نشرت مؤسسة “كونراد إديناور/ Konrad Adenauer Stiftung” الألمانية البحثية تقريرًا لكل من “جريجور جايكي”، مدير المشروع القُطري التابع للمؤسسة في جنوب إفريقيا منذ عام 2023م، وبروفيسور “كريستوف فيدنروث”، يستعرض قراءة استشرافية حول انتخابات البرلمان الوطني وجميع برلمانات المقاطعات في جنوب إفريقيا التي أجريت في 29 مايو 2024م.
تحتاج البلاد، بشكل عاجل، بعد سنوات من التدهور الاقتصادي، إلى إعادة ترتيب أوراقها. ووفقًا لاستطلاعات الرأي، سيفقد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، الذي يتزعمه نيلسون مانديلا، الأغلبية المطلقة على المستوى الوطني، وذلك للمرة الأولى منذ نهاية الفصل العنصري في عام 1994م، لكنه في المقابل سيعتمد على شركائه في تكوين ائتلاف حاكم.
وفي الوقت نفسه، أصبح الطيف الحزبي في جنوب إفريقيا متنوعًا بشكل مطرد؛ حيث باتت هناك معادلة تنافسية جديدة تسعى إلى الوصول إلى أفضل الحلول من أجل مواجهة التحديات العديدة التي تمر بها البلاد. وعلى هذه الخلفية، من الصعب التنبؤ بأيّ فصيل سيحكم جنوب إفريقيا في المستقبل، ولكن يمكن استشراف بعض السيناريوهات المتباينة فيما يتعلق بنتائج الانتخابات.
بقلم/ جريجور جاكي و د. كريستوف فيدنروث
ترجمة وتقديم: شيرين ماهر
انتخابات 2024م: عام حاسم بالنسبة لجنوب إفريقيا
بعد مرور قرابة ثلاثين عامًا على انتهاء نظام الفصل العنصري؛ أُجريت الانتخابات السابعة للبرلمان الوطني وبرلمانات المقاطعات التسع في جنوب إفريقيا في 29 مايو 2024م. بالنسبة للبلاد، سوف تكون هذه الانتخابات هي الأكثر أهمية منذ عام 1994م؛ نظرًا للحاجة المُلِحَّة إلى إعادة تنظيم كافة الملفات السياسية تقريبًا.
لقد عجزت التنمية الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، مرات عدة، عن تحقيق الأهداف التي ألزمت نفسها بتحقيقها على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، الأمر الذي يتطلب تصحيحًا عاجلًا للمسار. ومنذ انتخابات عام 2019م شهد النمو الاقتصادي ركودًا؛ حيث بلغت نسبته 0.6% في عام 2023م(1). ولا تزال معدلات البطالة تشهد ارتفاعًا ملحوظًا بنسبة تبلغ 41%(2)، فيما لا تزال أوضاع عدم المساواة الاجتماعية تتفاقم بشكل حادّ في شتى مناحي الحياة، كما هو الحال في قطاعي التعليم والصحة، فضلًا عن ارتفاع معدلات الجريمة.
وعلى هذه الخلفية، التي عززها تفشي الفساد والمحسوبية بين النُّخب السياسية، فقد العديد من مواطني جنوب إفريقيا الثقة في حزب نيلسون مانديلا، المؤتمر الوطني الإفريقي، وراحوا يُفضّلون الامتناع عن التصويت(3)؛ حيث أخذت تتراجع معدلات تأييد الحزب الحاكم على مدار سنوات طويلة.
ورغم وجود شكوك حول نزاهة وشفافية الانتخابات في جنوب إفريقيا؛ إلا أنه من المتوقع أن تفقد حركة التحرر السابقة أغلبيتها المطلقة، للمرة الأولى، على المستوى الوطني. وبالتالي سيحتاج الحزب الذي اعتاد النجاح إلى شريك أو أكثر في الائتلاف من أجل البقاء في السلطة.
بالتوازي مع انخفاض معدلات تأييد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي؛ تأسست العديد من الأحزاب الجديدة في ظل نظام حزبي ديناميكي تَشعُّبي للغاية، نتج عن انقسامات وانشقاقات عن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وأكبر حزب معارض، التحالف الديمقراطي (DA). ورغم أن نتائج الانتخابات غير مؤكدة، وهناك حالة واضحة من عدم اليقين السياسي، إلا أن الأمر الوحيد المؤكد هو أن “حُكم الحزب الواحد” الذي فرَضه حزب المؤتمر الوطني الإفريقي يقترب من نهايته. وهذا من شأنه أن يُعزّز التعددية الحزبية؛ إذ يعقد العديد من مواطني جنوب إفريقيا الآمال على تعددية التحالفات الحزبية، ودورها في إجراء إصلاحات ضرورية تؤدي إلى المزيد من المشاركة الاجتماعية والسياسية.
