إعداد: نشوى عبد النبي
باحثة متخصصة في الدراسات اللوجستية – مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، مجلس الوزراء – مصر
أزمة البحر الأحمر تُلقي الضوء على الحاجة لتطوير الموانئ الإفريقية
- تسبَّبت الأزمة الأمنية في البحر الأحمر بتأثيرات سلبية كبيرة على حركة الملاحة عبر موانئ الدول الإفريقية المُطِلَّة عليه، لكنّها في الوقت نفسه أفادت بعض الموانئ الواقعة في أماكن أخرى؛ من خلال زيادة الطلب على خدمات التزوُّد بالوقود (التموين) وإعادة التجهيز.
- ومع ذلك، فإن قلة الكفاءة والازدحام اللذين يُعاني منهما العديد من الموانئ الإفريقية الرئيسية حَالَ دون استغلال كامل لزيادة حركة التجارة حول رأس الرجاء الصالح نتيجة لتحويل المسارات بعيدًا عن البحر الأحمر.
- من الممكن أن تسهم هذه الأزمة في دفع صُنّاع القرار الأفارقة إلى التركيز على المُضي قُدمًا في إستراتيجيات تطوير الموانئ، والتي ستساعد على بناء ترابط وتنافس داخلي وخارجي على مستوى القارة الإفريقية، إلى جانب رفع القدرات وتحسين الكفاءة في السنوات المقبلة.
مقدمة:
مع دخول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة شهرها الثامن، يسود قلق متزايد بين المجتمع الدولي، خاصةً فيما يتعلق بحركة التجارة العالمية في البحر الأحمر. ففي منتصف شهر أكتوبر2023م، بدأت مليشيا الحوثي المتمركزة في اليمن بإطلاق صواريخ وطائرات مسيّرة على أهداف داخل إسرائيل، لكنَّها سرعان ما غيّرت إستراتيجيتها لتستهدف حركة الشحن التجاري قبالة المياه اليمنية، وتحديدًا خليج عدن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر.
كانت أول عملية استهداف بحرية: اختطاف سفينة “جالاكسي ليدر” لنقل المركبات في 19 نوفمبر2023م. ومنذ ذلك الحين، استهدفت جماعة الحوثي -بنجاح أو بفشل- عشرات السفن التجارية، بما في ذلك سفن الحاويات، وسفن نقل المركبات، وسفن البضائع العامة والناقلات. وبحلول نهاية فبراير 2024م، كانت جماعة الحوثي قد هاجمت حوالي 50 سفينة تجارية وعددًا قليلًا من السفن الحربية المتمركزة في المنطقة.
التأثير السلبي على موانئ البحر الأحمر:
أدَّى اتساع نطاق تهديد جماعة الحوثي إلى قيام العديد من شركات الشحن بتحويل مسارات سفنها بعيدًا عن منطقة البحر الأحمر، واتجهت ناحية طريق رأس الرجاء الصالح، بدءًا من منتصف ديسمبر 2023م.
وقبل هذه الأحداث كانت قناة السويس تستقبل أكثر من 95% من السفن التي تتنقل بين آسيا وأوروبا، وتُسهّل حركة حوالي 30% من حركة الحاويات العالمية، وتسهم في نقل حوالي 12% من تجارة السلع العالمية.
وبعد اشتعال هذه الأحداث ووفقًا لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)؛ فقد انخفضت حركة المرور الشهرية عبر قناة السويس بنسبة 37% على أساس سنوي في يناير 2024م، وأشارت هيئة قناة السويس إلى أن الإيرادات من المحتمل أن تكون قد انخفضت بنسبة 40% على أساس سنوي في نفس الشهر. بينما حققت قناة السويس إيرادات قياسية بلغت 9.4 مليار دولار أمريكي في عام 2023م.
وتُعتبر استعادة حركة المرور الطبيعية عبر قناة السويس أمرًا بالغ الأهمية بالنسبة لمصر لاستعادة شريان مالي حيوي، والمساعدة في التصدي للأزمة الاقتصادية المستمرة ونقص العملات الأجنبية الشديد الذي تعاني منه البلاد.
