تواجه المحكمة الجنائية الدولية مشكلة المصداقية في أفريقيا، إذ دائما ما تكون محلّ انتقادات لتركيزها على الدول الأفريقية متجاهلة الدول الواقعة في المناطق الأخرى. وذلك لوجود وقائع فظيعة وقعت خارج أفريقيا في السنوات الأخيرة، ولم توجد أي دور للمحكمة الجنائية الدولية في معاقبة مسؤوليها ومرتكبي جرائمها. ومن ثمّ قام الاتحاد الأفريقي بانتقاد المحكمة بدعوى أنها تستهدف الأفارقة، واصفا إياها بـ”العنصرية”, وطالب الاتحاد في عام 2013 من المحكمة إرجاء قضية كينيا، لتكون هذه المطالبة علامة استياء من عملياتها “غير العادلة”.
بدأت المعركة الحقيقية بين دول أفريقيا والمحكمة الجنائية الدولية في يونيو عام 2015، عندما تجمع عشرات من الزعماء الأفارقة في جوهانسبرج بجنوب أفريقيا لحضور قمة الاتحاد الأفريقي، بمشاركة الرئيس السوداني عمر البشير – الذي صدر بحقّه مذكرة اعتقال دولية بتهمة الإبادة الجماعية. فغلب على نقاش القمة الرئيسي حول المساواة بين الجنسين, سؤالٌ رئيسي آخر وهو: هل ستعتقل جنوب أفريقيا – التي تعتبر منارة لحقوق الإنسان في القارة الأفريقية – رئيس السودان وتسلمه للمحكمة الجنائية الدولية؟
على الرغم من أن محكمة محلية في جنوب أفريقيا أمرت باعتقاله, إلا أن طائرة الرئيس عمر البشير تمكنت من الإقلاع من بريتوريا بمساعدة من حكومة جنوب أفريقيا.
بعد عامٍ من تلك الحادثة التي تراها جنوب أفريقيا منتهكة لسيادتها، اتخذت أمرها لتكون أول دولة تسحب عضويتها رسميا من المحكمة الجنائية الدولية، بحجة أن التزاماتها تجاه المحكمة تمنعها من ضمان الحصانة الدبلوماسية للقادة والمسؤولين. موضّحة – على لسان وزير العدل – أن عليها أن تكون قادرة على تقديم هذه الحصانة لكي تتمكن من استضافة مفاوضات السلام.
غضب أفريقي جماعي
إن القراءة المتأنية لتصريحات جلّ الزعماء الأفارقة تعطي انطباعا بأنهم لا يرون احتياجهم للمحكمة الجنائية الدولية, حتى وإن كان بعضهم لا يزال يقرّ بأهميتها ويفكّر في طبيعة عضويته فيها.
ليست جنوب أفريقيا وحدها تظهر غضبها من الجنائية الدولية. فالرئيس الأوغندي يوري موسيفيني، وعد في وقت سابق بأنه سيبذل قصارى جهده كي تخرج كل دول القارة من المحكمة, وأشاد بقرار جنوب أفريقيا للانسحاب، مضيفا بأن المحكمة الجنائية الدولية “غير مجدية”. هذا بالرغم من أنه – أي رئيس أوغندا – طلب مرةً من المحكمة مساعدته في محاكمة المقاتلين المتمردين في بلاده.
وفي وقت سابق من شهر أكتوبر، صوت البرلمان البوروندي لصالح مغادرة المحكمة، وتقديم انسحابها إلى الأمم المتحدة. ووصفت دولة غامبيا المحكمة في الأسبوع الماضي, بأنها “المحكمة القوقازية الدولية” لاضطهاد وإذلال الناس ذوي الألوان، وخصوصا الأفارقة.
أما كينيا, فقد قامت بطرح مقترح الخروج من المحكمة الجنائية الدولية في قمة الاتحاد الافريقي في يناير من هذا العام, داعية إلى “وضع خارطة طريق لانسحاب الدول الأفريقية”، وهو مقترح لقي تأييدا بين الدول الأفريقية الأخرى الأطراف في نظام روما الأساسي.
وأشارت حكومة ناميبيا أيضا إلى أنها تعيد النظر في عضويتها، قائلة إن البلاد لم تعد بحاجة إلى المحكمة الجنائية الدولية بعد أن صارت مؤسساتها القضائية ثابتة وقوية. ولعل ما يعزز فكرة الانسحاب الجماعي هو موقف الاتحاد الأفريقي الذي أفاد بأنه سيدرس الانسحاب الشامل من المحكمة.
مبررات الانسحاب
قد تكون أهمية المحكمة الجنائية الدولية في كونها – وفق محللين – “الملاذ الأخير” للضحايا المظلومين من قبل حكومات كانت مسؤوليتها حمايتهم. غير أن قرار جنوب أفريقيا وبوروندي وغامبيا بالخروج قد يؤدي إلى قيام الآخرين بالشيء نفسه، وهذا قد يعني بداية النهاية للمؤسسة.
منذ تأسيس المحكمة الجنائية الدولية في 2002, مع عضوية 122 دول عالمية منها 34 دولة أفريقية، فَقَدَ الأفارقة رغبتهم في المحكمة، لأسلوبها “المتحيز. وعزّز فقدان الرغبة كون تسعة من الحالات العشر التي تنظر فيها المحكمة حاليا بالتحقيق هي حالات تتعلق بالبلدان الأفريقية. وقد ظن البعض أن انتخاب الغامبية “فاتو بنسودا” في منصب كبير المدعي العام للمحكمة في عام 2011 سيغير وجهة نظر الأفارقة وآرائهم تجاه المحكمة, إلا أن شيئا من ذلك لم يتغير.