الانتخابات في جنوب إفريقيا تحظى بأهمية كُبرى بالنسبة لألمانيا:
تُعدّ دولة جنوب إفريقيا عملاقًا اقتصاديًّا وسياسيًّا مؤثرًا في القارة الإفريقية، وهو ما يكتسب أهمية متزايدة بالنسبة لألمانيا. فعلى الصعيد الاقتصادي، تتمتع جنوب إفريقيا بأكبر اقتصاد في إفريقيا، كما تُعدّ أكثر دول القارة تصنيعًا، فضلًا عن كونها أهم شريك تجاري لألمانيا في القارة؛ إذ يبلغ حجم التجارة الثنائية السنوية بين الجانبين أكثر من 20 مليار يورو. كذلك تنشط أكثر من 600 شركة ألمانية في جنوب إفريقيا، حيث قامت ألمانيا مؤخرًا بضخّ استثمارات طويلة الأجل، خاصةً في مجال صناعة السيارات. كما أن هناك وشائج قوية تربط بين ألمانيا وجنوب إفريقيا على الصعيد “الشعبي”؛ إذ تعد جنوب إفريقيا وجهة سفر شهيرة وجاذبة للسياح الألمان (خارج أوروبا).
أما على الصعيد السياسي، فتُعد البلاد المتحدث الرسمي لما يُسمَّى بـ”الجنوب العالمي”؛ إذ تشارك جنوب إفريقيا كوسيط وداعم للعديد من بعثات السلام داخل إفريقيا، وبالتالي فهي قناة اتصال مهمة لألمانيا في المنطقة. وفي الوقت نفسه، تنأى جنوب إفريقيا بنفسها، بشكل متزايد، عن شركائها الغربيين فيما يتعلق بالسياسة الخارجية؛ حيث إن اتهامات الإبادة الجماعية الموجَّهة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، والعلاقات الوثيقة تقليديًّا مع روسيا (والتي جرى الحفاظ عليها حتى بعد الحرب العدوانية على أوكرانيا)، فضلًا عن التعاون مع دول مثل إيران في إطار مجموعة البريكس الموسَّعة، ربما تدفع العلاقات بين ألمانيا وجنوب إفريقيا للوصول إلى مفترق طرق.
أحزاب جديدة تستقطب الناخبين المُحبَطين:
في استطلاع للرأي عام 2022م؛ رأى أكثر من 80% من مواطني جنوب إفريقيا أن البلاد تسير في الاتجاه الخاطئ(4). وفي الوقت نفسه، تراجعت الثقة في الأحزاب السياسية والنُخب بوتيرة سريعة. لذلك راح العديد من مواطني جنوب إفريقيا يبحثون عن بدائل سياسية، الأمر الذي تمخَّض عن تأسيس أحزاب جديدة خلال السنوات الأخيرة. حتى الآن، يُنظَر إلى التحالف الديمقراطي (DA) وحزب الحرية إنكاثا (IFP) باعتبارهما بديلين لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي في طيف يمين الوسط؛ إذ يتمتع حزب التحالف الديمقراطي (حصل في نتيجة انتخابات البرلمان الوطني لعام 2019م على 20.8%) بسجل حكومي ناجح، لا سيما في مقاطعة ويسترن كيب. ولكن على المستوى الوطني، لا يزال يُنظَر إلى الحزب على أنه حزب عميل للأقلية البيضاء(5).
علاوة على ذلك، فَقَدَ “التحالف الديمقراطي” الدعم بين فئات من ناخبيه خلال الأشهر الأخيرة بسبب موقفه المؤيد لإسرائيل. أما المنافس الذي يليه في الأهمية في طيف يمين الوسط، فهو حزب الحرية إنكاثا (حصل في نتيجة انتخابات البرلمان الوطني لعام 2019م عن 3.4%)، الذي يمثل صورة محافظة تقليدية للمجتمع، وهو قائم على سياسات السوق ومُوجّه نحو الفيدرالية. ويشهد الحزب، الذي يتمتع بجذور قوية في مقاطعة (كوازولو ناتال)، دعمًا مطردًا منذ الانتخابات المحلية الأخيرة في عام 2021م.
