ترصد أدوار الجماعة الإنمائية للجنوب الإفريقي -(SADC)- ومهامها لحفظ السلام وإرسائه تطورات متلاحقة ومتباينة، تحتّم بين الحين والآخر عقد قمم استثنائية حولها، ولعل أحدثها ما استضافته زامبيا -بصفتها رئيسة الذراع الأمني للسادك في 23 مارس 2024م-؛ بغية إعادة القراءة الأمنية والسياسية للمستجدات الإقليمية وتحليلها.
وبالتدقيق في حيثيات القمة ومخرجاتها، يتبين أنها جاءت لدواعٍ تقييمية، وحملت بداخلها عدة رسائل، دارت فيما بينها حول تأكيد الالتزام بالمبادئ والمواثيق المنشئة للمجموعة، ومواصلة التدخل العسكري في الكونغو الديمقراطية، ودعم العمليات الدبلوماسية، والتضامن الإقليمي مع الكونغو، والإدانة الجماعية لرواندا، والإشادة بدعم مجلس السلم والأمن الإفريقي للمجموعة.
وبتقييم الأوضاع الأمنية، يُلحَظ أنه بعكس نجاحات السادك في موزمبيق، فإنها تواجه تحديات متنامية في الشرق الكونغولي، منها: انتشار الجماعات المسلحة، واستمرار الدعم الرواندي، والفراغ الأمني، والرفض الشعبي، والتحديات اللوجستية والتحديات التمويلية.
تقييم المستجدات وترتيب الأوراق:
في 23 مارس 2024م، استضافت زامبيا قمة استثنائية منعقدة مِن قِبَل الجماعة الإنمائية للجنوب الإفريقي برئاسة “هاكايندي هيشيليما” -رئيس جمهورية زامبيا والرئيس الحالي للترويكا الأمنية-، وبحضور من ترويكا جهاز السادك: (زامبيا، وتنزانيا، وناميبيا)، وترويكا السادك: (أنجولا وجمهورية زيمبابوي والكونغو الديمقراطية)، والدول المساهمة بقواتها: (جنوب إفريقيا وأنغولا وبوتسوانا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وليسوتو ومالاوي وناميبيا وتنزانيا وزامبيا وزيمبابوي)، ومشفوعة باعتبارات ودواعٍ تقييمية ورصدية وتحليلية للأوضاع الأمنية داخل الشمال الموزمبيقي والشرق الكونغولي، ومحاولات لبحث جدوى تدخلات السادك ومهامه العسكرية والأمنية داخلهما: (SAMIM وSAMIDRC) على التوالي.
سياقات متباينة:
يَلحظ المدقق أن مهام حفظ السلام التابعة للسادك تَرصد سياقات متباينة، ففي شمال موزمبيق، تتجهز مهمة SAMIM لاستكمال انسحابها من “وكابو ديلجادو” بشمال موزمبيق بحلول يوليو 2024م عقب تحقيقها نجاحات وتقدمات تجاه جماعات العنف والتنظيمات المسلحة. أما في الكونغو الديمقراطية، فتستعد مهمة SAMIDRC للانتشار، والذي بدأت مراحله الأولى في ديسمبر 2023م بالإعلان عن وصول أول وحدات عسكرية من مالاوي وتنزانيا ونحو 2900 جندي من جنوب إفريقيا في وسط حالة من فك الارتباطات والانسحابات المتتابعة مِن قِبَل بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في الكونغو الديمقراطية، وانسحاب القوة الإقليمية لشرق إفريقيا، واحتدام الصراع والقتال بين القوات المسلحة الكونغولية والتنظيمات المسلحة، وعلى رأسها حركة 23 مارس؛ مما جعل الكونغو الديمقراطية محور اهتمامات القمة.
الكونغو الديمقراطية أولاً:
استأثرت الكونغو الديمقراطية بسياقاتها الأمنية والسياسية بجُلّ اهتمام القمة الاستثنائية وأعضائها، ويبدو ذلك جليًّا في مضامين ومخرجات بيانات القمة الترحيبية والافتتاحية والختامية؛ حيث أقرَّ كلّ من السكرتير التنفيذي للسادك “إلياس مبيدي ماغوسي” ورئيس زامبيا “اكايندي هيشيليم” بأن السلام والاستقرار في الجزء الشرقي من جمهورية الكونغو الديمقراطية لا يزالان يمثلان تحديًا كبيرًا داخل المنطقة دون الإقليمية، ويتعين توحيد الجهود لاستعادة السلام، ويتوجب دعم الجهود السياسية والدبلوماسية لتحقيق سلام دائم في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية.
