نتَج عن تغيرات بنية النظام الإقليمي لغرب إفريقي وتساقط ترتيباته السياسية والأمنية والاقتصادية؛ تأثيرات الدومينو داخل جماعته الاقتصادية بوتيرة غير مسبوقة، تُنذر بتفكيكها وانفراط عقدها، ولا سيما بفعل تأزم علاقاتها مع بعض أطرافها (مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغينيا)، وتصاعد خلافاتهم حول شرعية وقانونية سيطرة المجالس العسكرية على السلطة، ومدى دستوريتها، وكيفية توفيق وترتيب فتراتها الانتقالية عقب التغيرات غير الدستورية الحادثة في مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري والنيجر خلال الأعوام 2020م و2021م و2022م و2023م.
تأثير الدومينو:
حاولت الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا ثَنْي تلك الدول عن تطوراتها وتغيراتها غير الدستورية، وردّها إلى ما قبل الفترات الانتقالية، أو على الأقل ضمان تسريع تلك الفترات، لكن يبدو أن سياساتها لم تُؤتِ ثمارها، بل دفعت -على نحو غير متوقع- إلى إعلان مالي وبوركينا فاسو والنيجر اعتزامهم إعادة تشكيل “تحالف دول الساحل” في سبتمبر 2023م، وإعلانهم الانسحاب من الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا في 28 يناير 2024م، وبدء مساعيهم لتشكيل اتحاد كونفدرالي.
تدارك الانهيار والتفكك:
وإزاء ذلك، حاولت الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا العدول عن إجراءاتها العقابية، أو تخفيف وطأتها؛ عبر انتهاج مقاربات تصالحية، تمثَّلت في رفع العقوبات عن مالي في 2022م، ودعوة مسؤولي تلك الدول للمشاركة في الاجتماعات الفنية والتشاورية والأمنية بصفة غير مكتملة كرؤساء مشاركين، وعقد اجتماع في 9 فبراير 2024م لإصدار دعوة تصالحية مع تلك النظم الجديدة، والدعوة إلى عقد القمة الاستثنائية في 24 فبراير 2024م بغية مناقشة الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية في الغرب الإفريقي والوقوف على ملامحها في دولة النيجر، وتوجيه نداءاتها ومناشداتها للدول الثلاث المنسحبة لإلغاء قراراها، وإيجاد إستراتيجية جديدة لإقناع الدول باستعادة النظام الدستوري.
تأزم المفاوضات:
أما بشأن النيجر فلم ينجُ كنظرائه الإقليميين من الإجراءات العقابية والخيارات الصلبة، ولا سيما بموجب القرارات الصادرة عن مؤتمرات رؤساء الدول والحكومات في 30 يوليو و10 أغسطس و10 ديسمبر 2023م؛ حيث وقعت تحت وطأة حزمة من العقوبات الاقتصادية والمالية، والتلويحات بالتدخل العسكري، وطُولبت مرارًا وتكرارًا بالإفراج الفوري وغير المشروط عن الرئيس المخلوع.
وعلى الرغم من تأزم العملية التفاوضية، وتأجيل انطلاقها أكثر من مرة، ولا سيما في 25 يناير 2024م؛ إلا أن النيجر لم ترضخ لتلك العقوبات، ولم تتردد في الاشتراك مع نظرائها الإقليميين: مالي وبوركينا فاسو في 28 يناير 2024م في بيان صحفي مشترك، يفيد بقرارهم السيادي بالانسحاب دون تأخير من الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، بل بات المجلس العسكري في النيجر يؤكد مرارًا وتكرارًا عدم رجوعه عن قرار الانسحاب، وتحلُّله من قيود المهلة المنصوص عليها في المادة 91 من المعاهدة. وفقًا لتصريحاته في 7 فبراير 2024م.