هذا وتُواجه الموانئ الإفريقية الواقعة على طول البحر الأحمر، بما في ذلك السودان وإريتريا والصومال، تحديات عديدة، تتمثل في قلة توافر السفن، وارتفاع تكاليف الشحن، وأقساط التأمين بشكل كبير، مما يضرّ بتجارتها البحرية. بينما تعاني الموانئ السعودية المطلة على البحر الأحمر، وخاصة ميناء جدة الإسلامي، من الضغط الناجم عن تعطيل حركة الملاحة وتحويل مسارات السفن وارتفاع تكاليف التشغيل(1).
إقبال متزايد على الطرق البديلة بين الشرق والغرب:
ردًّا على هجمات الحوثي، قامت العديد من شركات الشحن التي كانت تنقل البضائع عبر البحر الأحمر -والذي يربط مواقع الشرق والغرب لقناة السويس (الطرق البحرية التي تربط الشرق الأوسط وآسيا وشرق إفريقيا بأوروبا وشمال إفريقيا وغرب إفريقيا والأميركتين)- بتحويل مساراتها إلى طريق أطول، ولكنه أكثر أمانًا يمر حول الطرف الجنوبي لإفريقيا (رأس الرجاء الصالح). وأدَّى إعادة توجيه حركة الشحن العالمية إلى زيادة الطلب بشكل كبير على خدمات التزود بالوقود (التموين) وإعادة التجهيز في بعض الموانئ الإفريقية، خاصةً تلك التي تقع في موقع إستراتيجي على الطريق البحري حول رأس الرجاء الصالح.
ولذلك استفادت بعض الموانئ الجنوب إفريقية، وخاصة ديربان وكيب تاون ونجكويرا (المعروفة سابقًا باسم بورت إليزابيث)، من موقعها الإستراتيجي وبنيتها التحتية المتطورة للموانئ والخدمات اللوجستية مقارنةً بالعديد من الموانئ الإفريقية الأخرى. ومع ذلك، وعلى الرغم من جذب أعمال جديدة، تعاني موانئ جنوب إفريقيا من قيود بسبب قلة الكفاءة والازدحام ومشكلات إمدادات الطاقة، مما حال دون استغلال كامل لأزمة الأمن في البحر الأحمر وزيادة حركة النقل البحري.
وعلى الرغم من استفادة موانئ جنوب إفريقيا جزئيًّا من إعادة توجيه حركة الشحن العالمية بسبب المخاطر الأمنية في البحر الأحمر؛ إلا أن الصعوبات التي تواجهها -بما في ذلك قلة الكفاءة والازدحام وانقطاع خدمات التزود بالوقود- دفعت بعض شركات الشحن التي تستخدم طريق رأس الرجاء الصالح للتجارة بين الشرق والغرب إلى البحث عن خدمات إعادة التجهيز والتموين في أماكن أخرى. وقد استفادت من هذا الوضع بشكل مباشر كلّ من مدغشقر (تومباسينا) وموريشيوس (بورت لويس) وناميبيا (والفيس باي)؛ نظرًا لموقعها الإستراتيجي على الطريق البحري الشرق-غرب الذي يربط آسيا بأوروبا.
كما تشهد موانئ شرق إفريقيا الرئيسية، بما في ذلك مومباسا (كينيا)، ودار السلام (تنزانيا)، وبيرة (موزمبيق)، والتي تقع خارج خطوط الشحن التقليدية التي تربط آسيا بأوروبا، انتعاشًا بسبب زيادة حركة النقل البحري من وإلى موانئ الخليج الفارسي التي تتجنَّب البحر الأحمر، وتستخدم بدلًا من ذلك طريق رأس الرجاء الصالح. ومع ذلك، فإن دول شرق إفريقيا نفسها تعتمد على قناة السويس كطريق مهمّ للموردين الرئيسيين والأسواق في شمال إفريقيا وأوروبا بشكل خاص، مما يعني تكاليف أعلى وتأخيرات أطول واختلالات لشركات الشحن ومشغلي الموانئ.
