روضة علي عبد الغفار
صحفية متخصصة في الشأن الإفريقي
يقول الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا عن نفسه: “لم يكن تفوقي بالمدرسة نتيجة لنبوغي، بل لإصراري وتصميمي على النجاح”.
لكن بعد أكثر من ربع قرن من حُكم جنوب إفريقيا نسي حزب المؤتمر الوطني الإفريقي مقولة قائده، واستند لتاريخه الحافل وثِقَله السياسي، وتغافل عن السعي ليكون الاختيار الأول لشعبه دائمًا، فتلقَّى صفعة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وخسر الأغلبية لأول مرة في تاريخه.
وبعد هذا التغيير الجذري في تشكيل حكومة جنوب إفريقيا؛ حيث أصبحت مُؤلَّفة من عدة أحزاب لا حزب واحد لأول مرة في تاريخ البلاد؛ تُثار عدة تساؤلات، من أبرزها: ما أبرز التغييرات التي ستطرأ على سياسة الدولة الداخلية والخارجية؟ وماذا سيكون موقف الحكومة الجديدة من الصراع العربي الإسرائيلي؟ وهل سيتمكن حزب المؤتمر الوطني من الاستمرار في دعواه القضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية؟ هذا وأكثر تتناوله “قراءات إفريقية” في هذا التحقيق.
انتهاء الهيمنة!
لطالما اعتُبرت هزيمة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بانتخابات عامة شيئًا غير وارد، لكنَّ الدعم الذي كان يحظى به تقلَّص خلال السنوات القليلة الماضية بعد أن سئم المواطنون من ارتفاع نسبة الفقر، وعدم المساواة، وانتشار الجريمة، مع استمرار انقطاع الكهرباء، فضلًا عن انتشار الفساد في صفوف الحزب.
وقد حصل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة على نحو 40% من الأصوات، بينما حصل حزب المعارضة الرئيسي “التحالف الديمقراطي” على 21%، وجاء حزب جاكوب زوما في المركز الثالث بنسبة 15% تقريبًا من الأصوات.
وأمضى الحزب أسبوعين في محادثات مع بعض أحزاب المعارضة؛ لدعمه في تشكيل حكومة ائتلافية وطنية ليحافظ على بقائه في السلطة، وعليه حصل الرئيس الحالي رامافوزا على فترة رئاسية ثانية بعد الاتفاق مع حزب التحالف الديمقراطي وحزب الحرية “إنكاثا” على تشكيل حكومة ائتلافية.
ويكثر التساؤل عما إذا كانت هذه نهاية حزب نيلسون مانديلا، في هذا الصدد يقول أستاذ علم الاجتماع بجامعة ويتواترسراند بجوهانسبرج، د. روجر ساوثال: إنه من المحتمل جدًّا أن تكون الانتخابات الأخيرة بداية النهاية لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي؛ لأنه الآن أصبح يعمل كحزب سياسي تقليدي يسعى جاهدًا للحصول على الأصوات، بدلاً من الظهور كحركة تحرير.
وأضاف “ساوثال” لـ “قراءات إفريقية”: إنه رغم احتمالية استعادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي لأغلبيته في الانتخابات المقبلة؛ إلا أن الاحتمال الأكبر هو أنه يسير على خط هبوطي لن يتعافى منه أبدًا، فعلى مر السنين خسر الحزب الكثير من أعضائه، وكان تشكيل حزب الرئيس السابق “زوما” سببًا في ذلك.
ويعتقد “ساوثال” أن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي قد يتمكَّن من استعادة ثقة الشعب؛ ولكن يجب أن يعمل بطريقة مختلفة عن السنوات الأخيرة، فقد اكتسب سُمعة سيئة بسبب وجود الكثير من الفاسدين وغير الأكفاء داخل الحزب وإظهار التردد في محاسبتهم، وعلى الرغم من كثرة الحديث عن “التصحيح الذاتي”؛ فإنه يستمر بنفس الطريقة القديمة؛ لذلك خسر ثقة شعب جنوب إفريقيا.
وأكَّد أستاذ علم الاجتماع أنه يتعين على جنوب إفريقيا تعلُّم كيفية إدارة التحالفات بين الأحزاب؛ فـرغم أنها اكتسبت خبرة على مستويات الحكومة المحلية والإقليمية في السنوات الأخيرة، لكنَّ الكثير منها لم يكن مُشجِّعًا. وأوضح أن حكومة الوحدة الوطنية تتألف من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي والتحالف الديمقراطي؛ اللذين يتبنيان سياسات مختلفة تمامًا؛ فالأول يرتدي زي الاشتراكية، والأخير ليبرالي، وبالتالي فإن أيّ حكومة وحدة وطنية من المرجَّح أن تكون هشَّة، وسوف يتوقف ذلك على ما إذا كان الساسة سيضعون مصالح البلاد قبل مصالح أحزابهم.