فنّدت المحكمة الجنائية الدولية الاتهامات الموجهة إليها بالتحيز، وقامت بدعوة الأكاديميين وغيرهم من الخبراء أن يشاركوا في النقاش، مشيرة إلى أن عدد الحالات الأفريقية التي تقوم بالتحقيق فيها تقتصر على الدول الموقعة على نظام روما الأساسي للمحكمة وعلى الجرائم التي ارتكبت بعد عام 2002.
ووفقا لـ”كوارتز”, فإن كل الحالات – باستثناء حالتين – المتعلقة بأفريقيا والموجودة حاليا في مكتب المدعي العام، نُقلت إلى المحكمة الجنائية الدولية من قبل الدول الأفريقية نفسها. وكما قال المتحدث باسم المحكمة “فادي العبد الله”, فإن الحالتين المستثنيتين هما في ليبيا والسودان، وقد وردت التحقيقات فيهما إلى مكتب النيابة العامة بعد تصويت من قبل مجلس الأمن الدولي. وهو يصرّ على أن المحكمة لا تستهدف الشخصيات الأفريقية، وإنما تتصرف فقط باسم ضحاياها.
وفي حملته للدعوة لانسحاب البلدان الأفريقية من الجنائية الدولية, أشار الرئيس الأوغندي موسيفيني, إلى أنها تتجاهل وجهات نظر القادة الأفارقة بشأن القضايا الأفريقية, واستشهد بحالة ليبيا عندما نصحت لجنة الاتحاد الأفريقي, الأوروبيين بعدم التدخل في الأزمة، لكنهم تغاضوا عنها. كما أن الوزير الأوغندي للشؤون الخارجية، هنري أوكيلو أوريم، أكد أن المحكمة الجنائية الدولية طالما تزعج ولا تحترم الزعماء الأفارقة المنتخبين شرعيا، مضيفا إلى أن أعضاء المحكمة متغطرسون ويقوضون بشكل خطير صوت الأفارقة.
قد يكون “التحيز” الواضح للمحكمة الجنائية الدولية وافتقارها إلى الموضوعية, نتيجة لعدم المساواة السياسية العالمية من قبل القوى التي تتحكم في المنظمة التي تتبعها المحكمة. لأن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تهيمن عليه الصين وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وكل تلك الدول الخمسة تملك مقعدا دائما وحق الفيتو في المجلس. بينما الدول الأفريقية تطالب منذ فترة طويلة بالإصلاح وإعطائها مقاعد زائدة, وما زالت تفشل في تحقيق ذلك.
وكما قالت بونيتا ميارسفيلد, أستاذة في مركز يتس للدراسات القانونية التطبيقية بجنوب أفريقيا, فإن مجلس الأمن في بعض الحالات، قد تجاهلت طلبات القادة الأفارقة للتعامل مع قضاياهم الخاصة أولا. ووصفتْ “ميارسفيلد” موقف مجلس الأمن تجاه القضايا الأفريقية بأنه يتميز بـ”عدم الاحترام العميق” وأن تلك الثقافة تتخلل عمليات المحكمة الجنائية الدولية. لأنها “تأتي بتحيز وغطرسة وعجرفة تركت طعما مرا جدا في أفواه الدول الأفريقية”.
هل من بديل؟
رغم ما يتمتع به خروج الدول الأفريقية من الجنائية الدولية من تأييد, إلا أن الأكاديميين الأفارقة يرون أنه من الضروري إيجاد محكمة قارية تسدّ مسدّ الجنائية الدولية. وفي هذا الصدد يتذكر الجميع أن هناك محكمة تابعة للاتحاد الأفريقي وهي: “المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب”.
في يونيو 1998 تمّ تأسيس المحكمة الخاصة بالقارة بموجب المادة 1 من البروتوكول الملحق بالميثاق الأفريقي للحقوق على إنشاء محكمة أفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، والذي اعتمدته آنذاك الدول الأعضاء في منظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي حاليا) في واغادوغو ببوركينا فاسو. وجاء البروتوكول حيز التنفيذ في 25 يناير 2004 بعد أن تم التصديق عليها من قبل أكثر من 15 بلدا.
لكن هذه المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب لا تستخدم إلا إذا أحيلت القضية إليها من قبل الدول الأعضاء فقط وليس من قبل الأفراد. وفي مايو من هذا العام، نجحت المحكمة في مقاضاة الرئيس التشادي السابق حسين حبري بتهمة ارتكاب جرائم حرب والحكم عليه بالسجن المؤبد. غير أن الاتحاد الأفريقي في عام 2014، صوّت لمنح الرؤساء والمسؤولين في المستويات الرفيعة حصانة من الملاحقة القضائية، تاركًا ضحايا الجرائم التي ترعاها الدولة دون أي قدرة أو محكمة لمساءلة الظالمين. وفي حدّ تعبير الأستاذة القانونية ميارسفيلد, تخيل لو تم استخدام هذا التصويت (من قبل الاتحاد الأفريقي) لصالح الخير!.