تتراجع الخطوط الأيديولوجية الواضحة في الوقت الراهن في توجُّهات القوى الكبرى تجاه قضايا القارة الإفريقية تراجعًا واضحًا؛ وتبدو وسط حالة التنافس الأمريكي-الصيني الجارية تفسيرات تُرجعها غالبًا إلى الصراع الأيديولوجي بين رأسمالية أمريكية عتيدة وتوجُّه جنوب عالمي صيني لإعادة صياغة موازين القوى الدولية؛ لكنَّ إعادة قراءة بداية التقارب (أو التفاهم) الأمريكي الصيني في مطلع سبعينيات القرن الماضي (والذي تبلور في إعلان شنغهاي Shanghai Communique (27 فبراير 1972م) في نهاية زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون التاريخية لبكين، والذي قاد لتطبيع كامل في العلاقات بين البلدين بعد تسوية خلافاتهما الجذرية)، ووجود تحفظات أفروأمريكية وإفريقية عليها تكشف مدى صعوبة وتعقُّد “الفواصل الأيديولوجية”، ودورها في صياغة سياسات القوى الكبرى تجاه القارة، وتهميشها الفعلي للرؤى الإفريقية ومصالح شعوب القارة ودولها.
ويتجسَّد مثالًا على ذلك: حالة الناشطة الأفروأمريكية شيرلي جراهام دوبويس (1896-1977م)؛ والتي لعبت أدوارًا متعددة في الولايات المتحدة وفي غانا وفي مصر وفي العديد من الدول التي شهدت ساحات وتفاعلات الوحدة الإفريقية والجنوب العالمي وآفاق تعاون بين دُوَله.
وانتهى بها المطاف في الصين؛ حيث كشفت لمقربين منها قبيل وفاتها عن عزمها إدانة ما وصفته بـ”الإمبريالية الاشتراكية” كقراءة واضحة ودقيقة لمواقف الصين تجاه أنجولا وتشيلي على وجه التحديد، وما يمكن البناء عليه من وجود قراءة مغايرة لها للصين في فترة مبكّرة تسهم في قراءة أدق للوضع الراهن وطرح تساؤلات عن مدى استدامة تلك “الإمبريالية الاشتراكية” من عدمه بعد تحوّلات مطلع الألفية الجديدة، وبروز الصين في قائمة أهم وأكبر شركاء القارة الإفريقية اقتصاديًّا وسياسيًّا.
شيرلي دوبويس والتجربة الصينية: إرهاصات الجنوب العالمي
كانت الصين حاضرةً في فِكْر وليام دوبويس (الملهم الأول لفكر زوجته شيرلي جراهام) منذ صدور كتابه Souls of Black Folk (1903) ضمن تصوُّره لوحدة الشعوب الملوّنة في العالم. ورحَّب في وقتٍ لاحقٍ بالثورة الصينية في العام 1911م، لكنَّه عبَّر عن شكوكه في احتمالات قبول الصين في المجتمع الدولي (في سياق إرهاصات الحرب العالمية الأولى وتداعياتها)، ورأى في مقال مهم نشرته دورية The Crisis في العام 1918م ضرورة تأييد الحرب العالمية الأولى لتوقُّعه أن الصراع سيُحسِّن من وضع “شعوب العالم الداكنة”، وسينتج عنه استقلال الصين، وتحقيق حكم ذاتي في الهند، وقيام مؤسسات نيابية في مصر، وأن تصبح إفريقيا للأفارقة وحدهم.
وفي ثلاثينيات القرن الماضي رأى دوبويس (مثله مثل فلاديمير لينين والحزب الشيوعي الصيني) في الحرب العالمية الثانية وسيلة للترقي الاجتماعي والاقتصادي “لغير البيض في أرجاء العالم”، وربط النضال السياسي الأفروأمريكي مباشرةً بالقوى الوطنية في الصين.
وفي المقابل، كان الحضور الصيني في غانا -التي كانت بدَوْرها محطةً مهمةً لاستضافة وليام وشيرلي دوبويس، ومنحهما الجنسية الغانية بعد سحب جوازي سفرهما بقرار من الأجهزة الأمنية الأمريكية- ملموسًا منذ نهاية القرن التاسع عشر في شكل عمالة وافدة للعمل في حكومة ساحل الذهب الاستعمارية بأعداد صغيرة، ثم بأعداد كبيرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لا سيما في قطاع تعدين الذهب. وتعمَّقت العلاقات الصينية الغانية بشكلٍ كبيرٍ بعد مؤتمر باندونج (1955م) ثم تبني كوامي نكروما إستراتيجيات التنمية الوطنية وفق النموذج الصيني (والياباني)([1]).
