جلست أفكر مليًّا وأنا أتابع مباريات نهائيات كأس إفريقيا لعام 2019م في أمر الساحرة المستديرة. يُغرَم بها الصغار والكبار، ويتحدث الجميع عنها في الحانات والطرقات، وحتى في غرف المعيشة. ينقسم الناس حولها شِيَعًا و”أولتراس”؛ كل بفريقهم فَرِحُون، ولا سيّما إذا تمكَّن من تحقيق المجد والنصر الموعود.
ومع ذلك لم تَعُد كرة القدم مجرد لعبة للتسلية، وإنما تم توظيفها لتحقيق غايات سياسية. ليس هذا فحسب فقد أثر الاتجاه العالمي نحو “سلعنة” كرة القدم الاحترافية على الرياضة الأكثر شعبية بمستويات غير مسبوقة – من الملكية، والرعاية، ومبيعات التذاكر إلى تراخيص التلفزيون وما إلى ذلك. ولا شك أن عولمة كرة القدم الإفريقية تساعد – ولو بشكل غير مباشر – على تكريس علاقات التبعية والاستغلال بين إفريقيا وأوروبا. مع ذلك، لا تزال كرة القدم على المستويات كافة تحظى بشعبية جارفة، وتحتل مكانة مهمة في المجتمع الإفريقي.
وعليه لم يكن مستغرَبًا أن تعلن رواندا في وقتٍ سابقٍ من هذا العام أنها وقَّعت صفقة رعاية مثيرة للجدل بعنوان “قم بزيارة رواندا” مع فريق الأرسنال الإنجليزي في صفقة تبلغ قيمتها 30 مليون جنيه إسترليني. ويمثل تصدر اللاعبين الأفارقة للبطولات الأوروبية مجالًا آخر تم فيه دمج إفريقيا تمامًا في شبكات الرياضة الرأسمالية العالمية. لقد أضحت عمليات نقل اللاعبين الأفارقة للأندية الأوروبية تجارة رائجة وتُدِرّ مبالغ طائلة. على سبيل المثال أصبح لاعب كرة القدم السنغالي ساديو ماني أغلى لاعب كرة قدم إفريقي في التاريخ عندما انضم إلى ليفربول في عام 2016م مقابل رسوم نقل بقيمة 35 مليون جنيه إسترليني.
أحد الجوانب المسكوت عنها في دراسة الرأسمالية في إفريقيا، ومسألة الاندماج في الاقتصاد العالمي؛ هي منظور كرة القدم التجارية الذي يوفّر أرضًا خصبة للتحليل التجريبي. على سبيل المثال فيما يتعلق بتطوير الملاعب، وخصخصة الملكية، والإعلام والبث، والرعاية والإعلان، والشعارات، وسلوك المشجعين (رفع الأعلام والأغاني والطقوس)، وغير ذلك. ولا شك أن تحليل هذه المناطق يسمح لنا باستكشاف تداعيات دَمْج هذه التجارة الأكثر رواجًا في العوالم الاجتماعية الأقل تسويقًا. علاوة على ذلك، تُعد كرة القدم مجالًا اجتماعيًّا يتمتع بمستويات لا تُضاهى من الشعبية والمشاركة اليومية التي توفّر فرصة إضافية للتحليل.
على أن سلعنة كرة القدم أدَّت إلى فسادها في السياق الإفريقي. فقد كشف تحقيق سرِّي لمدة عامين قام به الصحفي الغاني المثير للجدل أنس أريمايو أنس عن أشكال متعددة للفساد المالي في عالم كرة القدم الإفريقية حتى أنه أطلق على الفساد اسم اللاعب رقم 12. لقد تمَّ تصوير العديد من مسؤولي كرة القدم في جميع أنحاء غرب إفريقيا وكينيا متلبسين وهم يقبلون الرشاوى المالية.
وتُطلق أسماء كثيرة على الفساد الكروي في إفريقيا؛ فقد تصبح الرشوة “هدية”، أو “حافزًا”، أو حتى “إكرامية” بلغة أهل مصر المحروسة. ويشير إليها النيجيريون بحسبانها “مشاركة في الكعكة الوطنية” بما يعني أن هذه الممارسة مقبولة، وتتسم بالمشروعية إلى حد ما. لقد أضحت عضوية الاتحاد الوطني أو لجنة أو نادٍ رياضي مسألة مربحة جدًّا؛ حيث يتنافس عليها الطامحون أو إن شئت قل الطامعون. وعلى الرغم من انتشار الفقر في معظم أنحاء إفريقيا؛ فإن هناك مليارات الدولارات التي يتمّ ضخها في عالم كرة القدم الإفريقية الرهيب.
