لقد أضحى من المألوف في مدنٍ أوروبية كثيرة؛ مثل أثنيا ومدريد وروما، استخدام الشرطة للعنف القاسي غير المبرَّر ضد المهاجرين البؤساء. وتعكس مشاهد استخدام الغاز المسيل للدموع والهراوات وخراطيم المياه لإخلاء الميادين العامة من هؤلاء المشرَّدين الذين تقطعت بهم السُّبُل حالةً من العنف والبؤس الإنساني غير الخافية.
بلا شك يطرح هذا التعامل إشكالية أخلاقية في الوجدان الغربي؛ حيث أصبحت أشكال معينة من العنف مقبولة، ويتمّ غضّ الطرف عنها؛ في حين يُنظَر إلى أشكال أخرى عنيفة بعين الرهبة والفزع. هذه الثنائية في الأحكام الأخلاقية تجسِّد مفهوم المركزية الأوروبية ومبدأ الحياة للأصلح.
قد يعني صعود اليمين المتطرف في أوروبا وسيطرة الاتجاهات المتطرفة المعادية لحقوق الأقليات والمهاجرين؛ فشل الديمقراطيات الغربية في تجسيد قيم عصر التنوير، وتحوّلها إلى مجرد نُظُم شعبوية استبدادية. وكما يقول الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي: “إنها كارثة محدقة بالنظام الاجتماعي السائد؛ حيث تم تعديل البوصلة الأخلاقية في اتجاه آخر والمساس بقيمنا الإنسانية”.
ويُظهر خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في جامعة واجادوجو عام 2017م -على الرغم من محاولة تجمُّله- هذه الروح الاستعلائية الغربية. لقد اختزل مشاكل إفريقيا اليوم في كثرة إنجاب الأطفال باعتبارها مشكلة حضارية.
وهنا تبرز في المقابل رؤية توماس سانكارا الثورية؛ حيث يرى بأن أوروبا هي المدينة لإفريقيا. فالدماء الإفريقية الذكية هي التي أنقذت أوروبا من الديكتاتورية الهتلرية. بَيْدَ أنَّ العقلية الأوروبية المنحازة تذكر دائمًا خطة مارشال، ولا تتحدث عن خطة إفريقيا التي ساعدت في إنقاذ أوروبا وحرَّرت العالم بأسره من شر النازية.
منذ نشأة الفلسفة الغربية، وهي تُستخدم لتأكيد التفوق الغربي. لقد أعلن أرسطو بكل وضوح أن بعض الأجناس هي بطبيعتها أكثر عقلانية، وبالتالي هي متفوقة على الآخرين.
ومن الطبيعي أن الرجال المتعلمين يحق لهم ممارسة السلطة على النساء والعبيد. وهذا المفهوم للتفوق الطبيعي، في جوهره، هو المحرك الرئيسي للاستعمار، ويعطي الأوروبيين البيض ذريعة لتدمير ثقافات الآخرين والسيطرة عليها.
لقد تم تعريف الفلسفة في جميع الأقسام الأكاديمية من خلال المنهجيات الفلسفية التي تمارس في الغرب، بينما تم تدريس الأفكار الفلسفية من الثقافات الأخرى في أقسام دراسات المناطق؛ مثل شرق آسيا أو الدراسات الإفريقية. وبعبارة أخرى: تُعتَبر الفلسفة الغربية تقليديًّا الشكلَ الوحيد للفلسفة.
ليست الفلسفة وحدها؛ فكثير من النظريات والقِيَم الأساسية التي نستخدمها كمعايير للسلوك هي مستمَدة إلى حدّ كبير من كتابات علماء الغرب في القرن العشرين، ولا سيما في مجالات الاجتماع والاقتصاد والعلوم، كما أنها تعكس القيم والتقاليد الثقافية للغرب.
تفترض هذه النظريات أنَّ الإنسان يعمل في المقام الأول على أنه عقلاني بطبعه، وأنه يحقّق أقصى منفعة لنفسه (وهي أُسُس الفلسفة الفردية النفعية)، بَيْدَ أنَّ البشر لا يتصرفون في المقام الأول بهذه الطريقة في كل الأحوال، لا سيما في الثقافات غير الغربية. البشر هم كائنات اجتماعيَّة يتأثرون بالعواطف، وكذلك بانتماءاتهم العرقية وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والنسيج الاجتماعي والثقافي لمجتمعاتهم. وعليه يجب أن تعترف معايير التقويم الفعَّالة للسلوك الإنساني بمجموعة العوامل الأكثر تعقيدًا. وهنا يأتي دور الإطار المعرفي والثقافي الإفريقي -كما يمثله مفهوم “أوبونتو”- ليقدّم الكثير مما يمكن أن يتعلم منه الغرب.
أدرك علي مزروعي هذه الحقيقة في ردّه على مقولة “صدام الحضارات” التي روَّج لها صمويل هنتنجتون، وقد نشر هذا الرد في مقالة بعنوان “الإسلام والقيم الغربية”؛ نشرتها مجلة الشئون الدولية عام 1997م. يرى مزروعي أن المسافة الثقافية بين الغرب والإسلام هي أضيق بكثير عما يتصوره الغربيون أنفسهم. ففي الوقت الذي فشلت فيه المجتمعات الغربية في تحقيق مثاليتها الليبرالية نجد أن المجتمعات الإسلامية أكثر إنسانية وروحانية من الصور التي تم الترويج لها في الغرب.
لقد حمى الإسلام الديانات الأخرى وتجنّب الفاشية والعنصرية والإبادة الجماعية. ربما يكون مواطنو البلدان الإسلامية أكثر عرضة لتعسُّف حكوماتهم وأكثر تعرضًا للعنف السياسي، ولكن شوارعهم أكثر أمانًا وأسرهم أكثر استقرارًا. وهو ما يعني أن بمقدورنا جميعًا الاستفادة من القِيَم الإسلامية.
