تتعزَّز فُرَص الاهتمام الواضح بصناعة الذكاء الاصطناعي وتطبيقاتها في القارة الإفريقية في ضوء الحاجة المُلِحَّة لحدوث طفرات اقتصادية باتت ضرورةً لخروج دول القارة من دائرة التخلُّف وتأخر النمو الاقتصادي وارتباطه بشكل مُبالغ فيه بالاضطرابات الاقتصادية العالمية مع طول فترات التأثيرات السلبية لتلك الاضطرابات على الاقتصادات الإفريقية، وتعقيد قدراتها على التعافي من الأزمات العالمية.
لكن تظل صناعة الذكاء الاصطناعي، رغم جاذبيتها الواضحة، رهنًا بحزمة من الاعتبارات؛ أبرزها توفر بنية تحتية وأساسية لائقة في الأسواق الإفريقية، تسهم في تيسير عمل تلك الصناعة وتطبيقاتها، وضمان عدم حدوث صدمات متكررة في تلك البنى، بالإضافة إلى معدل مناسب لتطور المهارات والكفاءات المحلية على نحوٍ يناسب أهمية الصناعة المتسارعة بالفعل.
يتناول المقال الأول مسألة بالغة الحساسية، وهي توظيف بعض النُّظُم أو الأطراف الفاعلة في السياسات داخل الدولة الواحدة للذكاء الاصطناعي في عمليات انتخابية حاسمة؛ إما لصالح ضبط هذه العمليات وضمان شفافيتها، أو لتوجيه أصوات الناخبين نحو وجهة بعينها بناء على ضخّ مدخلات سياسية ربما ترقى إلى درجة التضليل.
أما المقال الثاني فيتناول جزئيًّا أدوار المرأة الإفريقية في صناعة الذكاء الاصطناعي وبعض العقبات التي تواجهها في سياق رؤية جندرية متحيزة بشكل واضح.
ويتناول المقال الثالث تجربة عملية لمشروعات صناعة الذكاء الاصطناعي في القارة الإفريقية تقوم في مجملها على تصوُّر أن القارة السوداء تمثل فرصة حقيقية أمام نمو هذه الصناعة في المستقبل القريب، وهي رؤية يمكن وصفها بالمتطلعة أو المتفائلة، وإن طرح المقال عددًا من العقبات أمام مثل هذا السيناريو بناءً على التجربة العملية التي يُقدّمها النموذج الذي يطرحه المقال.
الذكاء الاصطناعي والانتخابات الإفريقية: الكفاءة تتفوق على الثقة والحكم المناسب([1])
وصفت مجلة “تايم” العام 2024م بأنه “عام الانتخابات الكبير” super election year؛ إذ بدا مدهشًا تأهُّل نحو 4 بلايين نسمة للتصويت في انتخابات مختلفة طوال العام الجاري في دول العالم المختلفة. وهناك الكثير منهم في القارة الإفريقية؛ حيث ستُجْرَى انتخابات رئاسية وبرلمانية وعامة في النصف الثاني من العام الجاري. وسيلعب الذكاء الاصطناعي دورًا رئيسًا في انتخابات العديد من الدول.
وفي الواقع فإنه أخذ يلعب دورًا بالفعل في هذه الانتخابات؛ إذ باتت نُظم الذكاء الاصطناعي تُستخدم من عدة جوانب. وعلى سبيل المثال فإنها تقوم بتحليل كميات هائلة من البيانات مثل أنماط التصويت. وتقوم بإدارة العديد من مواقع المحادثات الآلية من أجل تشجيع الناخبين. وتقوم تلك النُّظم بتوثيق أصوات الناخبين وتحديد التهديدات السيبرانية التي قد تلحق بهم.
لكنَّ الكثير من المواطنين العاديين في إفريقيا لا يعلمون (بالضبط) ما الذي يمكن أن يفعله استخدام الذكاء الاصطناعي في العمليات الانتخابية الإفريقية. ويمكن القول: إن آثار الذكاء الاصطناعي على الديمقراطية الانتخابية في إفريقيا ستعتمد بالأساس على عاملين؛ أولهما الشرعية الشعبية والثقة في الذكاء الاصطناعي نفسه. والآخر قدرة الدول الإفريقية على إحكام وتنظيم وفرض رقابة على استخدام جميع المعنيين السياسيين لأدوات الذكاء الصناعي، بما في ذلك الأحزاب السياسية في الحكم وفي المعارضة.
أمثلة متنوعة:
يُعدّ من قبيل التبسيط المُخِلّ القول: إن استخدام الذكاء الاصطناعي في الانتخابات خير مُطلَق أو شرّ مُطلَق. والحقيقة هي أن هذا الاستخدام يمكن أن يكون على الحالين، ويعتمد ذلك بالأساس على عاملين رئيسين؛ هما: ثقة الناخبين (العامة) في الذكاء الاصطناعي وقدرة الدول الإفريقية على تنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي، لا سيما لدى المعنيين الرئيسيين. كما يجب أن نأخذ في الحسبان اعتبارات مثل سياسة الهوية، والتنوع، والأُمية الرقمية. وتلعب جميع هذه الاعتبارات دورًا في تزايد الاستقطاب، وتعرّض قطاعات انتخابية معينة لنوع من فقر المعلومات والتضليل.
وعلى سبيل المثال فإنه خلال انتخابات كينيا في العام 2017م اتهمت شركة Cambridge Analytica للاستشارات باستخدام الذكاء الاصطناعي لاستهداف تضليل دوائر من المصوتين، وربما أثَّر ذلك السلوك على نتيجة الانتخابات بالفعل.
وفي جنوب إفريقيا هناك وعي متزايد بأن المؤثرين المجهولين anonymous influencers، الذين يقفون عادةً على طرفي نقيض المواقف السياسية، يسهمون بشكل كبير في التضليل والتجهيل disinformation على الإنترنت. وتدخل مثل هذه الشخصيات، التي تظل مجهولة بشكل كبير لدى عامة الشعب، موضوعًا ومحتوى استقطابي بشكل واضح خلال المناقشات، ويتم ذلك على الأرجح خلال عمليات آلية (يتم بثها تلقائيًّا دون وجود بثّ مباشر أو عرض كافٍ لها).
لكن يملك الذكاء الاصطناعي قدرات على تعزيز الشرعية الانتخابية. وقد راقب مشروع أوماتي Umati في كينيا في العام 2022م وسائل التواصل الاجتماعي لتتبُّع خطابات الكراهية باستخدام تحليل حَوْسبي معروف باسم معالجة اللغة الطبيعية natural language processing. وبمجرد وجود محتوى مُؤذٍ يُحدِّده الذكاء الاصطناعي فإنه كان يتم حذفه على الفور.
وخلال الانتخابات العامة في سيراليون في العام 2021م حددت ما عُرف بمنصة مراقبة الانتخابات وتحليلها election Monitoring and Analysis Platform وواجهت خطاب الكراهية والتضليل الإعلامي والتحريض على العنف. وعلى نحو مُشابه في انتخابات جنوب إفريقيا الأخيرة؛ فقد استخدمت أدوات مدعومة بالذكاء الاصطناعي لمواجهة انتشار التضليل الإعلامي.
وفي أماكن أخرى كانت تقنية بصمة الوجه تُستخدم خلال الانتخابات العامة في غانا؛ من أجل التأكد من هويات الناخبين ومنع التزوير. وقد حدّد ما عُرف بنظام تطابق بصمة الأصبع الآلي Automated Fingerprint Identification System في الانتخابات النيجيرية في العام 2019م عمليات ازدواج تسجيل الناخبين وعزَّز بقوة دقة الجداول الانتخابية.
دروس وتحديات:
تقدّم هذه الحالات دروسًا قيّمة للدول الأخرى في القارة، التي يعمل في بعضها هذا النظام من تطبيقات الذكاء الاصطناعي أم لا. لكنْ هناك عقبات عديدة يجب على هيئات حوكمة الانتخابات تجاوزها في أغلب الدول الإفريقية، ومنها نُدرة المتخصصين المَهَرة في علوم الداتا والتعلم الآلي، ومحدودية البنية الأساسية التكنولوجية في بعضها. كما أنه ثمة فجوات تنظيمية وسياسية يجب تجاوزها. كما لا يمكن تجاهل الجانب الأخلاقي، وعلى سبيل المثال: تم توجيه انتقادات لبرامج ذكاء اصطناعي في كينيا (نظام الهويات الوطنية Huduma Namba) ونيجيريا (أغلب شركات الاتصالات بها)؛ لعدم توفير حماية كافية للبيانات. كما اتهمت تلك الجهات باستخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي للتجسس على الناخبين.
المرأة وريادة الذكاء الاصطناعي: تجارب ملهمة([2])
دخلت المرأة الإفريقية في قطاع الذكاء الاصطناعي في الأعوام الأخيرة بشكل ملموس. وثمة نماذج كثيرة في هذا المسار؛ ومنها تشارليت نجوسان Charlette N’Guessan التي تشغل منصبًا كبيرًا في حلول البيانات والنظام البيئي Data Solutions and Ecosystem Lead في شركة أميني Amini، وهي شركة تقنية بادئة في مجال تكنولوجيا الفضاء والذكاء الاصطناعي لمعالجة مشكلة ندرة البيانات البيئية في إفريقيا والجنوب العالمي.
وتملك “نجوسان” مؤهلًا هندسيًّا إضافةً إلى تحصيلها تعليمًا غير رسمي. وكانت مُولَعة باستخدام التكنولوجيا لبناء حلول تؤثر بالإيجاب على المجتمعات المتعددة في المناطق التي تعمل بها، وقادها هذا الطموح إلى الانتقال إلى غانا في العام 2017م بهدف اكتساب خبرة في سوق أنجلوفوني بامتياز. وقررت بالتعاون مع عدد من شريكاتها بناء حلول آمنة، ويعول عليها وفعَّالة للمؤسسات المالية من أجل سدّ فجوة خدمات الأفراد غير المتمتعين بالخدمات المصرفية في المناطق النائية، وإرساء الثقة في التطبيقات التي يتم العمل عليها أونلاين. وقاد هذا الاهتمام إلى تطوير الشركة لتقنية التعرُّف على الوجه وتكنولوجيات ذكاء اصطناعي أخرى تم وضعها لتيسير عمل الجهات المختلفة في مُعالَجة المصادقة على العميل أونلاين، مع التأكد من وجود مدخلات واضحة من السوق الإفريقي في هذه التطبيقات.
وواجهت الشركة رغم جهودها تلك العديد من المصاعب والتحديات في العام 2023م، مما قاد القائمات على عمل الشركة إلى وقف التسويق التجاري لمنتجها في السوق.
وفيما يخص البعد “الجندري” في صناعة الذكاء الاصطناعي؛ فقد رأت صاحبات الشركة أن سوق هذه الصناعة يخضع بشكل كبير لهيمنة الذكور، ويعكس تحيزات مجتمعية وتنميطات جندرية. وقد واجهت العاملات في الصناعة مرة واحدة على الأقل أنهن يعملن في المكان الخطأ؛ لأنه كان من المتوقع أن يعملن في مهن أخرى غير الذكاء الاصطناعي.
وعملت الشركة مع “اللجنة رفيعة المستوى للتكنولوجيات الصاعدة بالاتحاد الإفريقي” High Panel on Emerging Technologies of the African Union كمستشار خبير بالذكاء الاصطناعي، وركزت في عملها على صياغة إستراتيجية ذكاء اصطناعي قارية للاتحاد الإفريقي شارك فيها معنيون من خلفيات ودول متنوعة، وكان هدف هذه الإستراتيجية هو توجيه الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي للاعتراف بأهمية قيمة الذكاء الاصطناعي لصالح النمو الاقتصادي، وتطوير إطار يدعم تطور حلول الذكاء الاصطناعي فيما يقوم بحماية الأفارقة.
ورأت رئيسة الشركة أنه ثمة مبادئ رئيسة تنصح بها بخصوص بناء مسؤولية الذكاء الاصطناعي للسوق الإفريقي، ومنها: مسائل السياق، وذلك لضمان أن تكون النماذج المتَّبعة متنوعة وشاملة لمعالجة التمييز المجتمعي القائم على الجندر أو الأديان أو العِرْق أو العمر… إلخ؛ وسهولة الاستخدام؛ والمحاسبية (بمعنى صياغة من المسؤول عندما تكون نتائج النموذج متحيزة أو ضارة).
خبراء الذكاء الاصطناعي والمستقبليات يؤكدون: الفرصة في إفريقيا([3])
يرى عدد من خبراء الذكاء الاصطناعي والمستقبليات أن إفريقيا تمثل فرصة واعدة للتأثير في مستقبل هذا القطاع، لا سيما في ظل تطور نماذج التعلم الكبيرة Large Learning Models (LLMs). ورأى فريق “AI and the Future of Work in Africa Whitepaper”، الذي ساهمت في تكوينه شركة مايكروسوفت العالمية ومجموعة من خبراء الصناعة في إفريقيا، أن للقارة فرصة مميزة للتأثير في مسار الصناعة مع تطور نماذج التعلم الكبيرة، لا سيما أن بيئة مثل هذه التطبيقات لا تزال جديدة. ووفقًا لفريق هوايتبيبر Whitepaper يتوقع كثيرون تغيير الذكاء الاصطناعي المحدث Generative AI (GenAI) بشكل كبير لوظائف المتخصصين في المعرفة، والمهارات المطلوبة، والمنتجات التي تنتج منهم. ويظهر بحث لماكينزي McKinsey أن الذكاء الاصطناعي المحدّث يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع إنتاجية العمال بنحو 0.6% سنويًّا بحلول العام 2040م، اعتمادًا على معدل تبنّي التكنولوجيا وإعادة توزيع وقت العمال في أنشطة أخرى.
