بين الحركة والسكون والتشريد تتقلب الأقليات المسلمة حول العالم، في ظل حركة دؤوبة وتدافع من القوى الكبرى لإبقاء المسلمين أقليات مهمشة بعيدة عن المركز، ويظل التشريد دائماً هو العقاب على أي حركة من السكون، ليظل المسلمون دائماً محصورين داخل حلقة التأديب التي يديرها الغرب باقتدار منذ عقود، والتي تطردهم دائماً عن دوائر النفوذ والتمكين واتخاذ القرار. وما يحدث في إفريقيا الوسطى هو نمط متكرر رأيناه كثيراً، فما أن يقترب المسلمون من هوامش السلطة في أي بلد، حتى يرميه الجميع عن قوس واحدة، ويتعاضد الشرق والغرب من أجل تحويله من الحراك إلى السكون مرة ثانية، ثم إلى التشريد؛ كعقاب على تحوله من الحالة المفضلة له، وتجرئه للخروج عن الدائرة المرسومة.
وفي إفريقيا الوسطى، وبعد وصول أول رئيس مسلم إلى السلطة في البلاد، ومحاولته تصالح أقليته مع بقية مكونات المجتمع والبدء بتوافق مجتمعي في البلاد؛ بدأت الحرب العقابية بقيادة فرنسية لاستعادة السيطرة على ذلك البلد ذي المصادر الطبيعية والموقع الاستراتيجي في قلب إفريقيا، والذي يعد بمنزلة غرفة المراقبة المركزية لمنطقة الساحل التي تموج بنشاط إسلامي يبدأ بسواحل الصومال مروراً بدارفور وتشاد ومالي والنيجر ونيجيريا، وانتهاء بأقصى الغرب على سواحل الأطلسي.
ودائماً عندما يكون هناك مسلمون تغيب معايير حقوق الإنسان، ويتم التعامي عن الانقلاب على الديمقراطية، ويتم غض الطرف عن ملاحقة من يقومون بالتطهير العرقي والمذابح الإثنية، ويدخل مناصرو الحريات في حالة من الجمود السلبي حتى تفرغ القوى المضادة من التطهير العرقي والديني، حدث ذلك من قبلُ في مالي، ومن قبله في الصومال على يد القوات الكينية والإثيوبية، وتكرر التدافع في انفصال جنوب السودان بدعم غربي، ويحدث الآن في العاصمة الوسط إفريقية بانجي، في ظل حالة من تقاسم مناطق النفوذ بين القوى الدولية، فيما تظل أواسط إفريقيا منطقة نفوذ فرنسية، بتاريخ طويل من دعم الميليشيات الإفريقية المسيحية ضد المسلمين.
فمنذ نيل الدول الإفريقية استقلالها وفرنسا لا تزال نافذة في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، ففي العام 1962م في تشاد المجاورة لوسط إفريقيا شكلت مجموعة من الشماليين منظمة ثورية تسمى جبهة التحرير الوطنية، كان أغلب قادتها من المسلمين، واندلعت الحرب بينها وبين الحكومة في منتصف الستينيات، ما دعا الحكومة لأن تستنجد بفرنسا عسكرياً لتسيطر على مناطق اليورانيوم حتى اليوم، كما تم استدعاء القوات الفرنسية لنجدة أفارقة مالي بعدما تقدم الطوارق المسلمون باتجاه العاصمة باماكو، وباتت المطارات التي تسيطر عليها فرنسا في البلاد في خطر الوقوع في يد الطوارق وتبدل محددات الصراع، لتأتي فرنسا مرة ثانية وتدفع الطوارق إلى الشمال، وتعيد الكفة إلى صالح الأفارقة على حساب المسلمين، الذين عادوا إلى النزوح في الجبال والكهوف بعيداً عن مواطن الثروات، وشنت ضدهم مذابح دموية شائنة تحت سمع وبصر فرنسا والمجتمع الدولي.
