظيمي الخاص بإمضاء العقود مع الجهات المستثمرة في المشروع؛ حيث يسطو الفساد والمحسوبية على عمليّة إصدار العقود للشركات الرّاغبة في المساهمة.
وقد أنجزت الحكومة تعبيد الطريق الدولي من إسيولو إلى مويالي على حدود إثيوبيا بطول 526كم، وهو جزء من الطريق السريع العابر لإفريقيا بدءًا من القاهرة، وانتهاءً إلى كيب تاون في جنوب إفريقيا، ولا يخفى ما ترتب على ذلك من تسهيل لعمليّة النقل والمواصلات؛ حيث يستغرق السفر من نيروبي إلى مويالي عشر ساعات فقط بعد أن كان يستغرق ثلاثة أيام قبل تعبيد الطريق وتأهيله.
لكنَّ الغريب أن الحكومة الكينيَّة لم تتحرَّك بدافع تخفيف المعاناة عن سكّان هذه المنطقة المهمّشة، بل بدوافع اقتصاديَّة محضة ترمي من ورائها إلى تحقيق مكاسب ماليَّة؛ من خلال الانفتاح على الدول المجاورة، وعليه جاء تأهيل الطّريق بعد مرور أكثر من نصف قرن على استقلال البلاد.
تمويليًّا، يساهم البنك الدولي في إتمام بعض الطرق المشمولة بخطة “لابست”؛ حيث صدّق على قرض بقدر خمسمئة مليون دولار مساهمةً في ربط جوبا بميناء لامو.
وبغض النظر عن الجدوى الاقتصادية للمشروع؛ فإن الجماعات الرعوية المهمَّشة في مناطق الشرق والشمال ستستفيد من الطرق المعبَّدة في تسهيل نقل المواشي إلى الأسواق في نيروبي والمدن الكبيرة، وكذلك يكون حال صغار المزارعين الذين انقطعت بهم السُّبُل دون الاستفادة من الأسواق الدَّاخليَّة.
خط أنابيب النفط الخام
تُشَكِّل خطوط أنابيب النفط محورًا أساسيًّا في “لابست”، والمستهدَف بهذا نفط جنوب السّودان المحتاجة إلى منفذ بحري لتصل إلى أسواق النّفط الدوليَّة.
شرعت كينيا بمشاركة شركات نفط غربية في إنشاء خطوط أنابيب لنقل النفط الخام من جنوب السّودان لمسافة قدرها 790كم، والمخطط إنشاء خطوط شبيهة باتجاه إثيوبيا كذلك.
علمًا بأنّ إثيوبيا وقَّعت اتفاقًا مع جارتها جيبوتي بإنشاء خطوط أنابيب لنقل النفط الخام. ومع وجود هذه الاتفاقيَّة تَشجّعت كينيا على إشراك إثيوبيا في مشروعها؛ ربما لكون الاتفاق بين جيبوتي وإثيوبيا لا يزال في مرحلة التخطيط، ولم يدخل بعدُ حَيِّز التنفيذ، إضافة إلى ذلك فإن عيون كينيا على الجنوب الإثيوبي؛ حيث ترى أن موانئ جيبوتي تزوِّد شمال إثيوبيا وجنوبها بخام قابل لاستثمار موازٍ، خاصة أنَّه مُستهدَف مِن قِبَل الحكومة الإثيوبية بمشاريع تنموية أكثر من الشمال.
سكك حديد إقليمية
تعتزم كينيا إنشاء خطوط أنابيب لنقل النفط الخام بين جنوب السودان وإثيوبيا، ومن المخطَّط مَدَّ “لامو” إلى جوبا وأديس أبابا مرورًا بنقطة التقاء في مدينة إسيولو، مع إنشاء خط داخلي يربطها بالعاصمة نيروبي.
وتقدَّر تكاليف الإنشاء بسبعة مليارات دولار تقريبًا بحسب ما أفادته الهيئة الوطنية المكلَّفة بتنفيذ المشاريع على النافذة الإلكترونيّة النّاطقة باسمها. وتتوقع الحكومة أن يصل معدّل العائد الاقتصادي الداخلي من المشروع إلى 15%.
أما التمويل فمزدوج من القطاعين الخاص والعام، ولا يخلو المشروع من إسهامات أجنبية في شكل قروض، وإن لم يتوفر إحصاء حول قدرها، وكيفية الاستفادة منها، لتعمُّد الحكومة في الآونة الأخيرة -ونظرًا للاحتقان الاقتصاديّ الذي تعيشه البلاد- تقليل نشر المعلومات المتعلقة بالديون العامَّة وتجنُّب جعلها في متناول الكافَّة.
إلى جانب ذلك الرافد تُعوِّل الحكومة على مشاركات الدول المستفيدة بشكل مباشر من المشروع، وهي إثيوبيا وجنوب السّودان.
وقد تمَّ التصميم الأول للخطوط داخل كينيا وإثيوبيا، وبقي التصميم الهندسي المفصّل، واستعانت الحكومة في ذلك بشركة (china civil engineering construction corporation)، وهي الشركة ذاتها التي تتولّى بناء الخط بين جيبوتي وإثيوبيا.