ترويض العقوبات:
وفي محاولةٍ من الجماعة الاقتصادية لرأب تصدعاتها مع النيجر؛ فقد أولت النيجر أولويةً خاصةً وبارزة داخل قمتها الاستثنائية المنعقدة في 24 فبراير 2024م، بل ومنحت النيجر قرارًا برفع جميع العقوبات المفروضة عليه بـ”أثر فوري”، ولا سيما العقوبات ذات الصلة بإغلاق الحدود، وتجميد الأصول، وحظر الطيران فوق الأجواء، وتعليق جميع المساعدات المالية وجميع المعاملات مع جميع المؤسسات المالية، وخاصة “BOAD”، مع إبقائها على العقوبات السياسية والفردية قائمة، وتأكيدها على ضرورة الإفراج الفوري عن الرئيس السابق “محمد بازوم”، ناهيك عن تجديد دعوتها للدول الأخرى (مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري) بالتراجع عن قرارها بالانسحاب، دون إبداء أيّ تخفيفات أو رفع للعقوبات عنها.
دوافع متعددة:
يمكن الإشارة إلى دوافع ومبررات القمة الاستثنائية لتخصيص النيجر دون غيرها برفع العقوبات على النحو التالي:
1- ترتيب الأولويات، المتابع لحيثيات القمة الاستثنائية ودلالاتها وسياقاتها، يدرك أن قرار رفع العقوبات تجاه النيجر يؤكد اتجاه الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا لإعادة ترتيب أولوياتها وسياساتها على نحوٍ يضمن استئصال محفّزات الانهيار والتفكك بعودة دولها المنسحبة على حساب التحول الديمقراطي ومساراته الانتخابية والسلمية لتداول السلطة، ولعل ذلك يظهر في البيان الافتتاحي للقمة؛ حيث أعلن رئيس المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا أن “الديمقراطية ليست أكثر من إطار سياسي وطريق لتلبية الاحتياجات والتطلعات الأساسية للشعوب… ولهذا السبب يجب علينا إعادة النظر في نهجنا الحالي في السعي إلى تحقيق النظام الدستوري في أربع من دولنا الأعضاء”.
2- استمالة واسترضاء النيجر، بداهةً، يمكن القول إن مخرجات القمة الاستثنائية ودوافعها بمثابة محاولة جديدة لاستمالة النيجر جنبًا إلى جنب مالي وبوركينا فاسو واسترضائها وإقناعها للبقاء في الجماعة. ويتأكد ذلك في تصريح رئيس القمة الرئيس النيجيري “بولا أحمد تينوبو” قائلاً: “يجب أن نراجع نهجنا تجاه عودة النظام الدستوري في أربع من دولنا الأعضاء… ولذلك، تقع على عاتقنا مسؤولية الدخول في حوار بنّاء وممارسة التأثير الرشيد، والعمل بشكل جماعي لإيجاد حلول لتعزيز السلام والأمن والاستقرار السياسي في منطقتنا.
3- فتح آفاق حوار جديدة، يتبين أن قرارات القمة الاستثنائية من شأنها تخفيف وتيرة الإحباط والتشكك وغياب الثقة القائمة والمتزايدة مِن قِبَل المجلس العسكري الانتقالي في النيجر بشأن إمكانية إجراء أي عملية تفاوضية أو حوارية مع الجماعة الاقتصادية، ولا سيما عقب سماح الجماعة الاقتصادية لأعضاء الحكومة السابقة بحضور قمتها في 10 ديسمبر 2024م كممثلين عن النيجر.
4- عدم جدوى العقوبات، تشير مخرجات القمة إلى اقتناع الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا بعدم جدوى الإجراءات العقابية، وخاصةً في النيجر، فبالنظر إلى تأثير العقوبات، يتضح أن العقوبات المفروضة في مالي وبوركينا فاسو لم تمنع حدوث التغيرات غير الدستورية والانقلاب العسكري في النيجر، ولم تسهم أيضًا في ثَنْي المجلس العسكري الحاكم عن السلطة، أو تدفع إلى إطلاق سراح الرئيس “بازوم” وتحريره، بل دفعت النيجر إلى المشاركة في قرار الانسحاب.