ولكن في الوقت الراهن، انضم منافسون مباشرون جُدد إلى حلبة السياسة؛ فلقد تأسس حزب (أكشن إس إيه /ActionSA) قبل الانتخابات المحلية الأخيرة في عام 2021م، بقيادة عمدة جوهانسبرج السابق، هيرمان ماشابا. وقد نجح الحزب، منذ ذلك الحين، في ترسيخ وجوده خاصة في مقاطعة “جوتنج”. كما يُولي الحزب اهتمامًا خاصًّا بموضوعات الأمن الداخلي واقتصاد السوق الحر.
كذلك بدأ حزب (Build One South Africa/BOSA)، الذي أسسه زعيم الحزب الديمقراطي السابق مموسي ميمان، في عام 2022م، كحركة شعبية للمرشحين المستقلين، حددت لنفسها هدف تنفيذ الإصلاحات الحداثية في سوق العمل والتعليم. كما يكتسب حزب “Rise Mzansi/ رايز مزانسي”، الذي تأسس في أبريل 2023م، شعبية متزايدة، خاصة في المراكز الحضرية في جنوب إفريقيا. وعلى الرغم من أنه يشبه برنامجي حزب “التحالف الديمقراطي” وحزب “أكشن إس إيه”؛ إلا أن خطاباته وتوجهاته تستهدف، بشكل أكبر، الشرائح السكانية الأكثر تهميشًا. ومثل هذا التوجُّه يستقطب الكثير من الناس، ويجعل الحزب “الجديد” ذا حظوظ واعدة في هذه الانتخابات داخل طيف الوسط السياسي، وخاصة بين الناخبين الشباب.
لقد كانت هناك أيضًا عدة انشقاقات عن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في طيف يسار الوسط. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى كل من حزب مقاتلي الحرية الاقتصادية اليساري المتطرف الشعبوي (EFF)، الذي تأسس في عام 2013م تحت قيادة الرئيس السابق لمنظمة شباب حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، جوليوس ماليما، وحزب (أومكونتو وي سيزوي/ (MK)، أي “رمح الأمة”، الذي تأسس في نهاية عام 2023، ويترأسه الرئيس السابق جاكوب زوما، وقد سُمي على اسم الجناح العسكري السابق لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي(6).
جدير بالذكر أن زوما، البالغ من العمر 82 عامًا، واجَه اتهامات بالفساد المُستشري أثناء توليه منصبه، واستهدف تقويض مؤسسات الدولة (عصر ما يسمى بالاستيلاء على الدولة)، وسُجِنَ لفترة وجيزة في عام 2021م بتهمة ازدراء القانون. لكنَّه تمكن من الإفلات من العقاب، العام الماضي، بفضل مرسوم أصدره الرئيس الحالي سيريل رامافوزا نظرًا لظروف زوما الصحية.
وبدعم استطلاعات الرأي الجيدة، سرعان ما أثبت “زوما”، رئيس حزب “رمح الأمة” الحالي، نفسه كمنافس جاد أمام حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وحزب مقاتلي الحرية الاقتصادية، وكذلك حزب الحرية إنكاثا. وبصفته رئيسًا سابقًا وينتمي إلى قبائل الزولو، لا يزال زوما يتمتع بشعبية كبيرة، خاصة في مقاطعة “كوازولو ناتال”. يلتزم حزب “رمح الأمة” بمصادرة ملكية الأراضي دون تعويض، والتأميم وتعزيز الزعماء التقليديين. وبناءً عليه يمثل “زوما” كل ما تحتاج إليه البلاد، على الأقل، في وقت الأزمات، وعلى وجه التحديد في ظل تفشي الفساد، والمحسوبية، واحتمالات اندلاع أعمال عنف وعدم الامتثال لأحكام القانون.
والواقع أن حزب “رمح الأمة” يُعدّ بمثابة اختبار حقيقي لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، مما يضع البلاد بأكملها على المحك. كما أن الأمر لا يتعلق فقط بمسألة كيفية حصول حزب المؤتمر الوطني الإفريقي على الأغلبية بعد الانتخابات. ومن خلال “حزبه الجديد”، يبدو أن زوما يريد أيضًا إلحاق ضرر سياسي دائم بعدوه اللدود رامافوزا، الذي أجبره على ترك منصبه قبل ستة أعوام. ولا يمكن استبعاد أن يلجأ أنصار حزب (رمح الأمة) إلى وسائل العنف إذا لم تتحقق أهدافهم الانتخابية؛ فلقد أصبح الخوف من الاضطرابات السياسية المحتملة أو أعمال العنف الأخرى في الحملة الانتخابية في جنوب إفريقيا جزءًا من النقاش العام، ويرجع ذلك في الأساس إلى “ظاهرة” حزب رمح الأمة(7).