في عام 2006م، قدم نيلسون مانديلا تفسيرًا مبسَّطًا للأخلاق والقيم الروحية الإفريقية التي تُجسِّدها ثقافة “أوبونتو”. يقول ماديبا الحائز على جائزة نوبل للسلام: “قد يتوقف المسافر وعابر السبيل عند قرية طلبًا للراحة والطعام. عندئذ يُسرع أهل القرية بتقديم الطعام إليه والتسرية عنه. وهذا هو جانب واحد من “أوبونتو”، التي تتجسَّد في جوانب مختلفة ومعاني متعددة في حياة المجتمعات الإفريقية التقليدية.
“أوبونتو” لا تقف في وجه الطموحات الفردية من أجل الثراء المادِّيّ. ولكن يصبح السؤال في هذه الحالة هو: هل يكون هدف الفرد من ذلك الثراء تمكين المجتمع من حوله، والمساعدة في تطويره وتقدمه؟“
تعني كلمة “أوبونتو” في ثقافة الزولو أن الفرد يكتسب صفته الإنسانية من خلال الأفراد الآخرين. إنها تعبيرٌ فطري عن أن بني البشر مثل الجسد الواحد. إنها بمثابة عقد اجتماعي من الاحترام المتبادل والمسؤولية، والمساءلة التي يقوم بها أعضاء المجتمع تجاه بعضهم البعض.
ويمكن النظر إلى “أوبونتو” باعتبارها نظرية أخلاقية؛ حيث تعمل بحسبانها قيمة أخلاقية متماسكة في مواجهة الشدائد.
بهذا المعنى توجد ثقافة “أوبونتو” في مختلف أنحاء إفريقيا؛ حيث تعبِّر عن معاني الشفقة والعدالة والمعاملة بالمثل والكرامة والوئام والإنسانية من أجل بناء المجتمع والحفاظ عليه وتقويته.
“أوبونتو” تعبر عن الترابط بين أفراد المجتمع، والمسؤولية المشتركة تجاه بعضهم البعض. إنها نظرة عالمية تؤكد على القواسم المشتركة والتكافل بين أعضاء المجتمع. وقد حاول عددٌ من الزعماء الأفارقة تحويل هذه الفلسفة الجماعية إلى أيديولوجيات حاكمة تقود مسيرة التنمية في مجتمعاتهم بعد الاستقلال مثل “إنسانية” كينيث كاوندا في زامبيا، و”أوجاما” جوليوس نيريري في تنزانيا، و”هارامبي” جومو كينياتا في كينيا.
ولعل مفهوم “أوبونتو” الذي يركز على إعلاء قيم الجماعة، والحث على التضامن الجماعي؛ بما يؤكِّد على الروح الإنسانية العامة يتفق في جوهره مع الثقافة العربية الإسلامية. لقد كان من عادة العرب إكرام الضيف المسافر ولا يُسأل عن حاجته قبل ثلاث ليال. كما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يحثّ أصحابه على البذل والجود والإحسان؛ فقال: “مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلى مَنْ لا ظَهْرَ لَهُ، وَمَن كانَ لَهُ فَضْلٌ مِن زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَن لا زَادَ لَهُ”. ولعل ذلك هو ما دفع مفكِّرنا الكبير علي الأمين المزروعي إلى اعتبار الإسلام أحد المكونات الثلاثة التي تُشَكِّل الثقافة والهُوِيَّة الإفريقية.
تطرح “أوبونتو” تحديًا كبيرًا للعقلية الغربية، التي ترى قدسية الحقوق وسيادة القانون. بَيْدَ أنَّ “أوبونتو” مع ذلك لديها الكثير لتقدّمه للغرب. أولاً: إنها تبين لنا أن تجاوز القواعد لا يعبر دومًا عن شبهة الفساد. فحِرَفِيَّة النص وعدم مرونته قد تقف في وجه الالتزام الأخلاقي بالتوصل لحلّ عادل وسلمي للمشكلة.
ثانيًا: أحد خصائص أوبونتو هي أن يتم التوصل إلى قرارات مهمة من الناحية المثالية بتوافق الآراء. والديمقراطية في حد ذاتها تتطلب شيئًا من روح “أوبونتو”، وإلا فإن الأمر يتحول إلى مباراة صفرية بحيث يحصل الفائز على كل شيء، وهو ما يعني عدم الاعتداد برأي الأقلية.
كل ما نحتاجه اليوم هو “أوبونتو”؛ فالمجتمع يكتسب أهميته بسبب “أوبونتو”. تخيل أنك الأكثر ذكاءً، والأكثر مالاً، والأكثر مَنَعَة وقوة، وكأنما حِيزَتْ لك الدنيا بحذافيرها، وفجأة وجدت نفسك وحيدًا على هذا الكوكب، عندئذ فإن حياتك لن تساوي مثقال حبة من خردل.
وكما يقول العلامة ابن خلدون: “إن الانسان مدني بطبعه”؛ أي: بحاجة للعيش في مجتمع. وعليه فإن عولمة “أوبونتو” سوف تعكس بوضوح الإسهام الخاص لإفريقيا في الحضارة العالمية في ميدان العلاقات الإنسانية وذلك على المدى الطويل.
قد تكون القوى العظمى والدول الصناعية الكبرى في عالم الشمال المتقدِّم قد فعلت العجائب في مجالات التطور الصناعي والعسكري والتكنولوجي، ولكنَّ الهدية العظيمة المنتظرة من تقاليد إفريقيا الحضارية سوف تتمثل في إعطاء عالمنا المادِّيّ في مرحلة ما بعد الحداثة وجهًا أكثر إنسانية.