عصر جديد:
“إن تشكيل حكومة وحدة وطنية يمثل لحظة ذات أهمية عميقة، إنها بداية عصر جديد”؛ هذا ما قاله رامافوزا في حفل تنصيبه رئيسًا للبلاد. ومع تجاوز خسارة الحزب الحاكم للأغلبية فإن جنوب إفريقيا، التي عاشت تحت حكم حزب واحد لمدة 30 عامًا، تقف أمام تحدٍّ فارق قد يُهدِّد استقرارها السياسي.
فالتحالف بين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وحزب التحالف الديمقراطي المعارض قد يؤدي إلى عدم استقرار بسبب الاختلافات الأيديولوجية الحادة بين الحزبين.
في هذا الصدد يقول أستاذ الدراسات الدولية والدبلوماسية بجامعة جنوب إفريقيا، د. أنطوني فان، في حواره مع “قراءات إفريقية”: إن نتائج الانتخابات أحدثت فوضى في صفوف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي؛ بسبب الاعتقاد السائد منذ فترة طويلة بأنه زعيم المجتمع الموثوق بلا منازع، وأردف أن هناك اعترافًا عامًّا بين مكونات المجتمع المدني أن الحزب الحاكم غير قادر على توجيه البلاد إلى مسار تنموي، ولهذه يضطر الآن إلى تقاسم السلطة مع الأحزاب السياسية التي حظيت بدعم كبير من الناخبين.
وتساءل “فان” عما إذا كان حزب المؤتمر الوطني الإفريقي سيتماسك أيديولوجيًّا مع هؤلاء الشركاء الجدد وكيف سيتماسك؛ لأن المحاولات الرامية إلى تحقيق الاستقرار في سياق جمهور انتخابي منقسم وغير راضٍ هي محاولة محفوفة بالمخاطر، وأشار إلى أن مواطني جنوب إفريقيا الذين خضعوا لحكم الحزب الواحد لمدة 30 عامًا لا يتمتعون بخبرة كبيرة في كيفية تقاسم السلطة بشكل ناجح.
وقال: إن سياسات التحالف في السياق الإفريقي بشكل عام غير مستقرة بطبيعتها؛ لأن العديد من المجتمعات لم تتمكن من إنشاء دولة قوية قادرة على استيعاب المشاحنات والاقتتال الداخلي بين الطبقة السياسية.
وأشار “فان” إلى عاملين قد يُمكِّنان جنوب إفريقيا من التغلُّب على هذا التحدي الخطير؛ الأول هو أن أجهزة الدولة على المستوى الإستراتيجي لا تزال متماسكة، وكبار موظفي الخدمة المدنية قادرون على الخدمة من أجل المصلحة الوطنية.
والعامل الثاني هو دعوة المجتمع المدني بقيادة مجموعة من الزعماء البارزين في جنوب إفريقيا إلى إجراء حوار وطني لوضع أجندة للتعافي، تهدف إلى تعزيز قدرة الطبقة الحاكمة في جنوب إفريقيا على المُضي قدمًا نحو التجديد والتعافي. وأضاف “فان”: إن الوقت سيحدّد ما إذا كانت “حكومة الوحدة الوطنية” قادرة على تحقيق الاستقرار المنشود والنمو الاقتصادي والتخفيف من حدة الفقر أم لا.
ما الذي سيتغير؟
ترددت تساؤلات عن السياسة الخارجية لجنوب إفريقيا في ظل الوضع الجديد للحكومة؛ إذ بموجب الاتفاق الائتلافي يجب اتخاذ القرارات في حكومة الوحدة بدعم 60% من الأطراف المشاركة، وهذا يعني أن المؤتمر الوطني الإفريقي لن يتمكن من اتخاذ القرارات بنفسه.
فإذا توافق المؤتمر الوطني الإفريقي وحزب “إنكاثا” على شيء ما، وكان التحالف الديمقراطي غير موافق، يمكن تمرير القرار، ولكن إذا اختلف كلّ من التحالف الديمقراطي وحزب “إنكاثا” مع حزب المؤتمر الوطني، فلن يتمكن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي من التصرُّف بمفرده.
هذا وقد اتفق حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وشركاؤه على سياسة خارجية تقوم على حقوق الإنسان والالتزام بالدستور والمصلحة الوطنية، والحل السلمي للنزاعات لتحقيق الأجندة الإفريقية 2063، والتعاون بين بلدان الجنوب، والتعاون الإفريقي والتعددية وعالم عادل وسلمي ومُنصف.
في هذا الصدد يرى د. أنطوني فان أن الأمر يعتمد على قدرة الرئيس على تشكيل فريق للشؤون الخارجية يتفق على سياسة واحدة وهذا ممكن، ويعتقد “فان” أن السياسة الخارجية سوف تستمر على ذات الخطوط الحالية؛ حيث يخدم الدبلوماسيون المصلحة الوطنية، ويعززون آفاق إفريقيا على الساحة الدولية، ويدعمون أهداف الجنوب العالمي على نطاق واسع.
ويتوقع “فان” أن تعمل جنوب إفريقيا على تعميق علاقاتها مع الأعضاء الحاليين والجدد في تحالف البريكس، بينما من الناحية التجارية ستعطي الأولوية لاتفاقية التجارة الحرة الإفريقية، في حين ستحاول الحفاظ على توازن تجاري متساوٍ بين الغرب (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي) والشرق (الصين وروسيا وأعضاء البريكس).