يتنافس 51 حزبًا على مقاعد البرلمان الوطني البالغ عددها 400 مقعد. وعلى عكس ألمانيا، لا توجد نسبة مئوية ثابتة. ولأول مرة، أصبح بإمكان المرشحين المستقلين أيضًا التقدم لانتخابات الجمعية الوطنية. وسيكون ذلك ممكنًا من خلال إجراء إصلاح شامل لقانون الانتخابات في أبريل 2023م(8) ويرجع ذلك، في الأساس، إلى شروط وعراقيل القبول وشُحّ الموارد المالية للمرشحين الأفراد؛ إذ لم يتقدم سوى ستة مرشحين مستقلين فقط في جميع المقاطعات التسع لخوض الانتخابات الوطنية(9).
هل تُقدِّم الأحزاب الجديدة بديلًا حقيقيًّا للناخبين؟
يظل توافق الناخبين أيديولوجيًّا فيما بين طيف (يمين الوسط) و(يسار الوسط) دون تغيير إلى حد كبير. ووفقًا لنتائج الاستطلاع الحالي، فإن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (41%)، وحزب مقاتلي الحرية الاقتصادية (12%)، وحزب رمح الأمة (10%)؛ لديهم نِسَب تأييد إجمالية تقترب نسبيًّا مع نتائج انتخابات حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في عام 2014م. ولكن على المستوى الوطني، يحافظ التحالف الديمقراطي بثبات على نسبة تتراوح من 20% إلى 25%، الأمر الذي يرجع إلى قدرة الحزب المؤثرة على التعبئة داخل قاعدته الانتخابية.
ومع ذلك، لا يبدو أن التحالف الديمقراطي يستغل أيّ شرائح جديدة من الناخبين، وإن حدث ذلك، فإنما يحدث على نطاق محدود. ومن الملاحظ أيضًا في مقاطعات “جوتنج” و”كوازولو ناتال” و”ويسترن كيب” الفاعلة اقتصاديًّا (والتي تمثل معًا حوالي ثلثي القوة الاقتصادية لجنوب إفريقيا) أن الحزبين القويين تقليديًّا، حزب المؤتمر الوطني الإفريقي والحزب الديمقراطي، يفقدان الدعم والتأييد من جانب الناخبين، بينما تستفيد أحزاب؛ “رمح الأمة” و”أكشن إس إيه” وحزب “BOSA” وحزب “Rise Mzansi”، التي تتنافس على المستوى الوطني لأول مرة، من ذلك على المستوى الإقليمي تحديدًا.
وفي الوقت نفسه، يقومون بتفكيك الأحزاب الصغيرة الأخرى داخل طيفهم الحزبي. ومن ناحية أخرى، يبدو أن هناك عزوفًا وهجرة للناخبين من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وحزب مقاتلي الحرية الاقتصادية لصالح حزب “رمح الأمة” في المعسكر السياسي اليساري.
وكما هو الحال في بلدان أخرى، يعتمد الحزب الذي يصوّت له الناخب، بصورة أكبر، على المرشح الرئيسي. ونتيجة تشابه البرامج الانتخابية، في كثير من الأحيان، بين الأحزاب المتنافسة سواء من اليسار أو اليمين، اتخذت الحملات الانتخابية طابعًا شخصيًّا، على نحو متزايد. وسواء كان رامافوزا عن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، أو ماليما عن حزب مقاتلي الحرية الاقتصادية، أو زوما عن حزب “رمح الأمة”، أو حتى في حالة حزب “الحرية إنكاثا”، الذي أسَّسه زعيم الزولو “مانجوسوتو بوثيليزي”، الذي توفي العام الماضي، يظل يهيمن القادة ذوو الكاريزما على التقارير في الحملة الانتخابية. كما تمتلك جوانب الهوية الإقليمية تأثيرًا مُعزِّزًا أيضًا.
