تثور المخاوف الغربية من وقتٍ لآخر من تمدُّد ما بات يُعرَف بـ”البوتينية” Putinism في أرجاء القارة الإفريقية، وما يعنيه ذلك من قيام نُظُم حكم أكثر تماسكًا (وتركيزًا للسلطة في يد قائد قوي) يمكنها مواجهة التدخلات الغربية التقليدية والطارئة بشكل مباشر وأكثر جرأة من ذي قبل.
ومع إعادة انتخاب فلاديمير بوتين رئيسًا لجمهورية روسيا الفيدرالية (مارس 2024م)؛ تجدَّدت المخاوف السابقة بشكل غير مسبوق، ولم يُخفّف من وطأتها إقدام بوتين على إقالة وزير دفاعه المقرب سيرجي شويجو قبيل منتصف مايو 2024م؛ وما يَعنيه ذلك من تغيرات متلاحقة متوقعة في صفوف إدارة القوات المسلحة الروسية، واحتمالات تخفيف موسكو توسُّعها الكبير في دول إفريقية لا سيما في إقليم الساحل.
على أيّ حالٍ، فإن الهجمة الإعلامية الغربية على “البوتينية” في إفريقيا تتسم في أغلب جوانبها بالاستباقية والتسرع في الفرضيات بشكل واضح للغاية.
يتناول المقال الأول محاولة فهم كيف تفوز روسيا في إفريقيا عبر التمدد في “مناطق فراغ الغرب”، ضاربًا أمثلة بمالي والنيجر وبوركينا فاسو وموزمبيق ومدغشقر. وحاول المقال إبراز أوجه التعاون الروسي مع حكومات تلك الدول (سواء التي جاءت بانقلابات عسكرية أو المنتخبة) على أنها نوع من التغلغل الروسي في القارة وليس علاقات ثنائية بين دول ذات سيادة وتسعى لمقاربة الفوز للجميع.
وجاء المقال الثاني ليبرز مسألة شائكة وقابلة للتصعيد عند مناطق التقاء عالم الشرق الأوسط بإفريقيا والبحر المتوسط؛ ألا وهي تعاظم “الوجود العسكري في ليبيا” وتحركاته المحسوبة إلى النيجر، وربما إلى بقية دول الساحل؛ باعتبارها تهديدًا لمجمل المصالح الأمريكية والأوروبية في تلك الأقاليم، وليس في ليبيا وحدها.
بينما مثَّل المقال الثالث والأخير نموذجًا “كلاسيكيًّا” لمقاربة الميديا الغربية، ممثلة في جريدة The Wall Street Journal، لقضية النفوذ الروسي في القارة الإفريقية من زاوية ضيّقة ووحيدة، وهي أن هذا النفوذ في محصلته -وبصورة مجردة على نحو مُخِلّ تمامًا- يُمثِّل تهديدًا للمصالح الأمريكية، وأن إدارة الرئيس جو بايدن تفتقد بوصلة التعامل في القضايا الإفريقية، مما يتيح الفرصة لدى موسكو لمزيدٍ من التمدُّد في القارة.
ورغم طرح المقال السطحي نسبيًّا لهذه المسألة، لا سيما الاستجابة الإفريقية؛ فإنه يكشف – وربما على نحو غير مباشر- عن جوهر السياسات الأمريكية في القارة بشكل مذهل من جهة تأكيده على عدم وضوح رؤية تلك السياسات ولا مؤسساتيتها من جهة أخرى، وعلى مستوى تحليلي أكثر تعقيدًا.
كيف تفوز روسيا في إفريقيا([1]):
زار مساعد وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوجدانوف مؤخرًا السودان؛ حيث التقى بالفريق عبدالفتاح البرهان قائد القوات المسلحة السودانية، ناقلًا له دعم موسكو للسودان. وكان ذلك أحد الأمثلة الأخيرة على إستراتيجية روسيا الجديدة لإيجاد أماكن نفوذ لها في إفريقيا من باب الصداقة العسكرية.
ويمكن إحصاء ما لا يقل عن سبعة انقلابات شهدتها غرب إفريقيا ووسطها منذ العام 2020م في الجابون والنيجر وبوركينا فاسو والسودان وغيينا وتشاد ومالي. ولقد كان الروس توّاقين لاستغلال أغلب هذه الانقلابات، ليس فحسب لأن نظام الكرملين يَعرف كيف يتعامل مع المستبدين، ولكن أيضًا لأن أغلب الحكومات المدنية التي تم إسقاطها كانت حليفة للولايات المتحدة والغرب. وبالفعل فإن بعض هذه الدول في غرب إفريقيا قدَّم قواعد عسكرية للقوى الأوروبية مثل فرنسا والولايات المتحدة في مقابل حصولهم على مساعدات لمواجهة حربهم ضد الجماعات المسلحة.