على عكس الموانئ الواقعة على طول طريق رأس الرجاء الصالح، لم يكن التأثير الإيجابي لأزمة البحر الأحمر بارزًا بشكل كبير بالنسبة للموانئ الموجودة على ساحل غرب ووسط إفريقيا. بل على العكس، من المرجَّح أن تؤدي هذه الأزمة إلى زيادة التأخير وارتفاع التكاليف بالنسبة للتجارة الإفريقية سريعة النمو مع الشركاء الآسيويين أو الشرق أوسطيين. رغم أن الموانئ الرئيسية في أنجولا (لواندا)، وعلى طول خليج غينيا في الكاميرون (دوالا)، ونيجيريا (لاجوس)، وغانا (تيما)، وكوت ديفوار (أبيدجان)، والسنغال (داكار) تتمتع بمرافق جيدة؛ إلا أنها تقع بعيدة جدًّا عن خطوط الشحن الشرق-غرب التقليدية حول رأس الرجاء الصالح. وهذا يُبعدها عن تقديم خدمات إعادة التجهيز والتموين الفعَّالة من حيث تكلفة حركة النقل البحري التي تم تحويل مسارها بعيدًا عن البحر الأحمر (2).
أزمة هجمات البحر الأحمر وتعزيز الأهمية الإستراتيجية لموانئ جيبوتي:
أدَّت هجمات البحر الأحمر إلى ظهور نافذة جديدة من الفرص لموانئ جيبوتي، الواقعة على ساحل خليج عدن. فمع تزايد مخاوف شركات الشحن من عبور الممرات المائية التي يسيطر عليها الحوثيون، لجأت العديد من السفن إلى تغيير مسارها ورسو السفن في ميناء دوراليه الجيبوتي. فعلى الرغم من الخسائر التي تعرَّضت لها حركة الملاحة البحرية والتجارة العالمية خلال العام الجاري، ولا سيما بعد شنّ مليشيا الحوثي هجمات على السفن المارّة بالبحر الأحمر وخليج عدن، مما أثر على ما يُطلَق عليه «اقتصاديات الموانئ»؛ إلا أن موانئ جيبوتي استفادت من تلك الأزمة وحوَّلتها إلى فُرَص محتملة لها.
مواقع موانئ جيبوتي الرئيسية
عزَّزت التطورات الأخيرة في منطقة البحر الأحمر، وازدياد حدة الاضطرابات، من الأهمية الإستراتيجية لجيبوتي، وذلك لعدة اعتبارات، من أهمها ما يلي:
- موقع جيبوتي الإستراتيجي… مفتاح عبور آمِن للتجارة العالمية:
تتمتع جيبوتي بموقع إستراتيجي استثنائي على خليج عدن؛ حيث تتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر من خلال مضيق باب المندب. ويُعدّ هذا المضيق بمثابة ممر مائي حيوي يربط بين البحر الأحمر وخليج عدن، الذي يُطلّ على المحيط الهندي. وتزداد أهمية مضيق باب المندب لكونه ضيقًا نسبيًّا؛ حيث لا يتجاوز عرضه 30 كيلو مترًا، ممّا يجعله نقطة عبور حتمية للتجارة البحرية بين الشرق والغرب. ازدادت أهمية مضيق باب المندب بشكل كبير مع افتتاح قناة السويس عام 1869م، ليصبح حلقة وصل رئيسية في الطريق البحري الذي يربط بين شرق آسيا وأوروبا.
يُمثل مضيق باب المندب شريانًا حيويًّا للتجارة والطاقة العالمية؛ حيث يتمتع بأهمية اقتصادية هائلة على مستويات متعددة، كما يُعدّ ممرًّا بحريًّا رئيسيًّا للتجارة الدولية؛ حيث تمر من خلاله ما يقارب 10% من حركة الملاحة العالمية. ويُشكِّل ذلك حلقة وصل مهمة بين الشرق والغرب، ويربط بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس. يحتل مضيق باب المندب المرتبة الثالثة عالميًّا من حيث عبور موارد الطاقة، بعد مضيقي ملقا وهرمز. وتمرّ من خلاله معظم صادرات النفط والغاز الطبيعي من الخليج العربي، سواء تلك التي تتّجه إلى أوروبا عبر قناة السويس أو تلك التي تُنقل عبر خط أنابيب سوميد. يُقدَّر عدد السفن التي تمر عبر مضيق باب المندب سنويًّا بأكثر من 21 ألف سفينة، أي ما يعادل 57 سفينة يوميًّا.