وحتى الآن، لم تتمكن أحزاب المُعارضة من الاستفادة، بشكل كبير، من التراجع المتزايد في مكانة الحزب الحاكم، وبالتالي تقديم بديل جدير بالثقة وقادر على مواجهة المؤتمر الوطني الإفريقي. وعادة ما تطغى الحساسيات الشخصية لدى ممثلي أحزاب المعارضة على التداخل في المحتوى. يحظى أيضًا ميثاق جنوب إفريقيا متعدد الأحزاب (MPC)، الذي تأسس في صيف عام 2023م، بجوانب أكثر إيجابية: تحت قيادة التحالف الديمقراطي، وقَّعت العديد من الأحزاب من معسكر يمين الوسط (بما في ذلك حزب الحرية إنكاثا وأكشن إس إيه) اتفاقًا للعمل المشترك على أساس القيم والمبادئ المشتركة، بالإضافة إلى السياسات المتداخلة. إنه يُمثّل نوعًا من الاتفاق الإطاري قبيل الانتخابات ومحاولة توفير بديل حاكِم مُنتخَب لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي. وبحسب القانون الحالي، يُسمح بتشكيل الحكومة بعد 14 يومًا فقط من التصويت. وحتى لو كان ميثاق جنوب إفريقيا متعدّد الأحزاب بمثابة خطوة في الاتجاه الصحيح لتعزيز الثقافة السياسية والقدرة على التحالف بين أحزاب المعارضة، فلا ينبغي التغاضي عن أن أحزاب المعارضة -مثل حزبي (Rise Mzansi) أو (BOSA)- لا ينتميان إلى هذا الميثاق. ووفقًا لاستطلاعات الرأي الحالية، يتمتع ميثاق جنوب إفريقيا متعدد الأحزاب بنسب تأييد إجمالية تبلغ نحو 35%. ونتيجة لذلك، وعلى المستوى الوطني، فهو بعيد كل البعد عن الحصول على الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة.
علاوةً على ذلك تسبّب غياب الرؤية بشأن تشكيل حكومة، مؤخرًا، إلى زيادة قوى الطرد المركزي داخل الميثاق متعدد الأحزاب. وبشكل علني، تكهن كل من التحالف الديمقراطي وحزب الحرية إنكاثا (الذي تبلغ شعبيته حاليًّا حوالي 4-5% وفق استطلاعات الرأي)، مؤخرًا تحت شعار “حكومة وحدة وطنية” (على غرار مانديلا في عام 1994م) إذا ما كان عليهما الدخول في ائتلاف مع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بهدف منع تشكيل حكومة شعبوية يسارية مكونة من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وحزب مقاتلو الحرية الاقتصادية (EFF).
جنوب إفريقيا تقترع:
لقد سجَّل حوالي 27.8 مليون مواطن في جنوب إفريقيا، أي ما يقرب من 68% من إجمالي الناخبين المؤهلين، أسماءهم للاقتراع في الانتخابات المقبلة للجمعية الوطنية وبرلمانات المقاطعات. ونظرًا لانخفاض نسبة إقبال الناخبين منذ سنوات، وعلى الرغم من أهمية هذه الانتخابات والتحالفات الحزبية الجديدة المذكورة أعلاه، فمن غير المتوقع حدوث أيّ تحوُّل. لقد هيمنت حالة من اليأس السياسي على مر السنين وأصبحت متغلغلة في المجتمع.
تعتبر مفوضية الانتخابات في جنوب إفريقيا (IEC) عمومًا بمثابة لجنة ذات موثوقية، وهي مستقلة، وتحظى بالثقة لدى العديد من مواطني جنوب إفريقيا، على الرغم من التحدي الذي تواجهه مفوضية الانتخابات المتعلق بضعف الموارد المالية. ومع ذلك، تمثل هذه الانتخابات اختبارًا مهمًّا أمام المفوضية المستقلة: الموقف المبدئي المتوقع للحزب الحاكم (احتمال خسارة حزب المؤتمر الإفريقي الأغلبية المطلقة، والتي سوف تستلزم على الأرجح تشكيل حكومة ائتلافية)، وإصلاح النظام السياسي في البلاد بموجب قانون الانتخابات في عام 2023م، وتصفية الخلافات العامة والقضائية مع الأحزاب السياسية (خاصة مع حزب رمح الأمة حول احتمال قبول زوما في الانتخابات)، ما يعني أن عمل اللجنة الانتخابية المستقلة يخضع، هذه المرة، إلى تدقيق خاص للغاية. ومع ذلك، يفترض الخبراء أن مفوضية الانتخابات المستقلة سوف تضمن إجراء عملية انتخابية منظمة وديمقراطية في جنوب إفريقيا. وكما هو الحال في العديد من دول العالم، من المهم أيضًا الانتباه إلى مسألة ذات أهمية تتعلق بـ«الأخبار الكاذبة/حملات التضليل»؛ لأن هذه الحملة الانتخابية لن تسلم من ذلك، مع الأسف(10).