ويبدو أن سياسة بوتين الجديدة تقوم على اتباع تدخُّل عسكري مباشر في إفريقيا دون استخدام مجموعة فاغنر كوسيط لهذا التدخل. لكن ليس هناك شكّ في أن فاغنر قد خدمت بوتين على أحسن وَجْه في السنوات الخمسة الأخيرة أو نحوها. ففي مالي، على سبيل المثال، تحالفت فاغنر مع نظام عسكري أسقط حكومة مدنية منتخبة في العام 2020م. وسرعان ما وصل الجنود والأسلحة الروسية ليحلوا محل القوات الفرنسية في دولةٍ ترجع صلاتها التاريخية والثقافية والعسكرية مع فرنسا إلى العهود الاستعمارية. وفي بوركينا فاسو المجاورة، وهي مستعمرة فرنسية أخرى، وصلت فاغنر بعد انقلاب عسكري في العام 2022م أسقط حكومة مدنية أخرى.
وفي العام الماضي وقع انقلاب عسكري ثالث في النيجر المجاورة مسقطًا حكومة أخرى منتخبة. وفي هذه المرة كانت المخاطر مرتفعة بشكل كبير بسبب الوجود العسكري الأمريكي في هذه الدولة طوال عقد كامل. وبالرغم من الزيارات المكوكية للمسؤولين الأمريكيين إلى نيامي؛ فإن المجلس الحاكم في الأخيرة أجبر القوات الأمريكية على مغادرة البلاد في مارس الماضي، وفي أبريل وصلت القوات الروسية (إلى مطار نيامي الدولي).
وفي موزمبيق، وهي مستعمرة برتغالية في السابق، منحت مرافق ميناء خاصة للبحرية الروسية، وشاركت قوات فاغنر لسنواتٍ في جهود الحكومة لمواجهة الجماعات المسلحة.
وفي جزيرة مدغشقر القريبة من موزمبيق، رافَق تورط فاغنر جهود الشركات الروسية للوصول إلى المعادن المهمة مثل الكروميوم. إلى جانب وصولها إلى معدن اليورانيوم بالغ الأهمية والمتوفر بكثرة في النيجر.
وفي أبريل 2024م حذَّر تقرير لمعهد بحوث السياسة الخارجية Foreign Policy Research Institute الكائن في فيلادلفيا من أن “انسحاب القوات الأمريكية من النيجر لن يمثل كارثة لمبادراتها لمواجهة الإرهاب في الإقليم فحسب، لكنه سيعوق أيضًا جهود مواجهة صعود قوى مثل روسيا والصين (في إفريقيا)، وهي القوى التي تتوق لتوسيع نفوذها في الإقليم، وفي القارة، وعلى المستوى العالمي”.
إن توسع روسيا في إفريقيا ليس ماليًّا بشكل أساسي. وفي المقابل فإن العمل الصيني في إفريقيا منذ العام 2005م بلغ أكثر من 2 تريليون دولار، وتملك بكين 300 بليون دولار في استثمارات إفريقية حالية. ولا يمكن لروسيا مجاراة الصين في هذا المجال؛ لأن كل يوم في حربها في أوكرانيا يكلف الحكومة الروسية نحو 500 مليون دولار. كما أن تدخلها في إفريقيا لم يعد أيديولوجيًّا، فقد انتهى الحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي منذ عقود خلت؛ ولذا فإن الاستراتيجية الروسية الجديدة تقوم على الصداقة العسكرية، ورغم ذلك فقد حققت هدفًا أيديولوجيًّا مباشرًا في الغرب تمثل في إسقاط بعض الحكومات المدنية المنتخبة.
الاندفاع الروسي في إفريقيا يثير المخاوف: الوصول إلى النيجر من بوابة ليبيا([2]):
وسَّعت روسيا سريعًا من وجودها العسكري في ليبيا، بحسب تحقيقات أخيرة، مما أثار مخاوف في وقتٍ يشهد تصاعد التوتر بين موسكو والغرب على خلفية الحرب في أوكرانيا.
