تُعدُّ إثيوبيا بلدًا مليئًا بالتناقضات. إنها واحدةٌ من الدول التي تشهد أسرع معدلات النمو الاقتصادي في العالم، وقد تمَّ اعتبارها قصة نجاح في الواقع الإفريقي المرتبك، وذلك مِن قِبَل الجيران والشركاء في جميع أنحاء العالم. ولكن مع استمرار الاحتجاجات واسعة النطاق والتي استمرت سنين عددًا، بات الجميع ينظر بعين القلق إلى نموذج الفيدرالية العرقية الذي أرسى دعائمه ميليس ورفاقه على طراز ستالين الماركسي.
ويمكن للنظام اللغوي والأدبي الشهير في إثيوبيا المعروف باسم “الشمع والذهب” جمع هذا التناقض الظاهر بدقة، ويُفسر لنا سرّ التحديات الجسام التي يواجهها رئيس الوزراء الإصلاحي أبيي أحمد. كيف نفهم ثورة العرقيات والتي اتَّخذت شكلاً دمويًّا كما ظهر مؤخرًا في “بحر دار” عاصمة إقليم الأمهرة؟
إن هذا النظام اللغوي يُعبِّر عن طريقة تفكير معينة. طريقة التفكير تلك ترتبط كذلك بالحالة الاستثنائية الإثيوبية. الشمع هو ما لُوحظ على السطح. الذهب يدل على ما يكمن تحته.
تُخبرنا الحكاية التاريخية أن الكاهن أليكا جبري-حنا في القرن التاسع عشر، ذهب لتناول العشاء في كوخ متواضع لأحد أصدقائه. وبينما كانت الأسرة تقوم بإعداد الطعام، رأى الكاهن فأرًا يخرج من السلة التي تحتوي على خبز إنجيرا التقليدي. لم يرغب الضيف في إحراج أيّ شخص، لذلك التزم الصمت ولم يقل شيئًا. ومع ذلك بعد تناول الطعام اختار أن يدعو لهم بكلمات بها تورية: فقد دعا الله للأسرة بأن لا يصيبها الفقر والعوز. بَيْدَ أنَّ الذهب تحت الشمع هنا، وهو أن المعنى المقصود يأتي من حقيقة أن كلمة الفقر والعوز بالأمهرية “aytu” هي تستخدم أيضًا بمعنى “الفئران”، وذلك للتعبير عن استيائه من عدم نظافة الطعام المقدَّم له.
عندما يتولى أبيي أحمد مهمة صعبة في حُكم إثيوبيا، يتعين عليه أن يعمل ببراعة مشابهة. إن شعبيته وشرعيته مستمَدَّة من وضعه النسبي باعتباره من خارج الطبقة الحاكمة التقليدية؛ سواء الأمهرة أو التيغراي، بَيْدَ أنَّه اليوم زعيم الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية. وهو الائتلاف الحاكم منذ عام 1991م. ويتعين عليه فرض إصلاحات هيكلية عميقة لإرضاء المحتجّين، ومع ذلك قد يضطر إلى الاعتماد على زملائه الأقوياء؛ بما في ذلك الخاسرون المحتملون منهم.
وسيتعين عليه أن يقدم صورة لإثيوبيا المزدهرة للعالم الخارجي، في حين أنه قد يتعرض لهجوم العديد من الفئران التي قد تخرج من خبز إنجيرا كما تقول الرواية التاريخية. وقد حدث ذلك بالفعل مرات عديدة كان آخرها التمرد الدموي الذي قاده الجنرال أسيمانيو تسيغي ضد الحكومة الإقليمية في بلاد الأمهرة. وعليه نطرح هنا تساؤلات ثلاثة لنتبين حقيقة “الذهب ” الذي يكمن خلف “الشمع” الظاهر في الأزمة الإثيوبية.
أولاً: ماذا حدث في إثيوبيا يوم السبت الدامي؟
تشير أحدث الأدلة التي أعقبت محاولة التمرد الدامية التي وقعت في 22 يونيو في إقليم أمهرة إلى أن الأمور كانت أسوأ بكثير مما تم الإعلان عنه مِن قِبَل الحكومة الاتحادية. لقد تمَّ إلقاء القبض على عشرات الأشخاص المشتبه بأنهم على صلة بعمليات القتل والاغتيال. كما لقي العديد من الأشخاص مصرعهم خلال الأحداث الدامية في أمهرة. والمعروف أن ميليشيا الجنرال أسامينو، هي جزء من الشرطة الإقليمية للولاية، كما أنها حاولت الاستيلاء على وسائل الإعلام الحكومية في المنطقة والعديد من المباني الحكومية. ولعل ذلك يساعدنا على إعادة توصيف وفهم الأحداث التي شهدتها منطقة الأمهرة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ إنه طبقًا لرواية حاكم بنيشانغول جوموز، المتاخم لمنطقة أمهرة، فقد قام أتباع الجنرال أسامينو بعبور الحدود والوصول إلى ولايته في اليوم التالي لأحداث الاغتيال في أمهرة، وقتلوا أكثر من خمسين شخصًا في منطقة ميتاكال قبل عودتهم مرة أخرى إلى أمهرة. وخلال العام الماضي لقي مئات الأشخاص حتفهم في اشتباكات متعددة في بينيشانغول جوموز؛ وذلك لأسباب تقوم في الغالب الأعم على أسس عِرْقِيَّة.