وتماشيًا مع موقف السياسة الخارجية المؤيد لإفريقيا والمؤيد لبريكس، لا يتوقع “فان” أن الإدارة القادمة لجنوب إفريقيا ستنسحب من موقفها بشأن فلسطين، وأضاف: سيُفضّل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي التخلّي عن الشراكة مع حزب التحالف الديمقراطي بدلاً من السماح للأخير بتحديد مواقف السياسة الخارجية بشأن أوكرانيا وغزة.
جنوب إفريقيا ومُحاكمة إسرائيل:
يُعدّ دعم جنوب إفريقيا للقضية الفلسطينية متجذرًا بعمق في كفاحها المستمر ضد الفصل العنصري؛ حيث وصف الرئيس سيريل رامافوزا إسرائيل مرارًا وتكرارًا بأنها دولة فَصْل عنصري.
لكن هناك مخاوف من تغيُّر نهج جنوب إفريقيا مع إسرائيل وفلسطين؛ حيث كان الدعم داخل البلاد تجاه القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية يناير الماضي، حول ارتكاب إسرائيل “إبادة جماعية” في غزة، ضعيفًا بين الأحزاب السياسية باستثناء حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم.
وفي حين يُصِرّ حزب المؤتمر الوطني الإفريقي على أنه لن يُغيّر موقفه الداعم لفلسطين رغم الائتلاف الجديد؛ إلا أن المحللين يرون أن جنوب إفريقيا بقيادة هذا التحالف قد تحتاج إلى إجراء مقايضات داخلية للاستمرار بسياستها تجاه فلسطين بعد أشهر من قيادة الجهود العالمية لمحاسبة إسرائيل على هجومها على غزة، والذي أودى بحياة أكثر من 37 ألف شخص، وإصابة أكثر من 85 ألفًا، معظمهم من النساء والأطفال.
في هذا الصدد يقول مدير مركز الدراسات الإفريقية الشرق أوسطية بجنوب إفريقيا، نعيم جينا، في حواره مع “قراءات إفريقية”: إن الغالبية العظمى من مواطني جنوب إفريقيا تؤيد موقف الحكومة الداعم للشعب الفلسطيني، ويؤيدون القضية التي رفعتها بلادهم في محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل؛ إلا أن هناك مؤيدين لإسرائيل بطبيعة الحال، بما في ذلك أعداد متزايدة من الصهاينة المسيحيين الذين يدعمون إسرائيل.
وأضاف “جينا” أن من بين الأحزاب العشرة التي تُشكّل حكومة الوحدة الوطنية، ثلاثة منها مؤيدة لإسرائيل، بما في ذلك التحالف الديمقراطي الذي حصل على 6 وزارات و6 نواب وزارات في الحكومة الجديدة.
وأشار “جينا” إلى قرار حزب التحالف الديمقراطي بعدم التدخل في العلاقات الدولية والتركيز على القضايا الداخلية، وأن زعيمه صرح علنًا أن حزب التحالف لو كان في الحكومة السابقة لما كان أطلق قضية محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، ولكن الآن بعد أن أصبحت القضية قيد النظر، فإن حزب التحالف لن يدعو إلى سحبها.
وعليه لا يعتقد “جينا” أن حكومة الوحدة الوطنية سوف تضع أيّ عقبات في طريق متابعة قضية محكمة العدل الدولية، وأضاف أن وزير العلاقات الدولية والتعاون الجديد هو رونالد لامولا، الذي كان وزير العدل في الحكومة السابقة، وأحد الأشخاص الرئيسيين في قضية محكمة العدل الدولية، ومن المتوقع أن يكون حازمًا في متابعة هذه القضية مثل سلفه.
وعن تقديم حزب المؤتمر الوطني لتنازلات بشأن سياساته الداخلية؛ فهذا مُستبعَد بحسب “جينا”؛ حيث إن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي قد ألصق سُمعته بدعم الشعب الفلسطيني، وسيكون من الصعب للغاية تقويض تلك المواقف حتى لو أراد ذلك.
وختامًا…
تبقى مناصرة القضايا العادلة أحد أهم مصادر الشرعية لحركات التحرُّر في ميزان الشعوب، وتجعل من شعاراتها ونضالها تطبيقًا عمليًّا وشاهدًا على صدق مبادئها، وهكذا كان حزب نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا في دعمه للقضية الفلسطينية، وقد أقدمت جنوب إفريقيا على ما لم تُقْدِم عليه أيّ دولة عربية حين رفعت قضية ضد إسرائيل؛ إلا أن اختبار القِيَم الإنسانية والأخلاقية في ظل الأحداث الجارية كشف الستار عن تفضيل العديد تغليب المصالح السياسية على احترام القِيم الإنسانية والأخلاقية التي طالما تغنَّى بها العالم الحر.
فهل تصمد المواقف المُشرّفة لجنوب إفريقيا في دعمها للقضية الفلسطينية في ظل تَغيُّر قيادتها؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.