- تمتع جيبوتي بشبكة موانئ متطورة تدعم حركة التجارة الإقليمية:
تُعدّ جيبوتي مركزًا لوجستيًّا مهمًّا في منطقة البحر الأحمر، وذلك بفضل شبكة موانئها المتطورة التي تُسهم بشكل كبير في دعم حركة التجارة الإقليمية. وتتمتع جيبوتي بخمسة موانئ متخصصة، تُلبِّي احتياجات متنوعة من شحن البضائع والبضائع السائبة والنفط والغاز الطبيعي.
ويُعدّ ميناء دوراليه للحاويات من أبرز موانئ جيبوتي؛ حيث تأسّس عام 2009م ليصبح من أضخم موانئ الحاويات في إفريقيا. تبلغ مساحة الميناء حوالي 3 كيلو مترات من البوابة حتى حافة البحر، يبلغ عمق مياه الميناء 20 مترًا، ممّا يسمح باستقبال السفن العملاقة، يبلغ عرض الميناء 1050 مترًا، ممّا يُتيح مناولة كميات كبيرة من البضائع، يرتبط ميناء دوراليه مباشرةً بمحطة القطارات الرئيسية في جيبوتي، ممّا يسهِّل عملية نقل البضائع إلى إثيوبيا عبر خط “أديس أبابا-جيبوتي”؛ بفضل هذه المميزات، أصبح ميناء دوراليه البوابة الرئيسية لحركة التجارة الخارجية الإثيوبية؛ حيث تُشكّل البضائع المتجهة إلى إثيوبيا أو القادمة منها ما نسبته 90% من إجمالي حركة الميناء.
تشهد موانئ جيبوتي عبور ما يقارب 90 سفينة يوميًّا، ممّا يُمثل رقمًا هائلًا يُؤكّد على أهميتها كمركز تجاري ولوجستي إقليمي مُهمّ. تمثل السفن القادمة من قارة آسيا نحو 59% من إجمالي السفن التي تمرّ عبر موانئ جيبوتي، وتمثل السفن القادمة من أوروبا نحو 21% من إجمالي السفن، وتمثل السفن القادمة من قارات أخرى، بما في ذلك إفريقيا، نحو 16% من إجمالي السفن.
- تعتبر جيبوتي وجهة إستراتيجية للقواعد العسكرية الأجنبية:
تُعدّ جيبوتي، على الرغم من صِغَر مساحتها (23,200 كيلومتر مربع)، وقلة عدد سكانها (حوالي 990 ألف نسمة وفقًا لبيانات البنك الدولي)، وجهة إستراتيجية مهمة للقواعد العسكرية الأجنبية، حيث تُؤوي أكبر عدد من هذه القواعد على مستوى القارة الإفريقية.
لا تقتصر رغبة الدول في الوجود العسكري في جيبوتي على القوى الحاضرة حاليًّا، بل تسعى العديد من الأطراف الأخرى جاهدةً لتأسيس قواعد عسكرية على أراضيها، من بينها روسيا والمملكة العربية السعودية؛ حيث تُبدي روسيا اهتمامًا كبيرًا بإنشاء قاعدة عسكرية في جيبوتي، ممّا يُعزِّز من وجودها العسكري في إفريقيا والبحر الأحمر، كما تسعى المملكة العربية السعودية أيضًا إلى إنشاء قاعدة عسكرية في جيبوتي، في إطار سعيها لتوسيع نفوذها في المنطقة. يعكس هذا التهافت على إنشاء قواعد عسكرية في جيبوتي التقدير المتزايد لأهميتها الإستراتيجية مِن قِبَل مختلف القوى الدولية.
وتُمكن هذه القواعد الدول من تحقيق العديد من الأهداف والمصالح الذاتية، منها:
- تُعدّ جيبوتي بوابة عبور رئيسية للتجارة العالمية، ممّا يجعلها نقطة حيوية لتأمين حركة الملاحة البحرية.
- تسعى الدول إلى حماية خطوط التجارة البحرية والطاقة التي تمرّ عبر جيبوتي، خاصةً مع ازدياد أهمية هذه الخطوط في الاقتصاد العالمي.
- تُستخدم القواعد العسكرية لمكافحة ظاهرة القرصنة واختطاف السفن في البحر الأحمر، ممّا يُسهم في تعزيز الأمن البحري.
- تسعى الدول إلى حماية أصولها ومواطنيها في الخارج من خلال وجودها العسكري في جيبوتي.