إنَّ مثل هذا العنف، ولا سِيَّما عبر الحدود الإقليمية، يزداد سوءًا يومًا بعد يومٍ في الواقع الإثيوبي. لقد أظهر تقرير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة منتصف الشهر الحالي أن 1.56 مليون إثيوبي قد تم تشريدهم داخليًّا العام الماضي؛ بسبب عنفٍ واسع النطاق بين المجموعات العِرْقِيَّة وخلافات حول المراعي وحقوق المياه على طول الحدود الإقليمية. ومما يزيد الطين بِلَّة أنَّ إجمالي عدد النازحين والمشرَّدين في إثيوبيا يقارب ثلاثة ملايين شخص، بالإضافة إلى أكثر من تسعمائة شخص لاجئ من دول الجوار.
من الواضح إذن أنَّ الفصائل العرقية المتطرِّفة هي التي دبَّرت عملية التمرُّد المسلح؛ حيث اتهمت الحكومة المحلية بتجاهل المصالح الإقليمية. وبالفعل حصلت هذه العناصر المتطرِّفة على دعم قطاعات متعدِّدة من سكان المنطقة، ولعل ما يؤكِّد ذلك هو الاستقبال الشعبي الذي حظي به جثمان قائد التمرد الجنرال أسيمانيو في مسقط رأسه. وبالتالي، فمن المحتمل أن قادة التمرد كانوا يعتقدون أنه بمجرد استيلائهم على السلطة، سيكونون في وضع قوي لإقناع الحكومة الفيدرالية بتبنّي سياسات تتفق مع مطالب صقور الأمهرة ذوي النزعة الوطنية المتشددة.
ولكن بغضِّ النظر عن السبب المباشر، فإن التمرد الدموي في بلاد الأمهرة يشهد على حقيقة باتت أكثر وضوحًا وهي: أنه مع انهيار النظام السياسي القديم لإثيوبيا بفعل إصلاحات أبيي أحمد، ستكون هناك معركة لملء الفراغ من خلال إعلاء المصالح العرقية. ففي حالة إجراء انتخابات نزيهة وحرَّة في العام المقبل كما وعد أبيي أحمد، فإن الناخبين سيوجهون لطمة قاسية للأحزاب المشاركة في التحالف الحاكم؛ حيث إنها باتت تُشكِّل أحزاب أقلية في أقاليمها.
إن جهود الحكومة الفيدرالية الرامية إلى تعزيز قدر أكبر من المصالحة الوطنية لا تزال غير فعَّالة كما يتضح من الفشل في إجراء إحصاء وطني على مدار العامين الماضيين.
ثانيًا: عدم تسييس الجيش:
كانت المؤسسة العسكرية الإثيوبية مثالاً للانضباط والمهنية عبر سنوات طويلة، ولكن إصلاحات أبيي أحمد وتزايد حدة الخطاب القومي المتطرف في مختلف الأقاليم الإثيوبية قد يؤثر على وحدة الجيش. ولعل المشكلة الأخطر اليوم تتمثل في مسألة إصلاح هيكل القيادة في المؤسسة العسكرية والأمنية بما يؤكد على قيم الاحتراف والحيادية.
لقد كان الجنرال الراحل سيري ميكونين من عرقية التيغراي، بينما ينتمي نائب رئيس الأركان ووريثه المفترض، الجنرال برهانو جولا، إلى الأورومو. وعليه فإن تعيين الجنرال برهانو سيؤدي بلا شك إلى التشكيك بأن مقتل رئيس الأركان كان عملاً مدبرًا لتسهيل استيلاء الأورومو على القيادة العسكرية. ومن جهة أخرى يمكن أن يؤدي امتناع أبيي أحمد عن تعيين الجنرال برهانو إلى تعقيد الأمور في صفوف الأورومو.
بَيْدَ أنَّ رئيس الوزراء تصرَّف بحكمةٍ وقام بتعيين الجنرال آدم محمد رئيسًا لأركان الجيش الإثيوبي. كان الرجل وهو أمهري يشغل رئيس الاستخبارات والأمن منذ العام الماضي كما عمل قائدًا للقوات الجوية. وطبقًا لسيرته الوظيفية فإنه يدعم مبدأ حيادية الجيش وإبعاده عن السياسة، والتأكيد على قِيَم الاحتراف والمهنية. كما تم تعيين الجنرال دملاش قبرمكائيل، الذي كان يشغل منصب نائب الجنرال آدم محمد ليصبح رئيسًا لجهاز الأمن والاستخبارات العامة. وتم تعيين الجنرال مولا هيلي ماريام قائدًا للقوات البرية.