دفاع مشترك:
ويتضح أن تدخلات الجماعة الإنمائية داخل الشرق الكونغولي ليست وليدة اللحظة؛ فهي تعود بصورة واضحة إلى مشاركتها المتمثلة في لواء التدخل السريع، والذي يقاتل منذ 2012م ضد حركة 23 مارس، ولم يكن الانتشار عشوائيًا، بل جاء اتساقًا مع مبدأ الدفاع الجماعي عن النفس، والعمل الجماعي المنصوص عليه في ميثاق الدفاع المشترك (2003م) بموجب المادتين (3، 6) وأهدافه السبعة.
ومِن ثَم يمكن فهم مجريات نشر بعثة الجماعة الإنمائية للجنوب الإفريقي لدعم حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ 15 ديسمبر منذ العام الماضي بأنها جاءت استجابةً لطلب من القوات المسلحة الكونغولية؛ بهدف استعادة السلام والأمن، وخلق بيئة آمنة، وحماية المدنيين، وتحييد الجماعات المسلحة.
رسائل القمة ودلالاتها:
تنقل حيثيات القمة وتحضيراتها المسبقة رسائل عدة، يمكن تقديرها على النحو التالي:
1- تأكيد الالتزام بالمبادئ والمواثيق، عكست مخرجات القمة تأكيدات قطعية والتزامات صريحة بشأن تفعيل المبادئ والمواثيق التأسيسية والمنشئة للجماعة الإنمائية للجنوب الإفريقي، ولا سيما المادة 3 و6 من ميثاق الدفاع المشترك الصادر عام 2003م؛ حيث تُلزم الأولى الدول الأطراف بـ”حل أيّ صراع تكون طرفًا فيه بالوسائل السلمية؛ وذلك لتعزيز السلام والأمن والصراعات الإقليمية والدولية”. وتؤكد الثانية “أن أيّ هجوم مسلح يُرتكب ضد إحدى الدول الأطراف يُعتبر تهديدًا للسلم والأمن الإقليميين. وردًّا على مثل هذا الهجوم، سيتم اتخاذ إجراءات جماعية فورية”.
2- مواصلة التدخل ونشر بعثة “ SAMIDRC“، أبدت القمة تصميم السادك على مواصلة تقديم الدعم لجمهورية الكونغو الديمقراطية؛ لمواجهة العنف في شرق البلاد، وضمان السلام والاستقرار الإقليميين، ورصدت اتفاق الدول الأعضاء على التضامن الإقليمي؛ إذ تشير الأرقام الإحصائية إلى اعتزام السادك نشر 5.000 جندي في الشرق الكونغولي لمدة عام واحد.
3- دعم العمليات الدبلوماسية، لم ترتكز القمة كليًّا على الحل العسكري لاستعادة السلام والاستقرار، بل أبدت القمة التزامها الصريح بالعمليات السياسية والوساطات الدبلوماسية، وتحديدًا عمليتي “لواندا وعملية نيروبي”؛ وهما بمثابة عمليات تهدئة، تركّز على إنشاء مناخ من الثقة بين دول منطقة البحيرات الكبرى، وخلق الظروف المثالية للحوار السياسي والوقف الفوري للأعمال العدائية.
4- التضامن الإقليمي مع الكونغو الديمقراطية، اتسمت حيثيات القمة بالدعم الدبلوماسي والعسكري للكونغو الديمقراطية من أجل السلام والأمن والاستقرار؛ حيث أعرب رؤساء الدول والحكومات الحاضرون عن تضامنهم مع جمهورية الكونغو الديمقراطية، وأشادوا بالدعم الثابت الذي تُقدّمه مجموعة تنمية الجنوب الإفريقي للأمة الكونغولية.
5- الإدانة الجماعية لرواندا، يتضح أن نهج رواندا ومناوراتها ضد بعثة السادك في الكونغو الديمقراطية قد أثار استياء الدول الأعضاء في المجموعة؛ فقد أظهرت القمة إدانة جماعية رسمية وصريحة لادعاءات رواندا بشأن دعم حركة 23 مارس، وأطروحتها المبرّرة لتدخلها في الشرق الكونغولي.
5- إشادة بدعم مجلس السلم والأمن الإفريقي، أشادت القمة بموقف مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي، ودعمه للسادك، ومطالبته المفوضية بإتاحة معدات القوة الاحتياطية الإفريقية المخزنة في الكاميرون لـSAMIRDC، واعتبرت موقفه استجابةً إقليميةً لمجموعة SADC تكمل العمليات الدبلوماسية والسياسية الجارية الأخرى لدعم حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية.