وقد وطئت قدما شيرلي دوبويس أرض الصين للمرة الأولى في منتصف شهر فبراير عام 1959م، بعد زيارتها المهمة لأكرا، وحضورها مؤتمر الشعوب الإفريقية؛ لإلقاء كلمة زوجها وليام دوبويس في المؤتمر نيابةً عنه؛ حيث استقبلهما وفد رفيع من الحزب الشيوعي الصيني؛ تقديرًا للأهمية الفكرية والفنية والإثنية للضيفين (مع ملاحظة إسهام وليام دوبويس في سنواته الخمس الأخيرة حتى العام 1963م في تحقيق ترادف وثيق بين الوحدة الإفريقية والوحدة الآسيوية Pan-Asianism ونضالهما المشترك)، وكانت الزيارة جزءًا من جولة عالمية قاما بها بعد إصدار المحكمة العليا الأمريكية حكمًا بعدم دستورية قرار سحب جوازَي سفرهما لأسباب سياسية، وشملت الجولة لندن وموسكو؛ (حيث تناولا العشاء مع الزعيم نيكيتا خروشوف، وبرفقة الفنان والناشط الأفروأمريكي البارز بول روبسون)، وبكين([2]) ضمن محطات أخرى.
دوبويس وفشل تجربة نكروما: هجمة الإمبريالية المضادة!
وللمفارقة جاءت أغنى مراحل حياة شيرلي دوبويس بعد وفاة زوجها وليام دوبويس (1963م)، وعملها مستشارةً ومسؤولةً في حكومة الرئيس الغاني كوامي نكروما حتى سقوطه في فبراير 1966م؛ وهي رحلة أهَّلتها لمكانة بارزة بين قلة من المثقفات الإفريقيات الأكثر تأثيرًا في القرن الماضي، وارتياد الدفاع عن قضايا السود، والإنتاج الثقافي، وعلاقات السود واليسار، والبان أفريكانيزم، والسود وسياسات الولايات المتحدة الخارجية، والسود والنزعة النسوية، وحياة وليام دو بويس نفسه بصفته أبرز المفكرين الأفارقة في القرن العشرين ([3]).
كما عزَّز التداخل الكبير بين الشخصي والسياسي في حياتها قدرتها على الترحال، وأن تغادر بروكلين هايتس إلى أكرا في غانا (1961م)، ومنها إلى القاهرة (1966م)، بسهولة انتقالها إلى نيويورك في الحرب العالمية الثانية، وانضمامها إلى الحزب الشيوعي الأمريكي الذي كان يتمتع بقبول شعبي في ذلك الوقت؛ بفضل التحالف العسكري بين موسكو وواشنطن، وإسهامها في غانا في دعم حركة البان أفريكانيزم، ثم تبنيها “المشروع الناصري” في مصر، وانجذابها للماوية في آخر سني حياتها (توفيت في الصين خلال رحلة علاج من مرض سرطان الثدي 1977م).
وفي مطلع العام 1964م اختارها نكروما لتقلُّد منصب مديرة بالتليفزيون الوطني الغاني، ومِن ثَم ساهمت بشكل جاد في تعزيز الكوادر التي احتاجتها هذه المؤسسة في بداياتها، ولم تشارك شيرلي دوبويس بقوة في تطوير أول شبكة تليفزيون وطني في غانا فحسب، بل إنها كانت تعمل على أعلى المستويات داخل حكومة نكروما كمديرة لدار النشر المملوكة للدولة، وعملت بشكل مباشر مع الرئيس نكروما، وكانت ضمن الدائرة الداخلية اللصيقة المكوّنة من مستشاريه.