وفيما يتعلق بالرئيس الجديد لجهاز الأمن الوطني والمخابرات الجنرال دملاش، قبل تعيينه في العام الماضي نائبًا للجنرال آدم في جهاز الاستخبارات، كان قد شغل منصب رئيس الأمن في إقليم أوروميا؛ كما كان عضوًا في اللجنة المركزية لحزب أورومو الديموقراطي؛ بَيْدَ أنَّه استقال منه بعد انضمامه لجهاز الأمن والمخابرات العامة. أما الجنرال مولا هيلي ماريام الذي أصبح قائدًا للقوات البرية فقد كان يشغل منصب قائد العمليات الخاصة في الجيش. كما شغل منصب قائد القوات الجوية. وهو ينتمي إلى عرقية الأمهرة.
باعتقادي أن هذه التعينات موفَّقة حيث إن هذه الشخصيات إصلاحية، وتهدف إلى تحييد الجيش والمؤسسة العسكرية، وإبعادها عن منطق التسييس.
ومن الملاحظ أن محاولة استيعاب الأحزاب الإقليمية الحاكمة للقوميين المتطرفين في صفوفها لكسب التأييد الشعبي قد يؤدي إلى تسيس المؤسسات الأمنية على المستوى الإقليمي كما تعكسه حالة الجنرال أسامينو الذي كان يشغل منصبًا رفيعًا قبل إلقاء القبض عليه في عام 2009م، ولديه شبكة عسكرية قوية. يطرح ذلك الكثير من المخاوف حول إمكانية تأثير بعض العناصر القومية المتطرفة داخل المؤسسة العسكرية على الاستقرار السياسي في البلاد. وهنا تكمن أهمية تعيين قيادات أمنية وعسكرية إصلاحية تُبْعِد المؤسسة العسكرية عن تقلُّبات الحياة السياسية وأهواء النزعات القومية العرقية.
ثالثًا: جدلية النمو والفقر:
من الواضح أن الصراعات العرقية الإقليمية ربما تكون العامل المباشر وراء موجات العنف الأخيرة في إثيوبيا، بَيْدَ أنَّ المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها البلاد قد تؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار.
إنَّ أزمة النقد الأجنبي الحادة التي تعاني منها البلاد -على سبيل المثال- تجعل من الصعب على الشركات استيراد الأدوات والآليَّات اللازمة لإبقاء أبوابها مفتوحة. وفي الوقت نفسه، يجد الإثيوبيون كل يوم صعوبة متزايدة في الحصول على النقد الأجنبي لاستيراد مواد مهمة؛ مثل الدواء.
ومما يزيد من المشاكل المالية التي تعاني منها أديس أبابا ارتفاع التضخم في البلاد، بالإضافة إلى استمرار انتشار البطالة، خاصة بين الشباب. وبينما تمضي حكومة أبيي أحمد في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الطموحة، بما في ذلك الخصخصة الجزئية للمؤسسات الضخمة، مثل شركة تليكوم الإثيوبية، والخطوط الجوية الإثيوبية، فإن المشاكل الاقتصادية وتردِّي البنية التحتية الرئيسية سوف تؤدِّي إلى تراجع نموّ القطاع الخاص.
إذا استمرت هذه المشكلات الاقتصادية العميقة، ولم يتم اتخاذ إجراءات حاسمة لمعالجتها؛ فإن تداعياتها السلبية على التحالف الحاكم سوف تؤثر على استمرار بقائه في السلطة. وبالتالي، سوف تكون الانتخابات التشريعية المقبلة نقطة تحوُّل بالنسبة لمستقبل إثيوبيا السياسي؛ حيث ستمنح الشرعية التي تشتد الحاجة إليها للحزب الفائز في الانتخابات. يعني ذلك أن حصول التحالف الحاكم بقيادة أبيي أحمد على ثقة الناخبين بما يمكنه من استكمال مشروعه الإصلاحي، سوف يعتمد إلى حدّ كبير على قدرته على استعادة الشعور بالتضامن والوحدة الإقليمية وتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
إنَّ القراءة المتعمقة للمشهد الإثيوبي وفقًا لمنطق النظام اللغوي السائد تؤكد أن الظاهر “الشمع” يعني وجود زعيم إصلاحي شابّ استطاع أن يحظى بالدعم الإقليمي والعالمي لإصلاحاته المتسارعة، ولكن “الذهب” أي المعنى الكامن خلف ذلك أنه لم يستطع الحفاظ على الدعم الشعبي الأولي الذي كان يتمتع به داخل إثيوبيا والذي وصل حد الهوس الديني، والقول بأنه مُرْسَل من السماء لإنقاذ الأمة الإثيوبية.
كما أن خطته لدمج الأحزاب المؤسِّسة للتحالف الحاكم في خطر؛ لأنها تواجه احتمال فقدان السلطة لصالح العناصر القومية المتطرفة في مناطقهم الإقليمية. وعليه فإن النتيجة المباشرة لأحداث الأمهرة هي أن أبيي احمد سوف يركز على الداخل الملتهب بصورة قد تؤثر على دبلوماسيته المكوكية في الخارج.