تُحتّم تحوّلات منطقة الساحل الإفريقي تفاعلات صراعية وتنافسية متصاعدة منذ 2020 بشكل جعل بعض أطرافها تُفكّك ارتباطاتها الأمنية والإقليمية، وتُعيد تشكيلها على نحو جديد. نمَت تلك التفاعلات لدى ما بات يُعرَف حديثًا بـ”تحالف دول الساحل”، وبلغت ذُروتها بإعلانهم تشكيل قوى عسكرية مشتركة، مشفوعة بدوافع ودواع متعددة، تشمل إلى جانب إرساء الدفاع المشترك: درء التهديدات الأمنية التقليدية وغير التقليدية مِن قِبَل التنظيمات المسلحة والحركات الانفصالية. وتَحمل في المدى القريب والمتوسط والبعيد حال تشكيلها انعكاسات متعددة، تُغيّر خارطة الفاعلين والشركاء العسكريين، وتُعمّق الخلافات مع الإيكواس، وتهدد التكامل الإقليمي، وتعجز عن كبح تمدُّد التنظيمات المسلحة.
تغيرات هيكلية:
تتكشف عن منطقة الساحل الإفريقي وتحولاتها الجيوسياسية تغيرات بنيوية وهيكلية، تمسّ منظومتها: الأمنية والدفاعية والتحالفية التقليدية، وتُغيّر فاعليها وشركائها العسكريين والأمنيين، وتُلقي بظلالها داخل منطقة “ليبتاكو-غورما”، ودولها الثلاث: (مالي والنيجر وبوركينا فاسو) بشكل دفَع المجالس العسكرية لتلك الدول لفكّ ارتباطاتهم الأمنية والإقليمية، وإعادة تشكيلها وصياغاتها مجددًا؛ ليُعلنوا معًا -علاوةً على انسحاباتهم المتتالية والمشتركة من تحالف الساحل والمنظمة الاقتصادية لغرب إفريقيا- عن تشكيلهم قوة عسكرية مشتركة لمحاربة التنظيمات المسلحة والحركات الانفصالية في 6 مارس 2024.
توابع متلاحقة:
يتضح جليًّا أن مخرجات الاجتماع تُعتبر انعكاسًا حتميًّا لسلسلة التحولات المتلاحقة والمتسارعة، والتي نجمت عن التغيرات غير الدستورية على نحوٍ متتالٍ في 2020، و2022 و2023، وانسحابات القوى الغربية والقوات الفرنسية، وتنامي تهديدات التنظيمات المسلحة وتداعياتها: (الأمنية والسياسية والاقتصادية والإنساني، وغيرها)، ويبدو أنها أيضًا تُعتبر امتدادًا طبيعيًّا لمساعي الدول الثلاث المنضوية تحت لوائها الجديد “تحالف دول الساحل” منذ سبتمبر 2023، وقراءة شفهية لميثاق “ليبتاكو- غورما” ومواده: (2، 4، 5، 6)، وخطوة تمهيدية لبدء تنفيذه وتفعيله.
قرار سياسي:
حتى الآن تُصوّر نصوص البيان قرار تشكيل القوة العسكرية المشتركة باعتباره مجرد إعلان سياسي فقط أو دعاية ترويجية؛ فهي لم تُحدّد حجم القوة العسكرية أو آليات تشكيلها وحدود تحرُّكها ولا مصدر تمويلها. ففي البيان المشترك، اكتفى رئيس أركان القوات المسلحة لدولة النيجر “موسى صلاح بارمو” بالإعلان فقط عن تشكيل القوة المشتركة قائلًا: “القوة المشتركة ستبدأ بالعمل بأسرع ما يمكن؛ نظرًا للتحديات الأمنية في منطقتنا… ونحن مقتنعون بأنه من خلال الجهود المشتركة لبلداننا الثلاثة، سننجح في تهيئة الظروف للأمن المشترك”. وأضاف: إن الجيوش الثلاثة تمكنت من “تطوير مفهوم عملياتي… سيجعل من الممكن تحقيق الأهداف فيما يتعلق بالدفاع والأمن في الأراضي الشاسعة للدول الثلاث”.
نهج مغاير :
لأول وهلة؛ يُدرك المتابع للشأن الإفريقي أنها ليست المرة الأولى التي تتحدث فيها الدول الثلاث عن تشكيل القوة العسكرية المشتركة، وأنها ليست المبادرة الأولى لدول الساحل الإفريقي، ولكنه أيضًا يعي أن هذه الخطورة تُعتَبر اقترابًا جديدًا وغير اعتيادي لإرساء السلام ومكافحة التنظيمات المسلحة والحركات الانفصالية. والجديد أن هذه الخطوة تخرج عن فلك المبادرات التقليدية والآليات الاعتيادية، ولا سيما مبادرة تحالف الساحل الخمس قبل انهيارها، والتي كان يغلب عليها طابع الاعتمادية والتشاركية مع القوى الغربية، وعلى رأسها: فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا وبعثات الاتحاد الأوروبي.