وبعد عودتها من القمة الثانية لمنظمة الوحدة الإفريقية بالقاهرة (يوليو 1964م) تشاورت مع مالكوم إكس Malcolm X (الحاج مالك شاباز Malik Shabazz) بخصوص جهود منظمة الوحدة الأفرو- أمريكية Organization of Afro-American Unity (OAAU) حديثة التكوين في بناء ودعم النضال داخل الولايات المتحدة بين رؤساء الدول والأمم المتحدة وحركات التحرر الوطني، كما كان مقررًا أن تعلن عن عقدها دورات حول الكتابة التليفزيونية في أكرا بهدف تدريب كادر كُتّاب التليفزيون الوطني بغانا، ولكن تم تأجيل المشروع بضعة شهور. وحصلت على توقيع دونالد أوجدن سيتوارت D. Ogden Stewart، الشيوعي الأمريكي البارز الذي كان يعيش في لندن، للعمل مديرًا للكتابة التليفزيونية في غانا. وكشفت شيرلي جراهام في خطاب أرسلته إلى محاميها في نيويورك برنارد جافي Bernard Jaffe أنها تلقَّت ما يقرب من 150 طلبًا للمشاركة في دورة الكتابة، وبدأت بالفعل بحضور 76 طالبًا. وبحلول 17 أكتوبر 1964م، وبعد عشرة أسابيع من بداية الدورة، كان هناك حضور أسبوعي منتظم ما بين 50-60 فردًا([4]).
وحضرت شيرلي جراهام في غانا في خِضَمّ تصاعد توتر علاقات الأخيرة مع الولايات المتحدة، كما اتضح في مطلع العام 1964م عندما توصَّل مسؤولو السفارة الأمريكية في أكرا إلى أن نكروما -لأسباب لم يعلنوها- قد أصبح مقتنعًا تمامًا أن الأمريكيين يستعدون لإسقاطه “بأي وسيلة كانت”، ورغم دهشتهم من تصور نكروما هذا فإن برقية معلومات استخباراتية من وكالة الاستخبارات المركزية بتاريخ فبراير 1964م كشفت أن “عملاء الحزب المتحد بغانا Ghana United Party سيقومون بمحاولة أخرى لاغتياله (نكروما)”، ربما في غضون عشرة أيام، وقدمت الوكالة معلومات مفصلة عن ديناميات السياسات الداخلية في غانا([5])، ما يمكن عدّه استباقًا استخباراتيًّا لعملية الانقلاب على نكروما (فبراير 1966م) خلال وجوده في زيارة رسمية للصين؛ الأمر الذي مثَّل نجاحًا مذهلًا لهجمة إمبريالية مرتدة ضد نكروما وجهوده لتمتين علاقاته مع الصين للفكاك من الإمبريالية الغربية أو ما سماه بالاستعمار الجديد.
شيرلي جراهام دوبويس في الصين: “الإمبريالية الاشتراكية”؟
لفت جيرالد هورن G. Horne، مؤلف السيرة الذاتية المعروف عن شيرلي جراهام دوبويس([6])، إلى عزمها خلال أيامها الأخيرة في العاصمة الصينية بكين في صيف العام 1977م على تقديم رؤية نقدية لما أسمته “الإمبريالية الاشتراكية”؛ تُمثّل نقدًا لمجمل السياسات الصينية والسوفييتية تجاه العالم الثالث أو “الجنوب العالمي”، وبحسب سرد هورن الذي اعتمد في عمله بالأساس على مساعدة لصيقة من ابنها ديفيد دوبويس فإنها “كانت تُخْبِر ابنها في صيف 1976م أنه بعد ثلاثة أسابيع في الصين المدارية سأعود للقاهرة بصحة تامة (حيث كانت تقيم منذ العام 1966م)، وسأعود بقوة للكتابة المكثَّفة”.
وأرادت السفر من الصين إلى القاهرة بمفردها عبر كراتشي (طريق سفرها المعتاد)، ثم المضي إلى لندن، لكنّ أطبائها وابنها منعوها من ذلك. وغيَّرت هزة أرضية كبيرة في الصين حينذاك خططها واضطرتها لمغادرة شنغهاي. وكانت هزة صادمة بدرجة 8.3 درجة على مقياس ريختر.