- تُسهم القواعد العسكرية في تعزيز نفوذ الدول صاحبة هذه القواعد في المنطقة وتوسيع نطاق تأثيرها.
- جيبوتي حارس أمين على ممرات الملاحة البحرية:
تُثبت جيبوتي، من خلال موقعها الإستراتيجي على مضيق باب المندب، قدرتها على الاضطلاع بدورٍ مهمّ في مجال الإنقاذ البحري، وضمان سلامة الملاحة في أحد أهمّ ممرات التجارة العالمية. برزت مهارات جيبوتي في مجال الإنقاذ البحري من خلال عملية إنقاذ غير مسبوقة لركاب سفينة “روبيمار” التي تعرَّضت لهجوم أثناء عبورها جنوب البحر الأحمر. وتمّكنت فِرَق الإنقاذ الجيبوتية من تأمين الركاب بنجاح، ممّا يُؤكِّد على كفاءتها وخبرتها في التعامل مع مثل هذه الحوادث. كما أسهمت جيبوتي بفعالية في عملية الأمم المتحدة لنقل النفط من خزان “صافر” الراسي قبالة سواحل اليمن. وتعكس هذه المشاركة التزام جيبوتي بضمان سلامة الملاحة البحرية وحماية البيئة من مخاطر تسرب النفط (3).
على الرغم من التأثيرات السلبية التي تشهدها غالبية الموانئ التي تطل على البحر الأحمر وخليج عدن، بسبب الاستهداف الحوثي للسفن؛ إلا أنه في المقابل تزايد دور موانئ جيبوتي، وهو ما يمكن إرجاعه إلى عدد من الأسباب المرجّح تحققها، على النحو التالي:
- جيبوتي: ملاذ لوجستي آمِن في خضمّ فوضى البحر الأحمر:
تعرَّضت حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر لاضطرابات كبيرة خلال الفترة الماضية، وذلك بسبب هجمات الحوثيين على السفن المارَّة بمضيق باب المندب. أدَّى ذلك إلى تردد العديد من السفن في عبور المضيق، خوفًا من التعرض للهجمات. في ظل هذه الظروف، ظهرت موانئ جيبوتي كبديل آمِن وموثوق لخدمة السفن العابرة للمنطقة. فمع تعطُّل وصول السفن إلى الموانئ الأخرى في البحر الأحمر، لجأت العديد من السفن إلى موانئ جيبوتي للحصول على الخدمات اللوجستية والصيانة اللازمة. تشير العديد من المصادر إلى أن بعض السفن تلجأ إلى الانتظار في المياه الإقليمية وموانئ جيبوتي هربًا من هجمات الحوثيين. حيث تقف هذه السفن في مأمن من أيّ هجمات محتملة، وتنتظر اتخاذ قرار بشأن مسار رحلتها التالي. وتُقدّم هذه الظاهرة دليلًا قاطعًا على ثقة شركات الملاحة الدولية في سلامة وأمان المياه الإقليمية الجيبوتية، حتى في ظلّ التوترات الأمنية التي تشهدها المنطقة.
كما شهدت جيبوتي قفزة ملحوظة في مؤشرات الأداء اللوجستي خلال السنوات الماضية، مما يعكس جهودها المستمرة في تطوير بنيتها التحتية وتحسين خدماتها.
هذا وتلجأ بعض السفن -هربًا من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر- إلى تغيير مسارها نحو طريق رأس الرجاء الصالح. ومع ذلك، تواجه هذه السفن تحديات كبيرة في الحصول على التزود بالوقود والخدمات اللوجستية على طول هذا الطريق، وذلك بسبب عدم جاهزية الموانئ الإفريقية على هذا المسار. وهنا تُقدم موانئ جيبوتي حلولًا مثالية لهذه التحديات، وذلك بفضل موقعها الجغرافي المميز على مفترق طرق الملاحة البحرية الدولي.