السيناريوهات المحتملة بشأن نتائج الانتخابات:
على الرغم من كل التوقعات: لا ينبغي الاستهانة بكفاءة الحملة الانتخابية، وبالتالي قوة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وقدرته على التعبئة، خاصةً في ذروة الحملة الانتخابية. فمن ناحية، يتمتع الحزب بحضور قوي في المناطق الريفية وغير الحضرية، ومن ناحية أخرى، يقف جهاز الدولة إلى جانبه؛ حيث يشغل المناصب السياسية والإدارية الرئيسية مجموعة من المؤيدين المخلصين.
بالإضافة إلى ذلك، لا يزال “سيريل رامافوزا” هو السياسي الأكثر شعبية في جنوب إفريقيا، على الرغم من فقد الرئيس الكثير من شعبيته مؤخرًا. وحتى ساسة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذين ينتقدون رامافوزا- مثل الرئيس السابق ثابو مبيكي- أدركوا الأمور التي أصبحت على المحك، وقاموا بحملات مكثفة لصالح حزب المؤتمر الوطني الإفريقي.
ورغم أن الفوز بالأغلبية المطلقة مرة أخرى بنسبة تزيد قليلًا عن 50% من الأصوات لا يزال أمرًا محتملًا، إلا أنه غير مرجّح من المنظور الراهن، فيما سيكون مستوى إقبال الناخبين عاملًا حاسمًا. ومع انخفاض نسبة إقبال الناخبين (وخاصة بين الناخبين الشباب) وارتفاع مستويات التعبئة في المناطق الريفية، قد تكون معدلات تأييد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي أعلى مما توقعته أغلب استطلاعات الرأي. وبالتالي، تفترض السيناريوهات الواردة أدناه أن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي سيحصل على ولاية أخرى مدتها خمس سنوات في 29 مايو 2024م، لكنه سيفقد أغلبيته المطلقة. ولذلك سيتعين على الحزب الحاكم الاعتماد على شريك واحد أو أكثر في الائتلاف في المستقبل(11).
كما يرى الخبراء أنه من شبه المستحيل تشكيل حكومة على المستوى الوطني ضد حركة التحرير السابقة. إذا افترضنا هذه الافتراضات، فإن تشكيل الحكومة في المستقبل سوف يعتمد بشكل حاسم على مدى خسارة الحزب الحاكم للدعم الشعبي على المدى الطويل، وكيفية تطور الديناميكيات الداخلية لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي بعد إعلان نتائج الانتخابات.
في حالة جاءت نتائج الانتخابات مخيبة للآمال، يمكن أن تندلع معارك الأجنحة المعروفة في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي مرة أخرى، ومن المحتمل أن يتم استبدال سيريل رامافوزا بمنافس داخلي في الحزب (هناك تكهنات حول نائب الرئيس بول ماشاتيل).
السيناريو الأول: حصول حزب المؤتمر الوطني الإفريقي على أقل من 50%
سوف ينقذ الحزب نفسه من هذا السيناريو في حكومة ائتلافية من خلال ربط الأحزاب الصغيرة أو النواب المستقلين بحزب المؤتمر الوطني الإفريقي عبر منحهم مناصب. ويجري بالفعل القيام بشيء مماثل على المستوى المحلي (كما هو الحال في مجلس مدينة جوهانسبرج). وبدلًا من تنفيذ الإصلاحات الضرورية، يجري ترسيخ الوضع الراهن في مثل هذه الكوكبة.
ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى تدهور اقتصادي تدريجي وزيادة عدم الاستقرار الاجتماعي في البلاد. وداخل هذا الائتلاف، سوف يجد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي صعوبة في تجديد نفسه مؤسسيًّا، وهو ما يعني استمرار الحزب في فقد شعبيته. وإذا ظل سيريل رامافوزا رئيسًا في هذه الحكومة الائتلافية، فمن المرجح أنه لن يمكنه منع تراجع شعبية حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، بل سيؤخرها فحسب.
السيناريو الثاني: تحالف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي مع حزب مقاتلي الحرية الاقتصادية (وربما أيضًا مع حزب رمح الأمة).