وبعيدًا عن مسألة الاندماج الإفريقي في الرأسمالية العالمية، ودور كرة القدم فيه؛ فإن تسييس هذه الرياضة الأكثر شعبية في المجتمعات الإفريقية قد بدأت منذ مرحلة تصفية الاستعمار، ولا تزال حتى الآن. في عام 1958م استطاعت جبهة التحرير الوطني في الجزائر تجنيد عشرة لاعبين كانوا في صفوف المنتخبات الفرنسية ليمارسوا دورهم النضالي من أجل استقلال الجزائر. لقد كانت جبهة التحرير تسعى من وراء هذه الحركة تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية؛ هي: 1. حرمان فرنسا من جهود اللاعبين الرئيسيين، ولا سيما أن ثلاثة منهم كانوا ضمن كتيبة كأس العالم؛ 2. زيادة الوعي الدولي بالكفاح الجزائري من أجل الاستقلال. 3. التأكيد على أن نضال جبهة التحرير الوطني يحظى بدعم الجزائريين، في الداخل والخارج. وبالفعل تُوِّجَتْ هذه الجهود بالنجاح مع استقلال الجزائر عام 1962م.
وقد استُخدمت كرة القدم بعد ذلك، وتم توظيفها سياسيًّا من جانب كل الأنظمة السياسية؛ بِغَضِّ النظر عن طبيعة النُّخبة الحاكمة. لقد كانت أداة لتحقيق حلم نكروما في الاستقلال وتحقيق الوحدة الإفريقية. أطلق على الفريق القومي الغاني اسم “بلاك ستارز” إحياءً لحركة ماركوس جارفي عام 1922م الخاصة بالعودة إلى إفريقيا من العالم الجديد. وقد شارك المنتخب الغاني في العديد من احتفالات الاستقلال الخاصة بالدول الإفريقية. وعلى صعيد آخر كان الرئيس كينيث كاوندا مفتونًا بكرة القدم حتى إنه شكَّل فريق كرة قدم لمجلس وزرائه أطلق عليه “كي كي ا”، وأقيمت مباريات مع ممثلي السلك الدبلوماسي في بلاده، بينما كان يمارس هو مهمة التحكيم. وقد أطلق على المنتخب الزامبي كذلك اسم “كي كي 11″؛ تيمنًا باسم الرئيس المؤسس.
واستنادًا إلى نموذج سنايدر في القومية عام 1990م؛ فإن كرة القدم في الدول الإفريقية التي ولدت منقسمة وبحدود مصطنعة ساعدت على بناء هوية موحَّدة متخيلة في الإدراك العام لدى مختلف الجماعات العرقية.
لا شكَّ أنَّ تعزيز الشعور القومي يمثل الوسيلة الناجعة التي تحقق بها الدول المنقسمة سياسيًّا وعرقيًّا ودينيًّا الوحدة والتماسك الوطني. هنا تمارس الرياضة عمومًا وكرة القدم على وجه التحديد دورها في بناء الهوية الوطنية، وإثارة المشاعر الخاصة بالوحدة والانتماء.
يقول نيلسون مانديلا، الذي استخدم الرياضة لتوحيد جنوب إفريقيا المنقسمة عرقيًّا: “تتمتع الرياضة بالقدرة على تغيير العالم. إنها تمتلك القدرة على الإلهام وعلى توحيد الناس بطريقة لا يقوى عليها إلا القليل. إنها تتحدث إلى الشباب بلغةٍ يفهمونها. ويمكن للرياضة أن تخلق الأمل حيث يكون اليأس. إنها أقوى من الحكومات”.
نتذكر جميعًا كيف كان ديدييه دروغبا يُمثّل وجه بلاده المشرق؛ كان رمزًا لساحل العاج الجديدة بعد الحرب الأهلية. لقد عانت البلاد من حرب أهلية دامت خمس سنوات. بيد أنها كانت لحظة حماسية في تاريخ الأمة العاجية عندما تمكَّن المنتخب القومي بقيادة دروغبا من الوصول إلى نهائيات كأس العالم عام 2006م في ألمانيا. في أثناء مباراة التأهل في أكتوبر 2005م، دخل دروغبا غرفة تبديل الملابس مُحَاطًا بزملائه، ثم خرَّ على ركبتيه، متوسلاً الفصيلين المتحاربين إلقاء أسلحتهما وإعطاء السلام فرصة. لقد كان الوصول إلى كأس العالم بمثابة الموجة العاطفية المثالية التي استطاع من خلالها دروغبا أن يُوحِّد الأمة، ويسهم في بناء السلام. ليس هذا فحسب؛ بل لقد اقترح ديديه دروغبا أن تقام مباراة فريقه في تصفيات كأس الأمم الإفريقية ضد مدغشقر في بواكيه، التي كانت معقل التمرد شمال البلاد.