- الدور المتزايد لموانئ جيبوتي في نقل البضائع إلى إفريقيا:
تلعب موانئ جيبوتي دورًا مهمًّا كمركز لنقل البضائع من وإلى الدول الحبيسة في إفريقيا، مثل إثيوبيا وجنوب السودان. ونتيجة لتخوُّف شركات الشحن من عبور البحر الأحمر بسبب هجمات الحوثيين، ظهرت فرصة جديدة أمام موانئ جيبوتي؛ حيث يتم تحميل بعض البضائع في هذه الموانئ لنقلها بريًّا إلى دول الجوار، مثل إريتريا والسودان. ويُعدّ نقل البضائع إلى داخل السودان دون المرور على مناطق الصراع ميزة كبيرة، خاصةً في ظلّ الصراع الداخلي الذي تشهده البلاد، مما أثَّر على حركة الاستيراد عبر الموانئ البحرية.
كما تتمتع موانئ جيبوتي بقدرة هائلة على مناولة الحاويات؛ حيث شهدت هذه القدرة ارتفاعًا ملحوظًا خلال السنوات الماضية. ففي عام 2010م، بلغ حجم مناولة الحاويات في موانئ جيبوتي 406 آلاف TEU (وحدة قياس مكافئة لعشرين قدمًا). بينما ارتفع هذا الرقم إلى 917 ألف TEU في عام 2019م، أي بزيادة هائلة بلغت 126%.
- جيبوتي: ملاذ آمِن لإعادة التصدير في ظلّ تراجع حركة الملاحة في البحر الأحمر:
أدَّى تراجع حركة مرور السفن عبر البحر الأحمر إلى انخفاض نشاط إعادة التصدير في الموانئ الواقعة على ضفافه. ومع ذلك، تشير بعض المؤشرات إلى أنّ موانئ جيبوتي قد تتمكَّن من تعويض هذا التراجع، وتحويلها إلى مركزٍ مهم لإعادة التصدير في المنطقة. كما أنّ ميناء دوراليه شهد زيادة في حركة مناولة الحاويات خلال شهر يناير 2024م، مقارنةً بالأشهر السابقة. ويُعدّ هذا مؤشرًا قويًّا على اتجاه بعض شركات النقل البحري للاعتماد على موانئ جيبوتي لإعادة تصدير بضائعها؛ هربًا من مخاطر عبور البحر الأحمر.
يُعدّ قطاع النقل واللوجستيات ركيزة أساسية للاقتصاد الجيبوتي؛ حيث يُسهم بنحو 80% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وتلعب موانئ جيبوتي دورًا محوريًّا في هذا المجال، من خلال توفير خدمات إعادة التصدير والخدمات اللوجستية المتقدمة لشركات الشحن من جميع أنحاء العالم. فوفقًا لبيانات منظمة الاتحاد الإفريقي، يُسهم قطاع الخدمات بنسبة 80% في الناتج المحلي الإجمالي لجيبوتي، بينما تُشكل قطاعات الصناعة والزراعة 17% و3% على التوالي.(4)
فرص واعدة لجيبوتي في ضوء تحديات منطقة البحر الأحمر:
تُواجه منطقة البحر الأحمر تحديات أمنية متزايدة تلقي بظلالها على مستقبل المنطقة. ولكن في ظل هذه التحديات، تظهر فرص واعدة لجيبوتي، تتمثل في:
- الاستفادة من مناولة الحاويات في الموانئ:
تُواجه منطقة البحر الأحمر اضطرابات أمنية متزايدة، ممّا أدّى إلى تحويل مسارات الشحن البحري نحو موانئ أكثر استقرارًا، مثل الموانئ الجيبوتية. وقد نتج عن ذلك انتعاشٌ ملحوظٌ في عمليات مناولة الحاويات في هذه الموانئ خلال الأشهر الأخيرة، ممّا يُؤكّد على مكانتها المتنامية كمركزٍ لوجستي إقليمي مُهمّ. ويُعدّ ميناء دوراليه مثالًا بارزًا على هذا الانتعاش؛ حيث شهد ارتفاعًا في عمليات مناولة الحاويات خلال شهر يناير 2024م بنسبة تتراوح بين 5% و10% مقارنةً بالأشهر السابقة. كما يتميز ميناء دوراليه بقدرته على استقبال أكبر السفن على مستوى العالم، ممّا يجعله وجهةً مُفضّلةً للشحن البحري، ويشهد ميناء دوراليه دخول شركات ملاحية جديدة كعملاء جدد، ممّا يُسهم في زيادة حجم النشاط التجاري في الميناء.