بحسب وصف التحالف الديمقراطي، فإن هذه الشراكة تسمى “سيناريو يوم القيامة”، ومن المرجح آنذاك ألا يظل رامافوزا رئيسًا للبلاد، وسيتم تحييد القوى المعتدلة داخل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بشكل أكبر. ومن المرجح أن يعتمد هذا التحالف الشعبوي اليساري المتطرف على مفهوم التأميم (بما في ذلك البنوك والمناجم)، وتنفيذ عمليات المصادرة دون تعويض -وخاصةً في القطاع الزراعي-، وتحجيم المستثمرين على نطاق واسع من خلال توسيع اختصاصات الدولة في القطاع الخاص، مما سيؤدي بدوره إلى شيوع الفقر وعدم المساواة المجتمعية في جنوب إفريقيا، بل وتصاعدها. بالإضافة إلى ذلك، سيمثل هذا التحالف ضربة قاصمة للتماسك الاجتماعي في البلاد؛ إذ يرفض حزب “مقاتلو الحرية الاقتصادية” (EFF) السياسات التصالحية لحقبة ما بعد الفصل العنصري. وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، سيتم توسيع التعاون مع روسيا والصين.
السيناريو الثالث: تحالف طيف الوسط (حزب المؤتمر الوطني الإفريقي مع الاتحاد الديمقراطي و/أو حزب الحرية إنكاثا و/أو ميثاق جنوب إفريقيا متعدد الأحزاب)
سيكون هذا التحالف الموسع -بقيادة الرئيس رامافوزا- قادرًا على تفكيك الهياكل الجامدة، وبدء عملية الإصلاحات التي تُركّز على تحفيز النمو وفرص العمل. وهذا من شأنه أن يخلق فرصة حقيقية أمام البلاد. وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، لن ينأى هذا التحالف أكثر عن الغرب. ولكن من أجل تحقيق مثل هذا التحالف، سيتعين على الجهات السياسية الفاعلة التغلب على الخلافات الشخصية والموضوعية، خاصةً في حالة وجود تعاون محتمل بين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وحزب الاتحاد الديمقراطي، اللذين يمتلكان برنامجًا سياسيًّا مختلفًا، وليس لديهما أيّ أساس من الثقة المتبادلة.
من ناحية أخرى، سيقدم حزب الحرية إنكاثا (IFP) نفسه كشريك صغير في ائتلاف وسطي للأسباب التالية: كلا الحزبين -على الرغم من الصراعات العنيفة التي دارت بينهما في مطلع التسعينيات- حكمًا سويًّا على المستوى الوطني، وفي مقاطعة (كوازولو ناتال) خلال حكومة الوحدة بعد عام 1994م.
وعلى الرغم من ذلك، لن يكون مثل هذا الائتلاف الحكومي مستقرًّا، إلا إذا نجح حزب الحرية إنكاثا في إقناع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بالاستعداد لإجراء إصلاحات في مجالات السياسة الرئيسية والحد من الفساد المستشري في الحكومة السابقة.
ويمكن أن يستفيد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي أيضًا من ذلك على المدى الطويل؛ حيث إن ائتلاف الوسط من شأنه أن يُبقي مُنافسه اليساري، حزب “مقاتلو الحرية الاقتصادية”، على المدى الطويل بعيدًا عن دائرة السلطة، وبالتالي من المحتمل إضعاف الحزب على المدى الطويل؛ لأن جوليوس ماليما، كرئيس للحزب، سينظر إليه السكان دومًا باعتباره سياسيًّا معارضًا، مع عدم وجود احتمال لمشاركته في الحكومة، وبالتالي سيفقد بريقه إلى الأبد على الساحة الوطنية.
وعلى الرغم من التحديات العديدة التي تواجه البلاد، يمكن لنظام الأحزاب الديناميكي المتنافس، على وجه الخصوص، أن يوفر الزخم المطلوب لتنفيذ الإصلاحات الضرورية التي لا تعود بالنفع على البلاد فحسب، بل على الأحزاب نفسها أيضًا. ومن شأن أحزاب المعارضة المختارة التي ستشارك في حكومات المقاطعات (على سبيل المثال جوتنج وكوازولو ناتال) أن توفر قوة دافعة جديدة للشروع في الإصلاحات، وتسعى لكسب خبرة حكومية وإقناع الناخبين بأسلوبهم السياسي ومهاراتهم في حل المشكلات في الأعمال اليومية.