أصبح نجوم كرة القدم في إفريقيا مثل صموئيل إيتو، وجورج وياه، ومحمد صلاح أيقونات عالمية. إنهم يتعدّون دورهم كمجرد لاعبين محترفين في عالم كرة القدم، ويُنظَر إليهم كرمز للأمة بأكملها. في البلدان التي تعاني من صعوبات سياسية واقتصادية، يمكن لهؤلاء النجوم أن ترفع من هِمَم الناس وتُعزّز من روح الانتماء القومي. وربما يقرر بعض هؤلاء اللاعبين الدخول مباشرة إلى عالم السياسة كما حدث مع جورج وياه، لاعب كرة القدم الليبيري الأشهر الذي تمكّن من الفور بمنصب الرئاسة عام 2017م.
عندما نظّمت جنوب إفريقيا مسابقة كأس الأمم الإفريقية عام 1996م؛ احتفالاً بانتهاء عهد التفرقة العنصرية البغيض؛ قاطعتها نيجيريا حاملة اللقب. لم يكن قرار المقاطعة رياضيًّا، وإنما كان قرارًا مُسَيَّسًا مِن قِبَل الحاكم العسكريّ لنيجيريا آنذاك الجنرال ساني أباتشا. لقد أصدر أباتشا أوامره بإعدام تسعة من الناشطين في مجال حقوق الإنسان؛ أبرزهم الكاتب كين سارو ويوا عام 1995م، وهو الأمر الذي انتقده بشدة نيلسون مانديلا باعتباره عملاً بربريًّا غير مشروع. وعليه كانت المقاطعة النيجيرية لكأس الأمم الإفريقية تعكس أزمة دبلوماسية وسياسية بين نيجيريا وجنوب إفريقيا في ذلك الوقت.
وفي سياقات أنظمة أوتوقراطية تم توظيف كرة القدم مِن قِبَل الحاكم كما حدث في أوغندة في ظل حكم عايدي أمين. كان الرجل الذي جاء إلى السلطة عنوة على أفواه البنادق عام 1971م -بعد الانقلاب على نظام ميلتون أوبوتي- مفتونًا بكرة القدم، وكان بسبب خلفيته الرياضية يحسبها ساحة للنزال وتحقيق النصر. كان حريصًا على أن يحقق فريقه الفوز على زامبيا وتنزانيا تحديدًا بسبب تأييدهما لميلتون أوبوتي. وربما كان الجنرال أمين يحاول تشتيت الانتباه عن انتهاكات حقوق الإنسان المتعددة في ظل حكمه.
ومن جهة أخرى يقضي الرئيس بيير نكورونزيزا معظم وقته في السفر عبر أنحاء بوروندي مع فريقه، هاليلويا إف سي. كان الرئيس يعمل قبل توليه منصبه مدربًا لفريق الجيش. ومن الطريف أنه في إحدى مباريات فريقه مع الفِرَق المحلية تجرَّأ عليه بعض اللاعبين وطرحوه أرضًا أكثر من مرة، وهو ما أدَّى إلى اعتقال اثنين من المسئولين المحليين بتهمة إهانة الرئيس.
لقد بات واضحًا أنَّ كرة القدم التي جلبها المستعمر الأوروبي إلى إفريقيا -ربما للتسلية والترفيه- باتت تُستخدم منذ الاستقلال وحتى اليوم كأداة سياسية لتحقيق أغراض شتَّى. كما أنها أضحت مطية من حيث “سلعنتها ” أي: اعتبارها سلعة تجارية لتعزيز اندماج إفريقيا في منظومة الرأسمالية العالمية. ربما يؤثر ذلك كله على قِيَم الاحتراف والأخلاق في هذه الرياضة الأكثر شعبية؛ إذ لا يخفى أن تسييس كرة القدم وسيطرة قِيَم السوق عليها يؤدِّي إلى انخفاض مستويات الاحتراف، بسبب هجرة اللاعبين الموهوبين، وشيوع الفساد في إدارة هذه الرياضة.
إذن ما الذي يمكن فعله لتصحيح هذا؟
ثمة حالة من الاشتباك المعقَّد بين كرة القدم والسياسة. كيف يمكننا إيجاد التوازن الصحيح للسماح بالاحتراف ومساعدة صناعة كرة القدم على النمو؛ بحيث تخرج من موقعها الطرفي على هامش كرة القدم الأوروبية؟ ذلك هو التحدي!