ووفقًا لنص البيان، يُعدّ قرار تشكيل القوة العسكرية مبادرة إفريقية ذاتية، تأخذ فيها الدول الثلاث زمام القيادة، وتتمتع بقدر أكبر من الاستقلالية، وتعول رهاناتها بدرجة أو بأخرى على شراكات أمنية وعسكرية غير غربية لصالح الفاعليين الدوليين الجدد، وعلى رأسها روسيا والصين.
ديناميات متعددة:
بالنظر إلى سياقات الدول الثلاث ومجريات الأحداث المتسارعة والقائمة بها، يتعدد لدى المتابع ديناميات متعددة، تُحرّك تلك الدول لتبني مقاربات أمنية جديدة، ومنها تشكيل قوة عسكرية مشتركة، وبالتدقيق في نص البيان وإعلانه دَرْء تهديدات التنظيمات المسلحة والحركات الانفصالية كدافع ومُحرّك رئيس لها؛ يمكن أيضًا تقدير مجموعة من الدوافع والمحفّزات الأخرى على النحو التالي:
1- إرساء الدفاع المشترك:
تُعدّ المادة الثانية لميثاق “ليبتاكو-غورما” أحد الدوافع الرئيسية لإعلان القوة المشتركة، وفي ظلها، يمكن اعتبار القوة العسكرية الذراع العسكري لتحالف دول الساحل وآلياته الناجعة لإرساء البنية الدفاعية المشتركة ومقاربته لتنسيق أدوارها العملياتية: (الهجومية والدفاعية، واللوجستية)؛ لإرساء الأمن والسلام والاستقرار داخل تلك البلدان وردع أي تهديدات تتعرض لها؛ إذ تكشف مجريات العمليات العسكرية المشتركة مِن قِبَل جيوش الدول الثلاث عن حاجاتها إلى إعادة الترتيب والتنسيق والتطوير المشترك، ولعل أحدث تلك العمليات ما تمت في بدايات مارس 2024 لدعم جيش بوركينا فاسو عقب الهجمات المتزايدة.
2- درء تهديد التنظيمات المسلحة والحركات الانفصالية
بصورة واضحة، تُعدّ المادة الرابعة أحد المحفزات الأولى والمعلنة عنها صراحة لتشكيل القوة العسكرية، وتفسر ذلك بكونها محاولات من تلك الدول لدرء تهديدات التنظيمات المسلحة والحركات الانفصالية المنتشرة هناك منذ عشر سنوات؛ إذ لا يخفى عن المتابع لإرهاصات المثلث الحدودي الكائن بين الدول الثلاث نوعية وجغرافية وتكتيكية تمدد التنظيمات المسلحة والحركات الانفصالية وهجماتها المتزايدة، وخاصةً مِن قِبَل التنظيمات ذات الصلة بتنظيم الدولة والقاعدة، وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، ونجاحهم في تكبيد تحالف دول الساحل خسائر أمنية واقتصادية وإنسانية حادة، وخاصةً في بوركينا فاسو، حتى يمكن تصنيفها بأنها أكبر الدول في عدد ضحايا التنظيمات المسلحة والحركات الانفصالية، وأن أجزاءها الشمالية والشرقية أصبحت مسرحًا محمومًا لهجمات تلك التنظيمات؛ ويتم تقدير عدد القتلى بنحو 8.000 قتيل خلال عام 2023، الأمر الذي تتصاعد أحداثه جدًّا منذ نهايات فبراير 2024.
3- تفكيك القوة الإقليمية لمكافحة الإرهاب “تحالف الساحل”
أدركت الدول الثلاث المتحالفة حديثًا عدم جدوى المقاربات الأمنية التقليدية المصحوبة برعاية القوى الغربية وخاصة فرنسا؛ فبالتزامن مع نظرة تلك الدول لإخفاق تحالف دول الساحل في تحقيق أهدافه وتغليب مصالح دوله الأطراف، وعجز قواته الإقليمية عن إعادة النظام وإرسائه في منطقة الساحل على غرار ما صوّرته نتائج عملية “سيرفال ” في مالي في يناير 2013 وعملية برخان؛ اتجهت الدول الثلاث لإعادة النظر في ترتيباتها ومقارباتها الأمنية، لتدشن معًا ميثاق “ليبتاكو-غورما” في سبتمبر 2023، وتبدأ في تفعيل أحد بنوده الرئيسية؛ من خلال تبنيها مقاربة إفريقية خالصة لمكافحة التنظيمات المسلحة والحركات الانفصالية، لاتنصاع فيها إلى القوى الغربية، وتعتمد على شركائها الجدد.