بالنسبة للعديد من أحزاب المعارضة، تعد هذه فرصة ذهبية لكسب المزيد من الدعم في الانتخابات المحلية المقرر عقدها في عام 2026م، وانتخابات البرلمانات الوطنية والإقليمية التي تليها في عام 2029م. من ناحية أخرى، هناك مخاطر بشأن أن يؤدي تنوع الأحزاب إلى زيادة صعوبة تشكيل حكومة بسبب عدم القدرة على التوصل إلى تسوية وإضعاف القدرة على العمل السياسي في الحياة الائتلافية اليومية. وباستثناء “حكومة الوحدة الوطنية” التي شكَّلها مانديلا في عام 1994م، لم تكن هناك أيّ خبرة في بناء التحالفات على أعلى مستوى في الدولة في جنوب إفريقيا.
تفتح جميع السيناريوهات المذكورة أعلاه نافذة للاستنتاج والعصف الذهني بشأن ما قد يحدث بعد الانتخابات، لتشهد بذلك جنوب إفريقيا حقبة جديدة. وباعتبارها ديمقراطية فتية، تستطيع البلاد أن تعتمد بالفعل على مؤسسات الدولة القوية والدستور المستقر، الذي يخدم الشرعية، وعند الضرورة، يصحح المسار. وهي بمثابة ورقة رابحة مطلقة في يد البلاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1) دائرة الإحصاءات في جنوب إفريقيا (2024م): بيان إعلامي: الثلاثاء 05 مارس 2024م.
(2) دائرة الإحصاءات في جنوب إفريقيا (2024م): بيان إعلامي: الثلاثاء 20 فبراير 2024م.
(3) خلال انتخابات الجمعية الوطنية لعام 2019، بلغت نسبة المشاركة الرسمية للناخبين 66% (انظر هينينج سور: لقد صوتت جنوب إفريقيا: حزب المؤتمر الوطني الإفريقي يفقد الدعم – رامافوزا ليس كذلك، تقرير مؤسسة كونراد إديناور، تقرير انتخابات جنوب إفريقيا 2019(.
(4) مؤسسة برينثورست (2022): سكان جنوب إفريقيا يفضلون بأغلبية ساحقة ائتلافًا وطنيًّا لحكم البلاد – المسح الانتخابي.
(5) منطقة كيب الغربية هي المقاطعة الوحيدة من مقاطعات جنوب إفريقيا التسع التي تحكمها المعارضة. ويتمتع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بالأغلبية المطلقة في المقاطعات الثماني الأخرى.
(6) وفقًا للتطورات الأخيرة، والتي لا يمكن تقييمها بشكل كامل حتى وقت نشر هذا التقرير، فمن الممكن أيضًا أن يضطر جاكوب زوما إلى الخروج من حزب رمح الأمة بسبب الصراعات الداخلي بين الفصائل.
(7) بالفعل في يوليو 2021م، كانت هناك اضطرابات اجتماعية خطيرة في كوازولو ناتال بعد سجن جاكوب زوما بتهمة ازدراء القانون (رفض الإدلاء بشهادته أمام لجنة الاستيلاء الحكومية)، والتي امتدت لاحقًا إلى مقاطعة جوتنج.
(8) اللجنة الانتخابية المستقلة (2023م): ترحب اللجنة الانتخابية بتوقيع الرئيس سيريل رامافوزا على مشروع قانون التعديل الانتخابي ليصبح قانونًا، اللجنة الانتخابية: مقال إخباري على موقع (elections.org.za)
(9) أحدهم فقط، زكي أشمات، وهو ناشط سابق بارز في مناهضة الفصل العنصري ومجتمع LGBTQI+ والذي ظل يناضل منذ سنوات، وخاصة لصالح أولئك المصابين بمرض الإيدز، ثم حصل على فرصة جدية لدخول البرلمان الوطني.
(10) على سبيل المثال: تم تداول مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي في مارس 2024م يصور دونالد ترامب بشكل خاطئ على أنه مؤيد لحزب رمح الأمة (انظر: فان دام (2024م): كيف يمكننا حماية الانتخابات الحرة والنزيهة التي توصلنا إليها بشق الأنفس في جنوب إفريقيا في هذا العصر؟ المعلومات المضللة والحكم والانتخابات في جنوب إفريقيا ISS African Futures
(11) هناك بلا شك سيناريوهات أخرى (متوسطة) يمكن تصورها، مثل التسامح مع حكومة الأقلية التابعة لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي من قبل بعض أحزاب المعارضة. لم يتم وصفها في هذا التقرير لتخفيف التعقيد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط التقرير: