تَطرح مسارات الثورة السودانية منذ ديسمبر 2018م وحتى الوصول لاتفاق تقاسم السلطة في الفترة الانتقالية المُوقَّع في 17 أغسطس 2019م تساؤلات مهمة حول مصداقية النموذج المعرفي الغربي المسيطر في علم السياسة. إذ يُلاحَظ أن الخبرة الإفريقية في التغيير السياسي والتي بدأت في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي استندت على مبدأ التمكين المجتمعي في ظل واقع بالغ الانقسام والتعقيد. كما أنها ارتبطت بشكل كبير بالسياق الثقافي والحضاري الإفريقي، وهو ما يعني ضرورة إعادة النظر في التجارب الغربية، وطريقة الاستفادة منها؛ لأنها تُعبِّر عن واقع ثقافي واجتماعي مغاير.
لقد أعادت الثورة السودانية الاعتبار لمقتربات “أفرقة علم السياسة” التي تدفع باتجاه ضرورة الاعتراف بقدرة إفريقيا على التخطيط لبناء مستقبلها بعيدًا عن الأنماط والقوالب المستوردة والمفروضة من الخارج. ويتّضح لنا من خلال القراءة المتأنية للإعلان الدستوري الانتقالي أن هناك عددًا من الدروس المستفادة التي يمكن التعويل عليها في بناء تقاليد إفريقية لعلم السياسة:
أولاً: مبدأ ثنائية الحكم (مدني عسكري):
لقد أضحى المركّب المدني العسكري (تحالف المهنيين وقوى التغيير عمومًا التي تُمثّل “انتليجنسيا” المدن والريف، بالإضافة إلى ضباط المجلس العسكري بخلفياتهم الاجتماعية والفكرية) هو الخيار الواقعي بهدف تحقيق الأمن والاستقرار. وعوضًا عن حرفية المبدأ الغربي الحاكم لنمط العلاقات المدنية العسكرية، والذي يقوم على أساس حيادية ومهنية المؤسسة العسكرية كان أساس مفاوضات التسوية السياسية التي تمت برعاية إفريقية هو مبدأ ثنائية الحكم.
ويُمثّل مجلس السيادة المختلط حلاً فيه مسحة من عبقرية. وعلى الرغم من أن الأغلبية البسيطة في المجلس تبدو ظاهريًّا لصالح المدنيين فإن جنرالات المجلس يحتفظون بسلطات تُمكّنهم من التحكم في مسار عملية الانتقال الديمقراطي التي تستمر أكثر من ثلاثة سنوات. فالقرارات في المجلس تصدر بأغلبية الثلثين، وهو ما يعني ضرورة موافقة عضوين من العسكريين حتى يصبح القرار نافذًا.
ومن جهة أخرى يُناط بالأعضاء العسكريين وحدهم حقّ تعيين وزيري الدفاع والداخلية، وهو ما يجعلهم يحددون مسارات عمليات إصلاح المؤسسات الأمنية والعسكرية التي تُمثّل أحد مطالب الحركة الثورية. وعليه يستطيع العسكريون الاعتراض على تعيين الولاة والوزراء وأعضاء المجلس التشريعي، وهو ما يعني أهمية توافق الآراء وتقاسم السلطة خلال المرحلة الانتقالية.
وأذكر أنني عندما درست بشكل مبكّر طبيعة العلاقات المدنية العسكرية في ثمانينيات القرن الماضي كان مصطلح التحالف المدني العسكري أو دياركي DIARCHY موضع جدل ونقاش واسع النطاق. وقد تم تطوير هذا المفهوم بعد ذلك كأحد أنماط العلاقات المدنية العسكرية في الواقع الإفريقي التي تخفّف من حدَّة نمط الاحتراف والحياد العسكري في المفهوم الليبرالي الغربي. وقد طُرِحَتْ الدياركية كوسيلة عملية لحل أزمة عدم الاستقرار السياسي في نيجيريا. إنها صيغة من خلالها يتقاسم المدنيون والجيش السلطة في البلاد على قدم المساواة. ولعل الأساس المنطقي لهذا الترتيب الذي يستند على خبرات تاريخية وإن كانت بنماذج مغايرة مثل حالة الهند البريطانية هو احتواء النزوع للسلطة نتيجة تسييس الجيش، بالإضافة إلى ضعف مؤسسات الدولة الموروثة عن الاستعمار.
في أوائل السبعينيات كتب الدكتور ننامدي أزيكيوي عن فكرة الدياركية المدنية العسكرية، وهو ما فتح الباب واسعًا لحالة اعتراك فكري حادة. فأنصار هذا الاتجاه يرون بأنه ضروري للتخلص من أزمة عدم الاستقرار، ويعطي الشعوب الإفريقية الأمل في غد أفضل. بَيْدَ أنَّ المعارضين يرون أنه في أفضل الأحوال يُعتَبر مُسَكِّنًا ولا يقدِّم حلاً سحريًّا. إذا تم إدخال الجيش كمؤسسة في الحكم فقد يؤدي إلى مشاكل لا حصر لها.