4- ملء الفراغ
المتابع للأحداث يتضح له أن توجهات الدول الثلاث تتمحور حول طرد القوات الفرنسية، وعدم الانصياع للقوى الغربية، وإنهاء شراكاتها العسكرية الأمنية مع دول الغرب، والتخلي عن خدماتها الأمنية والعسكرية، وهذا من شأنه حدوث فراغ أمني غير مسبوق؛ ومن ثم بداهة، يمكن القول: إن الإعلان عن تشكيل القوة العسكرية المشتركة يعتبر إحدى محاولات الدول الثلاث لملء الفراغ الناجم عن تلك التحولات والتغيرات الأمنية، وإحدى المقاربات الأمنية لتلك الدول لإعادة ترتيب التنسيقات العسكرية والدفاعية خارج عباءة القوات الفرنسية وولاية بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مالي “مينوسما “.
5- المواجهة الاستباقية لأعمال التمرد والحركات الانفصالية
تُحدّد المادة الخامسة من ميثاق تحالف دول الساحل حتمًا ولاية القوة العسكرية ومهامها كذراع عسكري، وتُخوّل لها مهمة المواجهة الاستباقية والفورية لأعمال التمرد والتحركات الانفصالية داخل تلك الدول ولا سيما داخل مالي؛ حيث تتزايد تهديدات الحركات الانفصالية وأعمال التمرد في الشمال المالي مِن قِبَل مجموعة الطوارق منذ 2011م، وتتحفز طموحاتها الانفصالية بين الحين والآخر بشكل يحول دون تحقيق المصالحة الوطنية وإرساء السلام.
ويتضح من ذلك جليًّا أن القوة العسكرية حال تشكيلها، سيتم تفعليها لمداهمة الحركات الانفصالية، ودعم الوحدة الترابية لتلك الدول؛ فقد أجازت المادة الخامسة المواجهة الاستباقية لكل أنواع التمرد المسلح أو الخروج العنيف على الدولة، مع تحبيذ الخيارات السلمية، واستخدام القوة عند الاقتضاء.
6- درء تهديدات الإيكواس
يمكن القول: إن تشكيل القوة المشتركة لدول تحالف دول الساحل الثلاثي يعتبر ردًّا على ما تثيره المنظمة الاقتصادية لغرب إفريقيا من تهديدات وضغوط على المجالس العسكرية في الدول الثلاث، وإعلان الإيكواس عن اعتزامها التدخل في شؤون الدول الثلاث، ووصلت حتى التهديد بالتدخل العسكري في النيجر في حال لم يتم إعادة الرئيس “محمد بازوم” إلى السلطة.
لذا، يمكن فهم قرار تشكيل القوة العسكرية في سياق استشعار تلك الدول احتمالية تعرُّضها لتدخل عسكري مِن قِبَل المنظمة الاقتصادية لغرب إفريقيا “الإيكواس”، الحليفة لفرنسا، مما جعلها تُحصِّن نفسها وتتجهز لأيّ اعتداء خارجي؛ إذ اعتبرت المادة السادسة من الميثاق، أن كل استهداف لسيادة وأمن أحد البلدان الثلاثة هو اعتداء على جميعها، بما يفرض اللجوء إلى كل الأساليب بما فيها الحرب للدفاع عن البلد الذي يتعرض للاعتداء.
انعكاسات محتملة:
لا شك أن قرار تشكيل القوة العسكرية المشتركة قد يُحْدِث جدلاً لدى التفاعلات البينية القائمة لدى دول منطقة الساحل الوسطى على المدى القريب والمتوسط والبعيد، ورغم عدم إعلان القرار عن حجم وشكل ومهام القوة العسكرية المشتركة، وتاريخ تأسيسها ومصادر تمويلها، إلا أنه يمكن القول: إن ذلك القرار قد يتجاوز الإعلان السياسي، وقد يتم تنفيذه بدرجة أو بأخرى، الأمر الذي يدعو إلى استشراف عدد من انعكاساته المحتملة على النحو التالي:
1- تغير خارطة الفاعلين:
لعل تزامن قرار تشكيل القوة العسكرية المشتركة مع خروج القوات الفرنسية، وإنهاء عملية حفظ السلام في مالي، والتقرب من شركاء عسكريين جدد، ولا سيما روسيا وفاجنر، يُنذر بتغيُّر خارطة الفاعليين والشركاء العسكريين ونفوذهم في المنطقة. إذ تشير الملامح إلى احتفاظ روسيا بشراكات عسكرية واتفاقات تعاون مشترك، قد تُخوِّل لها القيام بدور الراعي الرئيس لقوة العسكرية المشتركة والمورد الأساس لأسلحتها وذخيرتها وتدريباتهم ودعمها الفني واللوجستي. ولعل أحدث تلك الشراكات ما وقَّعته النيجر في يناير 2024 من روسيا بشأن إقامة تعاون عسكري مشترك، وتمركز 1000 من قوات فاغنر في مالي واستقبال بوركينا فاسو لعددٍ من العسكريين الروس، وقد تزيد تلك الشراكة باعتبارها محورًا جغرافيًّا لمشروع الفيلق الروسي المحتمل.