وصممت دوبويس على العودة للعمل بقوة (خلال تلقيها العلاج في الصين)، وجمعت كتابًا مصورًا حول حياة زوجها وليام دوبويس، وبدأت في إعداد كتاب حول الصين، وكتابة رواية، وسرَّها كثيرًا نبأ تصدُّر مؤلفها للسيرة الذاتية للزعيم يوليوس نيريري قائمة الأعمال المرشحة جائزة كوريتا سكوت كينج Coretta Scott King Award. لكنّ أحد زوار شيرلي جراهام في أيامها الأخيرة في الصين لاحظ ميلها لانتقاد سياسات بكين الخارجية، وآثارها في أنجولا وشيلي. وأبلغت دوبويس بالفعل محاميها برغبتها في إصدار بيان سياسي قامت بصياغته ونشره على أوسع نطاق ممكن لافتة إلى أنها كتبته “للجماهير التي تستغلها “الإمبريالية الاشتراكية”، أو ما يُطلَق عليه “الوفاق” (ربما في إشارة للمصالحة الأمريكية-الصينية التي جرت مطلع السبعينيات).
ويمكن ملاحظة أن تبدلات مواقف بكين من حركات التحرر الأنجولية (بالتزامن مع تحولات علاقاتها مع الولايات المتحدة)؛ كانت سببًا رئيسًا -ضمن قراءات أخرى- لتحوّل رؤية شيرلي جراهام دوبويس وصياغتها فكرة “الإمبريالية الاشتراكية”؛ فقد عُرف عن بكين دعمها حركة MPLA باعتبارها التنظيم الأنجولي الرئيس داخل مجموعة حركات التحرر؛ حيث زار وفد من الحركة بقيادة أوغسطينو نيتو Agostinho Neto بكين في يوليو 1971م، أقدمت بعدها بكين على تقديم مساعداتها لأنجولا لهذه الحركة عبر صندوق منظمة الوحدة الإفريقية لدعم حركات التحرر الإفريقية.
لكنّ الصين سرعان ما دخلت في نهاية العام 1973م (بعد نحو عام من “إعلان شنغهاي” مع الولايات المتحدة وتداعياته في ضبط سياسات الصين الخارجية على نحوٍ لا يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة بشكل عام) في علاقات سادة/ عملاء مع تنظيم FNLA المقرب من واشنطن، وعلى خلفية التقارب الصيني الزائيري بعد زيارة موبوتو سيسي سيكو (رئيس زائير المقرب من الولايات المتحدة والغرب والمعروف بصلاته الحركية بجهاز الاستخبارات الأمريكية) إلى بكين في يناير 1973م، وتمييز هذه الزيارة بأنها بداية تغيّر السياسة الخارجية الصينية في الإقليم وتجاه أنجولا على وجه الخصوص لصالح تقارب أكبر مع الغرب، وتنافس أشد حدة مع الاتحاد السوفييتي([7]).
خلاصة:
رغم إعجاب شيرلي دوبويس (وزوجها وليام دوبويس) المطوَّل بالتجربة الاشتراكية الصينية؛ فإن تحولات عقد السبعينيات أسهمت على وجه التحديد في تراكم توجُّه نقدي لدى الأولى لهذه التجربة برُمّتها لا يمكن فَصْله عن مجمل صلتها بالصين منذ خمسينيات القرن الماضي حتى وفاتها على الأراضي الصينية ودفنها بها وسط مراسم رسمية من الدولة؛ تقديرًا لجهودها في تعزيز الوجود الصيني في إفريقيا.
……………………………..
[1] Naaborko Sackeyfio-Lenoch, Decolonization, Development, and Nation Building in Ghana-Asia Relations, 1957-1966, The International Journal of African Historical Studies, 2016, Vol. 49, No. 2 (2016), pp. 243-4.
[2] Yunxiang Gao, W. E. B. and Shirley Graham Du Bois in Maoist China, Du Bois Review, 10:1 (2013) pp. 59- 60.
[3] Horne, Gerald, Race Woman: The Lives of Shirley Graham Du Bois, New York University Press, New York, 2000, p. 1.
[4] Abayomi Azikiwe, Pan-Africanism, Shirley Graham Du Bois and Nkrumah’s Ghana, Pambazuka News, March 16, 2017 www.pambazuka.org/pan-africanism/pan-africanism-shirley-graham-du-bois-and-nkrumah%E2%80%99s-ghana
[5] Horne, Gerald, Race Woman: The Lives of Shirley Graham Du Bois, Op. Cit. pp. 197-8.
[6] Ibid.
[7] Steven F. Jackson, China’s Third World Foreign Policy: The Case of Angola and Mozambique, 1961-93, The China Quarterly, Jun., 1995, No. 142 (Jun., 1995), pp. 400-1.