كما وقَّعت كينيا على مذكرة تفاهم مع منظمة “إيغاد” بهدف إتمام المشروع إلى جانب الاتفاقية الثُّنائية بينها وبين وإثيوبيا.
مطارات دوليّة
شرعت الحكومة في بناء ثلاثة مطارات دوليّة في مدن لامو وإسيولو وتركانا بتكاليف قدرها 188 مليون دولار، و175 مليون دولار، و143 مليون دولار على التوالي. والغرض منها استيعاب الحركة التجارية من وإلى الدول الثلاثة التي تعتبر محور المشروع، وكذلك المنجذبين إلى البيئة التجارية الجديدة من جميع الأقطار.
وحسب إفادة الهيئة القوميَّة للطرق سيُستغلُّ مطار إسيولو في نقل القات إلى الصّومال وغيرها من الدول؛ لكونه قريبًا من مزارع القات في منطقة “ميرو”؛ تسهيلاً لعملية التصدير التي تتم حاليًا من مطار “ولسون” في نيروبي.
أما بشأن الجدوى الاقتصادية من تشييد المطارات الثلاثة؛ فقد أفادت الحكومة بأنها تتوقع أن يصل معدّل العائد الاقتصادي الداخلي من مطار لامو الدولي إلى 20.7% ومن مطاري إسيولو وتركانا إلى 12% نظرًا لتكاليف إعادة تأهيلهما.
لكنَّ التقارير الإعلامية تشير إلى خمول شديد في مطار إسيولو بالتحديد، ما يضع رواية الحكومة عن العوائد الاقتصادية في قفص الاتهام.
وتتولّى الحكومة بناء وصيانة المنشآت الأساسية، بينما تسند بناء محطَّات الشحن والمسافرين إلى مستثمرين مؤهّلين من القطاع الخاص.
التحدّيات
مع قطع شوط كبير على أرض الواقع فيما يتعلّق بمشاريع “لابست”؛ تراود كينيا مخاوف عديدة، من أهمها: الحرب الأهلية في جنوب السّودان الشريك الأساسي والمُعَوّل عليه في أن يُؤتي المشروع أُكُله، وباعتبار توجُّس إثيوبيا وانطفاء حماسها للسبب نفسه؛ مخافة أن تساهم في مشروع له صلة بدولة غير مستقرَّة كجنوب السّودان.
وممَّا لفت أنظار المتابعين مدى قدرة كينيا على منافسة جيبوتي التي تسعى لكي تصبح قوة اقتصادية كبرى في شرق إفريقيا، خاصةً بعدما أنشأت مشاريع بنيوية ضخمة لخدمة هذا الهدف؛ تتمثل في ستة موانئ وخط أنابيب يربطها بإثيوبيا بدعم صيني وأمريكي، مما يجعل إثيوبيا تعتمد عليها في تأمين 95% من احتياجاتها من الخارج، وفي ظل هذه المعطيات قد لا يُشَكِّل مشروع “لابست” أهمية كبيرة بالنسبة لإثيوبيا.
قبل كل ذلك؛ يظل التهديد الأمني الذي تُشَكِّله الجماعات المسلحة النّاشطة في حدود كينيا مع الصومال حَجر عثرة في إتمام المشروع والاستفادة منه فيما بعد؛ إذ تفيد المؤشرات على الأرض بعدم قدرة كينيا على بَسْط سيطرتها الكاملة على حدودها البرية مع الصومال. ونتيجة لذلك تشهد المناطق الحدودية هجمات متكررة على مصالح الدولة الكينية، وفرار المعلمين غير المسلمين من هذه المناطق خشيةَ الاعتداء عليهم مِن قِبَل حركة الشباب خير مثال على ذلك.
وختامًا
يبدو أن مشروع “لابست” يخدم هدفًا نبيلاً من أهداف الاتحاد الإفريقي؛ ألا وهو تعزيز التعاون بين أعضاء الاتّحاد من خلال مشاريع اقتصاديَّة واجتماعيَّة مشتركة تعود بالخير على شعوب إفريقيا. ومن الأفضل إشراك دول الإقليم الأخرى مثل يوغندا وتنزانيا، خاصة بعدما أبدت هاتان الدولتان رغبةً في الانضمام إلى المشروع.
هذا من حيث المبدأ، أما إذا كان المشروع بجلد إفريقي وجسد أجنبي له مآرب سياسية واقتصاديَّة قد تكون على حساب وحدة الدول الإفريقية المتأثرة بالمشروع؛ فهذا شرّ مستطير يجب الحذر منه.
ويُتوقّع أن تفكِّر بعض الأطراف السّياسية الداخليّة في تأخير بعض هذه المشاريع، واتخاذها ورقة لغرض انتخابات 2022 التي بدأ الحديث عنها يحتدم في الإعلام الكيني، وبإعلام واعٍ ومنظمات مدنيَّة منتبهة يمكن تجاوز هذه العقبة.