5- تدارك التفكك والانهيار، لا شك أن هواجس التفكك والانهيار المحدقة بمستقبل الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، وخاصةً عقب الانسحاب الجماعي، هي التي دفعت الجماعة في المقام الأولى إلى عقد القمة الاستثنائية، وصياغة مخرجاتها باعتبارها مقاربة تصالحية لتلك الدول، وآلية لوقف وكبح التهديدات المحتملة بالانهيار والتفكك في ظل تلويح غينيا بإمكانية الانسحاب واحتمالية تمدد عدوى الانقلابات إلى سيراليون؛ وهي أحد أعضاء الجماعة الاقتصادية في غرب إفريقيا.
6- احتواء الخسائر والتكاليف الاقتصادية، لا يمكن أن تنفصل الدوافع والاعتبارات الاقتصادية عن مخرجات القمة؛ حيث تشير القراءة الاقتصادية إلى أن انسحاب النيجر بجانب مالي وبوركينا فاسو من شأنه أن يُكلّف الجماعة الاقتصادية خسائر اقتصادية محققة ومقدرة بنحو 74 مليون دولار سنويًّا، وينذر بانخفاض القيمة الإجمالية للموارد الطبيعية للجماعة الاقتصادية، ويمس القيمة الاقتصادية للتجارة والخدمات المقدرة بنحو 150 مليار دولار سنويًّا.
7- تعثر التدخل العسكري، يدرك المتابع أن عقبات الخيار العسكري وتبعاته غير المحسوبة دفعت بدرجةٍ أو بأخرى الجماعة الاقتصادية إلى تخفيف العقوبات على النيجر، وتُردّ تلك العقبات إلى غياب التأييد الدولي والإقليمي لخيار التدخل العسكري مِن قِبَل الأطراف الفاعلة؛ فعلى الرغم من تأييد فرنسا والاتحاد الأوروبي، إلا أن قرار التدخل العسكري لاقى استنكارًا دوليًّا من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية ورفضًا إقليميًّا من الجزائر وتشاد ونيجريا، وافتقد التأييد مِن قِبَل مجلس السلم والأمن الإفريقي.
8- الضغوط الدولية والإقليمية لتخفيف العقوبات، لاقت الإجراءات العقابية الصادرة عن الجماعة الاقتصادية إلى حد كبير ردودًا شعبية رافضة، ومعارضة شعوب الغرب الإفريقي جنبًا إلى جنب مع تزايد المطالبات الحقوقية والبرلمانية بشأن تخفيف العقوبات الاقتصادية ووطأتها على الشعب النيجري وتداعياتها الإنسانية.
وظهر ذلك يوم 24 نوفمبر2023م، عندما أطلق برلمانيون من النيجر ونيجيريا وبنين وتوغو نداءً قويًّا إلى رؤساء دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا من أجل الرفع “الفوري والكامل وغير المشروط” للعقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة على النيجر، بالاتساق مع نداءات وكالات الأمم المتحدة الإنسانية ومجلس السلم والأمن التابعة للاتحاد الإفريقي في 31 أكتوبر 2023م.
9- تراجع الضغوط الخارجية الفاعلة، كغيرها من دول الغرب الإفريقي، تمثل النيجر مسرحًا للتنافس والصراع بين الدول الغربية، وخاصةً الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، بالإضافة إلى الطموحات الروسية، فبخلاف تنديد وإجراءات الاتحاد الأوروبي العقابية والمنددة بانقلاب النيجر، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية، تبنَّت مقاربة برجماتية للتعامل مع الواقع الجديد؛ فقد تبنَّت موقفًا مغايرًا للإيكواس، وعارضت التدخل العسكري حفاظًا على وجودها في منطقة أغاديز على الحدود مع الجزائر وليبيا. وانتشارها بقوام 1000 جندي، ويتشابه ذلك مع الموقف الروسي الذي اعتبر أن التدخل العسكري سيؤدي إلى مواجهة طويلة الأمد.