صحيح أن فكرة المركب المدني العسكري مهمة في السياق الإفريقي، لكن الرؤية الحاكمة التي تحركه تُعدّ حاسمة في تحديد مسار هذا التحالف. فالرؤية الثورية الملتحمة بالجماهير الفلاحية أو العمالية -كما في حالة توماس سانكارا في بوركينا فاسو- نجحت في إحداث التغيير الثوري المطلوب؛ لولا التفاف قوى الرأسمالية الدولية، وتحالفها مع قوًى رجعية في الإقليم، وفي الداخل؛ مما أدَّى في النهاية إلى وأد التجربة السانكارية.
لكن تحالف ضباط الجيش ذوي الميول القبليَّة مع قواعدهم المدنية قد يدفع إلى تأسيس أوتوقراطية عسكرية قبلية؛ مثل حالة عايدي أمين في أوغندا.
وإذا كانت نزعة الهيمنة والسيطرة قوية لدى النخبة العسكرية؛ فإنها تؤدي إلى ديكتاتورية عسكرية عنيفة، مثل حالة ساني أباتشا في نيجيريا. وإذا كانت الانقلابات المضادة التي شهدتها كثير من الدول الإفريقية تقوِّض مفهوم الاستقرار الذي يستهدفه المركب الحاكم؛ فإن وجود عناصر إصلاحية داخل الجيش تنحاز للجماهير قد تدفع في نهاية المطاف إلى تأسيس دعائم الحكم المدني. وقد حدث ذلك في أكثر من مناسبة؛ مثل حالة أوباسانجو في نيجيريا، وسوار الذهب في السودان.
وعليه فإن ما يحكم مسار التغيير في السودان ليس صيغة تقاسم السلطة، وإنما الرؤية الحاكمة التي تسعى لتحقيق طموحات الجماهير وإصلاح الأخطاء التاريخية التي ارتكبتها الحكومات المتعاقبة.
ثانيًا: مبدأ تداول القيادة بين المدنيين والعسكريين:
إذ طبقًا لاتفاق التسوية سوف يتولى الفريق عبدالفتاح البرهان رئاسة مجلس السيادة لمدة 21 شهرًا، يتبعه رئيس مدني لمدة 18 شهرًا. ولا شك أن القبول الإفريقي بالزعامة العسكرية في السلطات الانتقالية السودانية يُعبّر عن مرونة في تطبيق قرار الاتحاد الإفريقي بضرورة تسليم السلطة لحكومة مدنية.
واستنادًا إلى التقاليد الإفريقية المتعلقة بالتوظيف السياسي للجيوش نستطيع أن نحدد ثلاثة مسارات لعلاقة النخبة العسكرية بقضية السلطة في إفريقيا:
النمط الأول: البريتوري (الانقلابي) الذي يتميز بقيام النخبة العسكرية بممارسة دور مباشر في الحياة السياسية.
النمط الثاني الضامن الخارجي، والذي يعني وجود طرف خارجي مستعدّ لتقديم العون الخارجي في حالة وجود ما يهدد الاستقرار والأمن الداخلي في الدولة الإفريقية؛ مثال: حالة فرنسا بالنسبة لمستعمراتها السابقة.
النمط الثالث: المقايضة، وهو يعتمد على شراء الولاء السياسي للعسكريين من خلال المقايضة بإعطائهم مزايا مادية معينة؛ سواء على المستوى الجماعي أو الفردي. وتشمل هذه الإغراءات بالإضافة إلى المرتبات المجزية، الإعفاءات الجمركية على السيارات والسلع الترفيهية والسفر للخارج من أجل حضور دورات تدريبية، والتعيين في وظائف الملحقية العسكرية، وما إلى ذلك.
لقد شهدت الألفية الجديدة تجدُّد الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية، على الرغم من تراجع نسبة حدوثها أعوام التسعينات. وتشير بعض التقديرات إلى أنه منذ عام 2010م، كانت هناك 26 محاولة انقلاب تُعزَى بشكل رئيسي إلى سوء الأوضاع الاقتصادية، وزيادة حدة حالة الاضطراب السياسي. وعادة ما يأخذ التدخل العسكري أشكالاً مختلفة؛ مثل حالتي زيمبابوي والسودان. وعند النظر إلى زيمبابوي، نجد أن القيادة العسكرية -تعتبر بطريقة ما- امتدادًا للحزب المسيطر. وفي الحالة السودانية تبنَّى الجيش (الحارس الوطني) موقفًا حَذِرًا في البداية تجاه الاحتجاجات ضد نظام البشير، لكنه انحاز في النهاية لمطالب الجماهير، مع التوكيد على دوره المحوري في العملية الانتقالية.