وقد رصدت منافذ إعلامية أمريكية “وصول مئات الجنود والمرتزقة الروس إلى ليبيا في الأسابيع الماضية فقط”، وأنه تم انتقال عدد منهم إلى النيجر المجاورة. وتتخوَّف أوروبا والولايات المتحدة من النفوذ الروسي في ليبيا والنجير؛ كونه يمثّل وصولًا روسيًّا إلى البحر المتوسط وإقليم الساحل (معًا)، فيما نبَّه جوناثان واينر J. Winer، -مبعوث الولايات المتحدة الخاص السابق إلى ليبيا- إلى ضرورة أن تتعامل الولايات المتحدة مع مثل هذا التهديد “بجدية كاملة”؛ لأن منع روسيا من العمل في البحر المتوسط يظل هدفًا إستراتيجيًّا رئيسًا بالنسبة لواشنطن، لا سيما أنه إذا تمكَّنت روسيا –حسب واينر- من الوصول لميناء هناك (في ليبيا) فإنه سيكون بمقدورها التجسس على جميع دول الاتحاد الأوروبي.
وبحسب التقارير الأمريكية؛ فإن مئات الجنود من وحدات القوات الخاصة الروسية، ومعهم آلاف المرتزقة والقوات النظامية، قد تم نقلهم من أوكرانيا إلى ليبيا، (ومنها إلى الساحل) في مطلع العام الجاري. وبحسب تحقيقات فإنه تمَّت مشاهدة العديد من العناصر العسكرية الروسية في مواقع مختلفة في شرقي ليبيا “منذ مارس 2024م”، وبالتزامن مع وصول القوات الروسية إلى النيجر المجاورة.
لماذا يسعى بوتين للهيمنة على إفريقيا؟([3])
وسط الأزمات العالمية المستعرة في الشرق الأوسط وأوروبا وإقليم الهندي- الباسيفيك، ربما تبدو الأنباء الواردة من النيجر غير مهمة. صحيح، أن القوات الأمريكية تقوم بعملية انسحاب مشينة مع تقدُّم حثيث للقوات الروسية في نفس القاعدة الجوية النيجرية التي تستضيف القوات الأمريكية.
وصحيح أيضًا أنه حتى انقلاب يوليو الماضي في النيجر فإن الأخيرة كانت الطفل المدلّل لجهود الديمقراطية الأمريكية في إفريقيا وحجر زاوية إستراتيجية الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب في الإقليم. واليوم فإن الرئيس الذي دعمته واشنطن والمنتخب ديمقراطيًّا سجين في مقر إقامته الرسمي، ويعمل قادة الانقلاب مع مجموعة فاغنر الروسية.
ما مدى أهمية النيجر فعليًّا؟ ورغم أنها كبيرة المساحة (تبلغ ضعفا مساحة ولاية تكساس)، فإنها دولة حبيسة، وتمثل الصحراء أغلب مساحتها. ولديها احتياطيات يورانيوم ومعادن أخرى وفيرة للغاية، منها الذهب، لكن لا يوجد شيء آخر بها.
وتُعدّ النيجر، التي يبلغ عدد سكانها 26 مليون نسمة، وتحقق ناتجًا إجماليًّا بقيمة 15 بليون دولار، واحدةً من أفقر دول العالم وأقلها تطورًا. ومنذ تحقيقها الاستقلال شكلًا عن فرنسا في العام 1960م غرقت النيجر في فتراتٍ هشَّة من الانتقال بين الحكم المدني والعسكري.
ولربما يقول الأمريكيون في أغلبهم: فليأخذها فلاديمير بوتين إذا تطرَّق فكرهم إلى النيجر. وفي ظل ظروف عادية فإن وزراء الخارجية الأمريكيين لن يضيعوا وقتًا في التفكير في النيجر أو جاراتها. لكن ما نعيشه الان ليس وقتًا عاديًّا.
إن تحرك قوة روسيا على النيجر جزء من هدف أوسع. إن بوتين يُعوِّل، من ليبيا إلى جنوب إفريقيا، على الأخطاء الأمريكية والغربية للحصول على الموارد المعدنية الغنية، وتعقيد وضع التخطيط المدني الغربي، وتحسين قدرة الكرملين على مواجهة العقوبات.
ولم تتمتع جماعة مرتزقة في التاريخ، على الأقل منذ تكوين شركة الهند الشرقية من بقايا القوة المغولية كمجموعة مسلحة لخدمة أهدافها، بشهرة ونجاح مثلما حققته مجموعة فاغنر في إفريقيا. وقد عوَّل عملاء فاغنر على انتشار كراهية فرنسا وعدم قدرة الحكومات الإفريقية -التي يدعمها الغرب- على توفير الأمن أو الرخاء أو التعليم. كما كوَّن عملاء فاغنر ثروات من الذهب، والماس، والمعادن الأخرى لأنفسهم ولسادتهم في الكرملين فيما وجَّهوا الإهانة تلو الأخرى للغرب.