10- احتواء وكبح ظهور تكتل إقليمي جديد مناوئ، تدرك الجماعة الاقتصادية أن إصرارها على الإجراءات الجديدة قد يصيبها بالوهن جراء تزايد انقسام أعضائها واستمرار أعضائها المنسحبين في عدم التراجع عن العودة، بل واعتزامهم إنشاء ما عُرِفَ إعلاميًّا بـ”تحالف دول الساحل” المعادي في الغرب الإفريقي، وترى أن التكتل الإقليمي يمكن أن يستقطب أعضاءها الداخليين إلى صالحه، ولا سيما في ظل دعمه للتغيرات غير الدستورية، ومعاداته للنفوذ الغربي والفرنسي، وتقاربه مع النفوذ الروسي المتنامي وترجيح تضاعف عدد دوله الأعضاء خلال الفترة المقبلة.
حدود التأثير:
بالتأكيد تحمل مخرجات القمة الاستثنائية بدرجة أو بأخرى تأثيرات وانعكاسات على النيجر، ويمكن الإشارة إليها كما يلي:
1- دفع العملية التفاوضية، قد تسهم مخرجات القمة الاستثنائية بشكل ما في دفع عملية التفاوض المتعثرة في النيجر، ويمكن أن تعزز ثقة المجلس الانتقالي في العملية التفاوضية مع قرارات الجماعة الاقتصادية المعنية بعد تعيين وساطة مِن قِبَل توجو وبنين وسيراليون، وتدفعه إلى فتح آفاق جديدة لحوار جديد حول إمكانية تسوية الخلافات، والتوصل إلى خريطة طريق انتقالية؛ إلا أن تلك العملية التفاوضية حتى المدى القريب، لا يُتصور أن تصل إلى عودة النيجر إلى الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، أو تدفع النيجر إلى التراجع عن قرارها بالانسحاب أو تنحرف عن مساعيها لتشكيل تحالف دول الساحل.
2- هشاشة العقوبات الرادعة، رغم التصورات والتوقعات بشأن إيجابية مخرجات القمة الاستثنائية وتخفيف العقوبات، إلا أن أدبيات النظرية الواقعية تشير إلى أن التراجع عن العقوبات دون استيفاء أدنى شروطها أو إطلاق سراح الرئيس “محمد بازوم” يمكن أن يفرغ آلية العقوبات الاقتصادية من قوتها الرادعة لدول الغرب الإفريقي، وتُفقدها مضمونها بشكل يشجّع وتيرة الانقلابات والتغيرات غير الدستورية وتعثر المسارات الديمقراطية.
3- مكاسب إنسانية واقتصادية، تُصوّر مخرجات القمة الاستثنائية مكاسب إنسانية واقتصادية، فمن شأن رفع العقوبات تخفيف التحديات الإنسانية والاقتصادية القائمة في النيجر، وتخفيف معاناة 40% من السكان، والحد من معاناتهم تحت خط الفقر، وتبشر بمواصلة إمداد النيجر باحتياجاتها الكهربائية المقدرة بنحو 70% من نيجيريا.
وختامًا، في المدى القريب، تنبئ التوقعات عن تأثيرات محدودة لمخرجات القمة الاستثنائية وأهدافها المعلنة بشأن استرضاء واستمالة النيجر ومن بعده مالي وبوركينا فاسو، وثنيهم عن قرار الانسحاب وعودتهم إلى الجماعة الاقتصادية، ولعل تلك التوقعات تجد ضالتها في استمرار أسباب وعوامل تأزم العلاقات بين النيجر والجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، ولا سيما مع استمرار تنامي التوترات بين النيجر وأعضاء الجماعة المؤيدة للنفوذ الفرنسي، وخاصةً نيجيريا، واستمرار اقتناع النيجر بانحراف الجماعة الاقتصادية عن مسارها لخدمة المصالح الفرنسية والغربية على حساب الدول الأعضاء، وتمسك المجلس العسكري بفرضية تقاعس وتخاذل الجماعة عن مساعدته في حربه ضد الإرهاب، وكذلك بقاء مصير الرئيس السابق “محمد بازوم” معلقًا دون تسوية بين بقائه تحت قبضة المجلس العسكري الانتقالي، واشتراط الجماعة الاقتصادية الإفراج عنه من أجل بدء المفاوضات.