ثالثًا: مبدأ الاعتراف بالسلطات التقليدية وإدماجها في مؤسسات الحكم الحديثة:
لقد قامت مؤسسات الحداثة الغربية على أنقاض المؤسسات التقليدية بغرض بناء مجتمع عصري. بَيْدَ أنَّ تجارب التحول الإفريقية طرحت نماذج مغايرة تتفق مع الهوية الثقافية والحضارية الإفريقية، أو ما أطلق عليه علي مزروعي “الميراث الثلاثي”. كان لافتًا أن يتجه عبدالله حمدوك خريج جامعة مانشستر إلى بيت الإمام الصادق المهدي في أمدرمان ليبدأ مشاوراته السياسية فور تعيينه رئيسًا لوزراء السودان في المرحلة الانتقالية.
إنها خطوة بالغة الدلالة على أن السودان الجديد بدأ يتصالح مع نفسه، ومع مختلف القوى التي تشكّل نسيجه المجتمعي. لقد اعترف دستور غانا عام 1992م بالزعماء التقليديين ومجالسهم القائمة على القانون العرفي. ليس هذا فقط، بل تم تأسيس مجلس وطني للرؤساء التقليديين يتم انتخابه من ممثلي المجالس التقليدية على مستوى الأقاليم في الدولة، وهكذا تطرح إفريقيا نموذجًا مغايرًا للاندماج والتغيير السياسي.
ولا شك أن معظم البلدان الإفريقية تشهد وجود مؤسسات موازية؛ الأولى تمثل القوانين الرسمية للدولة، والأخرى تمثل المؤسسات التقليدية التي يتم الالتزام بها عادة في المناطق الريفية. وغالبًا ما تكمّل النظم المؤسسية الموازية بعضها البعض في قضايا الحكم خلال مرحلة ما بعد الاستعمار. لماذا استمرت النظم والمؤسسات التقليدية؟، وكيف يؤثر الانقسام المؤسسي على عملية بناء الحكم الديمقراطي؟، وكيف يمكن التخفيف من مشاكل التماسك المؤسسي؟ جميعها قضايا لم تحظَ بعدُ بالاهتمام الكافي في الدراسات الإفريقية؛ نظرًا لسيطرة المنظور الحداثي الغربي عليها.
وتشير الدلائل إلى أن المؤسسات التقليدية استمرت في التحوُّل في مرحلة ما بعد الاستقلال، مع استمرار تطور النظم الاجتماعية والاقتصادية لإفريقيا. وعلى الرغم من هذه التغييرات، يُشار إلى هذه المؤسسات على أنها تقليدية ليس لأنها لا تزال تحتفظ بحالتها الأولى التي كانت عليها في الماضي الإفريقي قبل الاستعمار، ولكن لأنها وُلِدَتْ إلى حدّ كبيرٍ من رحم النُّظُم السياسية قبل الاستعمار، ويتم التقيُّد بها بشكل أساسي مِن قِبَل السكان في القطاعات التقليدية.
بعد التجربة الاستعمارية، يمكن اعتبار المؤسَّسَات التقليدية مؤسسات غير رسمية بمعنى أنها لا تَحْظَى بالقبول العام مِن قِبَل الدولة. ومع ذلك، فهي ليست مجرد عادات وقواعد مُنَظِّمَة لسلوك الأفراد. إنها أنظمة حُكم، كانت ذات طابع رسمي زمن ما قبل الاستعمار، ولا تزال موجودة بطريقة شبه رسمية في بعض البلدان، وبطريقة غير رسمية في بلدان أخرى.
ونظرًا لأن المؤسسات التقليدية لديها آليات خاصة بصنع القرار وفضّ المنازعات، وحتى تخصيص الموارد؛ فإنها تستطيع ممارسة دور مُهِمّ في تحقيق تسويات سياسيَّة والقضاء على العنف في المناطق الملتهبة؛ مثل دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق.
على أن الدرس الأهم الذي تقدّمه الثورة السودانية لإفريقيا يتمثّل في نجاح مبدأ “حلول إفريقية للمشكلات الإفريقية”. لقد كان تدخل الاتحاد الإفريقي في الأزمة السياسية السودانية حاسمًا من حيث عدم الاعتراف بالتغييرات غير الدستورية في الحكومات الإفريقية. وعليه فقد أضحى قرار تعليق العضوية حتى استعادة الحكم المدني يتوافق مع الممارسة السابقة لمجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي.
ومع ذلك، يتعين على الاتحاد الإفريقي ومجلسه وضع استراتيجية ملموسة للتعامل مع استمرار العنف في سياق مفاوضات التسوية بين العسكريين والمدنيين في أعقاب الانقلاب؛ إذ لا يخفى أن القانون التأسيسي لهذه الهيئات يمنحها سلطة التدخل المباشر في الدول الأعضاء في حالة وجود تهديد خطير للسلم والأمن.
وعادة ما تُترك وسائل وطريقة تنفيذ هذه السلطة للاتحاد الإفريقي بموجب القانون، ولكنها قد تشمل نشر قوات حفظ السلام. ولا يخفى أن نجاح الاتحاد الإفريقي في هذا الصدد سوف يغرس الثقة بين الدول الأعضاء، كما أنه سوف يعزّز من صورته كمنظَّمة فعَّالة وذات مصداقية على الساحة الدولية.