وبالنسبة لـ بوتين؛ فإن مكاسبه من إستراتيجيته الإفريقية واضحة تمام الوضوح. فقد حقَّقت عمليات فاغنر بلايين الدولارات. ويتوجه بعضها إلى جيوب الحاشية المحيطة ببوتين، وساعدته على جعل أتباعه سعداء. وبعضها يُوجَّه لدعم جهود الحرب في أوكرانيا. كما تسمح صلات فاغنر بعمليات التعدين والحكومات الإفريقية بعمليات واسعة من غسيل الأموال والفكاك من العقوبات؛ مما يساعد السيد بوتين على مواصلة شنّ الحرب في أوكرانيا.
والسؤال هنا: لِمَ كان الغرب سيئ الحظ لهذه الدرجة؟ يرجع ذلك جزئيًّا إلى أن هذا الجزء من العالم يصعب العمل فيه. كما تتصف أغلب الحكومات (الإفريقية) بالضعف وتفشّي الولاءات القبلية التي تتجاوز أهميتها المؤسسات الرسمية، كما تتسم الحدود بين الدول بعدم الانضباط، وعانت المجتمعات المدنية من التشظي. إضافة على ذلك، فإن كلّ مَن في الإقليم تقريبًا يكرهون فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة والقوة الخارجية الأكثر نشاطًا على نحو تقليدي في القارة. لكن يعود ذلك أيضًا إلى وضع نظام السياسة الخارجية الأمريكية سياسة إفريقيا كنوع من معامل تجريب نشاط حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية.
وحتى وقت قريب، فإن إفريقيا لم تَعْنِ الكثير في حسابات العمل الأمريكي أو بيروقراطية الأمن القومي. ومقارنةً بأقاليم أخرى في العالم فإن إفريقيا لم تجذب إلا قدرًا يسيرًا من الاستثمارات الخارجية الأمريكية، وتراجعت أهميتها لدى المخططين العسكريين الأمريكيين إلى مراتب تلي الإقليم الهندي- الباسفيك، والشرق الأوسط، وأوروبا.
كما أن غياب الأصوات المختلفة في نقاشات السياسة الأمريكية يُتيح الفرصة أمام تطور المنظمات غير الحكومية، وجماعات أخرى من الناشطين، وحلفائهم الحكوميين، مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وتقاسم السلطة لتشكيل سياسة الإقليم. ويمثل ذلك سوء طالع للسياسة الأمريكية؛ لأن إقليم الساحل بات مكانًا لا تتوفر فيه ظروف الصعود المستدام للمجتمعات الديمقراطية بشكل كبير. ونتيجة لذلك فإن أغلب النشاط الأمريكي في الإقليم يتكون من المطالبة بديمقراطية غامضة وأهداف تنموية لن نصل لها على الإطلاق.
إن سياسة حقوق الإنسان السيئة ليست هشَّة فحسب، لكنَّها قد تكون قاتلة. ويمكن إرجاع الكثير من مشكلات الإقليم إلى التدخل الغربي في ليبيا في العام 2011م، وهو القرار الذي أطلق سلسلة من الكوارث. وسبَّب هذا الفعل الغبي عقدًا من المأساة والحرب في ليبيا. كما أدَّى إلى تدفّق أرتال من الأسلحة لإقليم الساحل الهشّ. ولم تُؤدِّ ثلاثة عقود من مساعدات التنمية، وتعزيز الديمقراطية ونشاط حقوق الإنسان مِن قِبَل الدبلوماسيين الغربيين وأطقم عمل المنظمات غير الحكومية؛ إلا إلى غزو فاغنر لإفريقيا بالتزامن تمامًا مع فشل إستراتيجية اجتماعية أمريكية في أفغانستان ظلت أكثر من عشرين عامًا.
والخلاصة أن فريق بايدن بحاجة لإعادة التفكير في سياسته الإفريقية، وحتى يستوعب الغرب دروس الفشل في الماضي؛ فإن فاغنر ستواصل تقدّمها.
……………………………………
[1] Mohammad Ali Salih, How Russia is winning in Africa: Wave of military coups gains Putin new allies, Salon, May 11, 2024 https://www.msn.com/en-us/news/world/how-russia-is-winning-in-africa-wave-of-military-coups-gains-putin-new-allies/ar-BB1mcEYM?ocid=BingNewsSearch
[2] Isabel van Brugen, Russia’s Africa Push Sparks Alarm: ‘Great Chaos Brewing’, Newsweek, May 11, 2024 https://www.msn.com/en-us/news/other/russia-s-africa-push-sparks-alarm-great-chaos-brewing/ar-BB1ma7TH?ocid=BingNewsSearch