- ارتفاعٌ في إيرادات تأمين الشحن البحري على خلفية التوترات في البحر الأحمر:
تُلقي التطورات الأمنية المتصاعدة في البحر الأحمر، بما في ذلك هجمات الحوثيين على السفن التجارية المتَّجهة إلى إسرائيل والضربات الجوية الأمريكية-البريطانية على مواقع الحوثيين، بظلالها على قطاع الشحن البحري في المنطقة. وتُشير التوقعات إلى أنّ هذه التطورات قد تُؤدِّي إلى ارتفاعٍ ملحوظٍ في إيرادات تأمين الشحن البحري في جيبوتي، وهو ما قد يتحقَّق في ضوء فرض رسوم إضافية لتغطية المخاطر المرتبطة بظروف النزاع القائم وحالة عدم الاستقرار القائمة في المنطقة.
- استثمار مساعي تأمين الملاحة في البحر الأحمر لتعزيز إيرادات القواعد العسكرية:
تُتيح التطورات الأمنية في البحر الأحمر، وخاصةً جهود القوى الدولية لتأمين الملاحة، فرصًا لجيبوتي لتعزيز إيراداتها من القواعد العسكرية الأجنبية الموجودة على أراضيها. تُشكّل الإيرادات المُتحقّقة من إيجارات القواعد العسكرية مصدرًا مهمًّا للدخل لجيبوتي؛ حيث تُقدّر بنحو 128 مليون يورو، أي ما يُعادل 3% من الناتج المحلي الإجمالي. وتُعدّ القاعدة العسكرية الأمريكية الأكبر من حيث القيمة الإيجارية؛ حيث تُدِرّ على جيبوتي 56 مليون يورو سنويًّا. وتُسهم القاعدة العسكرية اليابانية أيضًا في إيرادات جيبوتي، بقيمة إيجارية تبلغ 3 ملايين يورو سنويًّا.
تشهد المنطقة تسارعًا في وتيرة التحركات العسكرية مِن قِبَل دول إقليمية ودولية بهدف تأمين حركة الملاحة. ويُعدّ تشكيل الولايات المتحدة الأمريكية لتحالف دولي مُتعدّد الجنسيات لحماية التجارة في البحر الأحمر (“عملية حارس الازدهار”) خطوةً مهمّةً تُعزّز الأمن والاستقرار في المنطقة. كما يُعزّز الاتحاد الأوروبي جهوده لتأمين الملاحة في البحر الأحمر من خلال إطلاق مهمةٍ عسكريةٍ جديدةٍ أطلق عليها اسم “عملية أسبيدس“.
خلاصة القول: أزمة البحر الأحمر: جرس إنذار لإستراتيجيات الموانئ الإفريقية
تدهور الوضع الأمني في البحر الأحمر بسرعة في أواخر عام 2023م، وقد يتحسن بنفس السرعة في الأشهر المقبلة إذا نجحت الوساطة الدولية أخيرًا في تأمين اتفاق سلام دائم بين إسرائيل وحماس.
من المؤكد أن أزمة البحر الأحمر ستنتهي في مرحلةٍ ما، وستعود حركة الشحن العالمية إلى طريق قناة السويس الأقصر والأقل تكلفة، مما سيضع حدًّا للزيادة قصيرة الأجل في إيرادات الموانئ الناجمة عن زيادة الطلب على خدمات التزود بالوقود وإعادة التجهيز.
ومع ذلك، فقد سلّطت الأزمة الضوء على موانئ إفريقيا، وأبرزت إمكاناتها لتنويع الطرق التجارية إلى جانب أوجه قصورها مقارنةً بالموانئ الدولية المتقدمة الأخرى. وحتى قبل الأزمة، استثمرت عدة دول إفريقية بشكل كبير في البنية التحتية والخدمات الخاصة بالموانئ، وستؤدي ذروة الطلب إلى إعادة تركيز جهودها على تنفيذ إستراتيجيات استثمارية تُعزّز الترابط البيني الإفريقي والدولي مع شركاء أكثر استعدادًا للتعاون.