ويرى البعض أن “الذكاء الاصطناعي المحدّث يمتلك مقدرات هائلة لتقدُّم القدرات البشرية”؛ لأنه مع حصول مزيد من الأفراد في أرجاء القارة على أدوات الذكاء الاصطناعي المحدَّث عبر أجهزتهم المرتبطة بالإنترنت والبيانات المتوفرة الأخرى؛ فإن الحواجز أمام استخدام تلك الأدوات آخِذ في التراجع فيما يمكن أن تزيد المهارات بشكل واضح. كما أنه تجدر ملاحظة، حسب جاكي أونيل Jacki O’Neill، مدير ببحوث مايكروسوفت إفريقيا Microsoft Research Africa، أن العمال لن يستفيدوا فحسب من معلومات الذكاء الاصطناعي المُحدّث، بل إن هذا النمط يمكن أن يسهم في تحول وتطوير صناعات مثل الزراعة والرعاية الصحية والخدمات؛ شريطةَ أن يتوازن ذلك مع إعداد الشباب بالمهارات المطلوبة لسوق العمل المستخدمة للذكاء الاصطناعي؛ من أجل ضمان ألا يتأخروا عن ركب هذا التقدُّم التكنولوجي.
ويرى خبراء أنه ثمة دور كبير للذكاء الاصطناعي المحدّث، ليس فحسب في مسار تغيير بيئات العمل، ولكن في تعزيز الفرص أمام الشباب، وخلق فرص العمل والابتكار والمساعدة في قيادة النمو الاقتصادي والاستقرار في أرجاء القارة، حسب رافي فات Ravi Bhat كبير مسؤولي التكنولوجيا والحلول في مايكروسوفت إفريقيا Microsoft Africa. ومِن ثَم فإنه من الأهمية بمكان بناء المهارات في أرجاء سوق العمل بداية من كيفية توزيع واستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي المحدث بفاعلية في أماكن العمل، إلى بناء تطبيقات وتكنولوجيات ملائمة ومُبتكَرة في قمة هذه النماذج المذكورة، إلى مهارات بحثية والابتكار لما بعد التخرُّج في مجال التعلم الآلي، والمعالجة اللغوية الطبيعية، والتفاعل البشري-الحوسبي، والأمن السيبراني، ونظم أخرى لا يتسع المجال لذِكْرها.
وبتصميمه الحساس ثقافيًّا ولغويًّا يمكن أن يصبح GenAI أكثر ملاءمةً للعمال الأفراد، والتعلم من التفاعلات، وأن يكون أداةً شخصيةً تحترم الخصوصية، وتُعزّز المهارات المميزة لكل عامل على حدة. كما يمكن أن يعمل مُوجِّهًا لتعزيز شمولية وجدية المهارات والقدرات المتنوعة للعمال الأفارقة. كما يمكن لـ GenAI أن يكون ملائمًا تمامًا كأداة تُركّز على مجتمع ما على نحوٍ يدعم العمل الجماعي والتنمية المجتمعية. ويمكن للتكنولوجيا أن تساعد في صنع القرار، وتقييم المخاطر، وتحليل البيانات، وتمكين رواد الأعمال في مشروعاتهم. وبالنسبة للقطاع غير الرسمي فإن أدوات GenAI المعاد تصميمها سترفع من قدرات أصحاب العمال وتقدم مساعدات مخصصة لحاجاتهم المميزة.
إن ثورة الذكاء الاصطناعي في إفريقيا لم تَعُد مجرد أمر ممكن فحسب، بل إنها حدث جارٍ بالفعل، وتلتزم الشركات الكبرى بالعمل إلى جانب الأفراد والحكومات والشركاء وصُنّاع السياسات والمعنيين في أرجاء القارة للإعداد لمستقبل يكون فيه الذكاء الاصطناعي أداةً مندمجةً تمامًا في نسيج العمل والمجتمع في إفريقيا.
…………………………………….
[1] Shamira Ahmed And Mehari Taddele Maru, AI and African Elections: Efficiency Gains Hinge on Trust and Proper Governance, Democracy in Africa, June 19, 2024 https://democracyinafrica.org/ai-and-african-elections-efficiency-gains-hinge-on-trust-and-proper-governance/
[2] Dominic-Madori Davis, Women in AI: Charlette N’Guessan is tackling data scarcity on the African continent, Tech Crunch, June 22, 2024 https://techcrunch.com/2024/06/22/women-in-ai-charlette-nguessan-is-tackling-data-scarcity-on-the-african-continent/