2- تعميق الخلافات الإقليمية مع الإيكواس:
يثير قرار تشكيل القوة العسكرية المشتركة حتمًا خلافات بينية مع الإيكواس، ويُعمّقها؛ فقرار تشكيل القوة العسكرية الإقليمية يحمل رسائل تهديدية للإيكواس، ويُثبت عدم جدوى مقارباتها وخياراتها الصلبة لثَنْي تلك الدول عن مساراتها، وكذلك إخفاق خياراتها الناعمة وإجراءات تخفيف العقوبات، كما حدث في نهايات فبراير 2024 تجاه النيجر ومالي وغينيا في استمالة تلك الدول. ومِن ثَم يُرجّح قرار تشكيل القوة العسكرية بدخول المنطقة في حالة من التنافس والعداء الإقليمي الحاد، تتغذى على حالة انعدام الثقة والتخوفات المتبادلة بينهم.
3- تأكل التكامل الإقليمي
يشير قرار تشكيل القوة العسكرية ودوافعها -جنبًا إلى جنب مع نص المادة 11 من الميثاق التأسيسي- تخوفات بشأن تبدد الجهود التكاملية، وإحداث تغيرات جذرية لبنية التجمعات الإقليمية القائمة في الغرب الإفريقي وخاصة الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا وتحالف الساحل؛ إذ تفتح المادة 11 الباب واسعًا أمام كل دولة تشترك مع البلدان الثلاث في نفس الحقائق الجغرافية والسياسية والاجتماعية الثقافية، وتقبل أهداف الحلف، ويُعدّ ذلك بالنظر إلى تحوُّلات الساحل والغرب الإفريقي إغراءً قويًّا، قد يَستقطب الدول الأعضاء في التكتلات الإقليمية الأخرى، وخاصةً التي تتشابه معهم في عدائها المشترك للقوى الغربية وفرنسا، أو تلك الدول التي تُعتبر على شفا انقلاب عسكري أو تأزم ديمقراطي، كما هو الحال في سيراليون وغيرها.
تأثير محدود:
ختامًا، يبدو أن تحالف دول الساحل يعتريه عدد من التحديات والصعوبات القائمة، والتي تشمل في طياتها: هشاشة الدول الثلاث، وعدم سيطرتها الكاملة على أراضيها، وضعف أجهزتها الأمنية وبنيتها المؤسسية والتمويلية، وتغليبها فقط اعتبارات الحل العسكري لمكافحة التنظيمات المسلحة والحركات الانفصالية دون أي خطط اقتصادية وإنمائية واجتماعية لاستئصال جذروها وتجفيف حواضنها.
وفي المدى القريب والمتوسط والبعيد، لا يمكن تصوُّر نجاح هذا المخطط في مواجهة التنظيمات المسلحة والحركات الانفصالية المنتشرة، بل وحتى لا يمكنها أن تحول دون تمددها أو انتشارها في أراضي جديدة؛ إذ ترجّح السياقات القائمة مزيدًا من التمدد وانتشار التنظيمات المسلحة، وتوجهها نحو تعميق موطئ قدمهم في الإقليم وتوسيع عملياتها وشبكاتها نحو دول أخرى في غرب إفريقيا.
ومن هنا يتضح أنه على الرغم من التنسيق المشترك بين تلك الجيوش منذ عدة أشهر؛ إلا أن الهجمات الإرهابية والمسلحة والمتمردة لا تزال قوية ومخيمة على سماء تلك الدول؛ ففي فبراير 2024، أعلنت جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” مسؤوليتها عن عدة هجمات ضد الجيش المالي كرد فعل على انتهاكات “فاغنر” الروسية ضد السكان وسيطرتها على مناجم الذهب، وأيضًا تسببت التنظيمات المسلحة في إعدام 170 شخصًا خلال هجماتها على قرى شمال بوركينا فاسو منذ 25 فبراير 2024.