تحديات وعرة:
رغم نجاحات بعثة السادك بدرجة أو بأخرى في تحقيق نوع من السلام والاستقرار في موزمبيق؛ إلا أن تأكيدات السادك على نحو ما صورته القمة بشأن إمكانية دعم الكونغو الديمقراطية وإرساء السلام بها، قد يصاحبه عدة تحديات متزايدة، يمكن رصدها على النحو التالي:
1- انتشار الجماعات المسلحة، يُشكّل الانتشار غير المسبوق للجماعات المسلحة والمتمردة في الشرق الكونغولي -بما يزيد عن 120 جماعة مسلحة متباينة الأهداف والرؤى- عبئًا لدى السادك، ويحول دون اكتمال مهمة إرساء السلام في الشرق الكونغولي، ويُشتّت تركيز عمليتها الموجهة في الأساس نحو حركة 23 مارس.
2- استمرار الدعم الرواندي، يُمثّل استمرار الدعم الرواندي لحركة 23 مارس أحد الأسباب الرئيسة لانعدام الأمن في الشرق الكونغولي، ويعني استمراره بقاء حركة 23 مارس نشطة في الكونغو الديمقراطية، وأنه إذا كانت قوة السادك غير مجهّزة بالمعدات الكافية؛ فإن ذلك يُنذر بفشلها في القيام بدورها.
3- الفراغ الأمني، ترشح قرارات فك الارتباط والانسحابات للقوات المعنية بحفظ السلام والداعمة للحكومة الكونغولية، وخاصةً انسحاب القوة الإقليمية لشرق إفريقيا، والانسحاب التدريجي لبعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار دخول الكونغو الديمقراطية حالة من الفراغ الأمني تجعل قوات السادك بمفردها في مواجهة التحديات الأمنية المتصاعدة في الشرق الكونغولي من نشاط الجماعات المسلحة، وخاصةً حركة 23 مارس، وتمدّد التنظيمات الإرهابية وضعف القوات النظامية، مما يؤثر على مهامها وأدائها المأمول.
4- الرفض الشعبي، تكشف مسألة إرسال بعثة السادك داخل وخارج الكونغو عن موجات متزايدة من الغضب والسخط الشعبي؛ ففي الكونغو الديمقراطية، تتكثف المطالبات والاحتجاجات الرافضة لنشر القوة الإقليمية الأجنبية لاستعادة السلام، وتعتبرها مقاربة غير فعّالة في حماية المدنيين. وتمتد تلك الموجات داخل البلدان المساهمة بقوات داخل بعثة السادك وخاصة جنوب إفريقيا؛ حيث ترفض المطالب الشعبية إرسال قوات إلى الكونغو الديمقراطية، ومن شأن ذلك أن يؤثر على دور السادك ومهمته ويُعجّل بانسحابه.
5- التحديات اللوجستية، تشير الخبرة التاريخية والتقييمية لعمل بعثات السلام في الكونغو الديمقراطية، أن السادك كغيرها من البعثات قد تُواجه تحديات لوجستية وفنية، وحتى الآن يبدو أن السادك لا تزال تُواجه مشكلات في إبقاء معداتها جاهزة للعمل، ولن تكون قادرة على توفير النقل والغطاء الجوي الذي تشتد الحاجة إليه للعمليات الهجومية. ويضطر الجنود لاستخدام وسائل النقل البري في جمهورية الكونغو الديمقراطية مما يؤثر سلبًا على استعدادها العملياتي.
6- التحديات التمويلية، تشير وقائع بعثات السادك السابقة ومحل الانتشار في الكونغو الديمقراطية حاليًّا إلى إمكانية اعتبار التمويل اللازم للقيام بمهامها أحد التحديات الرئيسة، ويحول دون القيام بأهدافها الموضوعة، كما ينبغي على غرار ما لحق ببعثة السادك في موزمبيق؛ حيث كان يُلاحظ وجود فجوات هائلة بين ما تحتاجه البعثة وما يتم تقديمه يؤثر سلبًا على قدرة البعثة على تحقيق أهدافها التشغيلية.
ختاماً، تشير السياقات أن الجماعة الإنمائية للجنوب الإفريقي ومهامها ليست غريبة على الكونغو الديمقراطية، بل تتسم بمزايا نسبية عن نظيراتها في شرق إفريقيا، ولا سيما ثقة الحكومة الكونغولية واستبعاد اتهامها بالانحياز وخبراتها الواسعة في بعثات حفظ السلام.
وقد يرجّح ذلك نجاح بعثات السادك في تحقيق تقدمات نسبية بدرجة أو بأخرى في الشرق الكونغولي؛ إلا أن دورها القاطع والحاسم لاستعادة السلام لا يزال يرتهن بمدى قدرة السادك والحكومة الكونغولية على مواجهة العقبات والتحديات، ومدى فعالية تلك القوات على مجابهة الجماعات المسلحة، وخاصةً حركة 23 مارس، وردع رواندا عن دعمها، بشكل أو بآخر.