تُشير الرؤية المستقبلية إلى تزايد الأهمية الإستراتيجية لجيبوتي كمركزٍ محوريٍّ في منطقة البحر الأحمر خلال العقود القادمة. ومن المرجّح أن تستمر الأوضاع المضطربة في منطقة البحر الأحمر لفترة من الزمن، خاصةً مع تصاعد وتيرة المواجهات العسكرية في قطاع غزة. وسيُؤدّي ذلك إلى ازدياد اهتمام القوى الدولية بتأمين حركة وحرية الملاحة الخاصة بها، وخطوط إمدادات مصادر الطاقة في المنطقة.
ومن المتوقع أن تزداد التحركات العسكرية للعديد من القوى الدولية في المنطقة، وستدور هذه التحركات بدرجة كبيرة في فلك جيبوتي. كما ستُؤدّي هذه التطورات إلى زيادة إيرادات جيبوتي من رسوم الموانئ والخدمات اللوجستية، وجذب الاستثمارات، وعليه ستُصبح جيبوتي وجهةً مُفضّلةً للاستثمارات الأجنبية، ممّا يُسهم في تنمية اقتصادها. وستُؤدّي هذه التطورات إلى خلق فرص عملٍ جديدةٍ لسكان جيبوتي.
ووفقًا لهذا التناول من الممكن أن تشهد الفترة المقبلة تحقق أيّ من السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: “مخاطر وفرص… استثمار التحولات الجيو-سياسية في الملاحة البحرية“
يُمكن للدول الإفريقية الاستفادة من ازدياد حركة السفن عبر رأس الرجاء الصالح؛ من خلال تحويل موانئها إلى مراكز رئيسية لتقديم الخدمات اللوجستية والتزود بالوقود للسفن التجارية، ويمكن للدول الإفريقية جذب استثمارات كبيرة لقطاع الموانئ من أجل تطوير بنيتها التحتية وتحسين كفاءتها. ويمكن للدول الإفريقية تعزيز قدراتها في مجال الأمن البحري لضمان سلامة الملاحة البحرية في مياهها الإقليمية. ومع ذلك، من المهم معالجة تحديات محدودية القدرات والاستقطاب الدولي لضمان الاستفادة القصوى من هذه الفرصة.
السيناريو الثاني: “عودة الاستقرار مع تركيز على الاستدامة“
يُفترض هذا السيناريو احتواءً سريعًا لأزمة تهديد الملاحة في البحر الأحمر، وعودة الملاحة الدولية إلى الاعتماد على قناة السويس كمسار رئيسي للتجارة بين آسيا وإفريقيا، ويمكن أن تُشكل هذه الأزمة فرصة لتنبيه الدول الإفريقية والقوى الاقتصادية العالمية لأهمية تطوير قطاع الموانئ والنقل البحري في الدول الإفريقية. ويُمكن لتنمية قطاع النقل البحري الإفريقي أن تُعزّز قدرة القارة على التكامل مع الاقتصاد الدولي. ويُمكن لتنمية قطاع النقل البحري الإفريقي أن تُساعد القارة على تجاوز الأزمات التي قد تؤثر في الملاحة الدولية في المستقبل(5).
ويُعدّ هذا السيناريو أقل احتمالية بسبب استمرار مخاطر الملاحة في البحر الأحمر وصعوبات تطوير قطاع الموانئ في الدول الإفريقية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
- Francois Vreÿ and Mark Blaine, Red Sea and Western Indian Ocean Attacks Expose Africa’s Maritime Vulnerability, study, April 9, 2024, Africa Center for Strategic Studies, https://linksshortcut.com/IhlVI
- Red Sea crisis affects African ports, Report, 29th Feb 2024, Economist Intelligence, https://linksshortcut.com/cHCFw
- مكاسب الجغرافيا: كيف عزّز الصراع في البحر الأحمر من الأهمية الإستراتيجية لجيبوتي؟، تقدير موقف، 7 مارس 2024م، مركز إنترريجونال للتحليلات الإستراتيجية، https://n9.cl/vdu4w
- كيف تأثرت موانئ جيبوتي بتفاقم الاضطرابات في البحر الأحمر؟، تقديرات عربية، 21 مارس 2024م، الحائط العربي، https://linksshortcut.com/BmGCk
- الاضطراب مُقابِل التوسُّع: التحديات والفرص التي خلقتها أزمة البحر الأحمر لقطاع الموانئ الإفريقي، دراسة، 23 أبريل 2024م، مركز الإمارات للدراسات، https://linksshortcut.com/IAEcP