واليوم تستمر فرنسا في سيطرتها على خاصرة القارة السمراء بعدة قواعد عسكرية فيها قوات للتدخل السريع في كل من جيبوتي (1900 جندي)، وبوركينافاسو (80 جندياً من القوات الخاصة)، والكاميرون (فيها قاعدة لوجيستية يعمل بها 15 شخصاً لتقديم الدعم العسكري واللوجيستي وتوجيه العمليات)، وجمهورية إفريقيا الوسطى (240 جندياً تم زيادتهم بصورة ملحوظة في الآونة الآخيرة)، والجابون (900 جندي)، وساحل العاج (450 جندياً)، والنيجر (240 شخصاً)، والسنغال (350 شخصاً)، وتشاد (950 شخصاً)، ومالي (1700 جندي)، بما يعني الإحاطة شبه الكاملة بمنطقة وسط إفريقيا، بدءاً بجيبوتي حتى داكار السنغالية[1].
ولفرنسا مصالح ممتدة في القارة السمراء؛ حيث إنها سوق لمنتجاتها ويعيش فيها ما يقرب من ربع مليون فرنسي يعملون في مشروعات متنوعة معظمها لصالح الحكومة الفرنسية، كما توفر إفريقيا اليورانيوم اللازم للمحطات الكهربائية النووية الفرنسية، كما أنها مصدر أساسي للنفط والمواد الخام والمعادن، كما تتداخل فرنسا في قلب المؤسسات الأمنية بمهام إعادة هيكلة وتدريب الجيوش، وعلى رأسها جمهورية إفريقيا الوسطى، كما تقوم كذلك برعاية عدد من المنظمات الاقتصادية والمالية في البلاد، وتعدها أيضاً مرتكزاً لمراقبة تطور الأوضاع في دارفور غربي السودان[2]، وتزعم أن تواجدها لإحلال الاستقرار في إقليم وسط إفريقيا بكامله، إلا أن الأحداث أثبتت أنها متواجدة لغرض أساسي وهو دعم مصالحها، وعدم وصول أي أطراف معادية أو غير موالية لها إلى سدة الحكم في قلب مناطق نفوذها الإفريقي، من أجل السيطرة على مصادر وموارد القارة.
وحتى الآن أسفر ذلك الصراع في إفريقيا الوسطى عن آلاف القتلى والجرحى والمشردين والمبتورين من المسلمين، وبما يقارب 650 ألف لاجئ داخلي، و300 ألف لاجئ في الدول المجاورة، فيما بدا أنه محاولة حثيثة لتفريغ المسلمين من مناطق الثروات الطبيعية، حيث تعد مناطق المسلمين من أغنى مناطق القارة ثراء بالألماس، الذي يمثل 60 ٪ من الدخل القومي للبلاد، كما تحتوي أيضاً على الذهب وبعض المعادن الأخرى.
وتتقاطع المصالح الأمريكية والفرنسية في القارة السمراء، حيث يعمل البلدان على عدة أهداف، على رأسها: تنسيق مهام مكافحة «الإرهاب» ومتابعة نشاط الجماعات الإسلامية في كل دول الساحل الإفريقي، والسيطرة على خطوط الملاحة البحرية في منطقة القرن الإفريقي وخليج غينيا غرباً حيث تمر خطوط الملاحة التجارية العالمية، وكذلك السيطرة على مناطق الثروات والنفط والمعادن. ولدى الولايات المتحدة وفرنسا قاعدة لكل منهما في جيبوتي، ووحدة مشتركة لمكافحة الإرهاب، كما تتمركز القيادة الإفريقية للجيش الأمريكي (أفريكوم) في معسكر ليمونييه منذ 2007، وتم إدارة عملية انفصال جنوب السودان من كل من جيبوتي وإفريقيا الوسطى حيث الوجود الفرنسي هناك، وسمح بدخول المنصّرين على نطاق واسع من الحدود الطويلة المشتركة بين البلدين حتى انفصل الجنوب، والآن يتم شرذمة الوجود الإسلامي في شمال البلاد وتفريقهم على الدول المجاورة؛ لتغيير البيئة الديمغرافية ليس لإفريقيا الوسطى وحدها، ولكن لكل دول منطقة الساحل.
لقد ظلت إستراتيجية الدول الكبرى هي السيطرة على القلب الصناعي والاقتصادي والتجاري والتقني والعسكري للعالم، في حين تظل في الدائرة الخارجية دول شبه هامشية متوسطة القوة ذات نفوذ إقليمي، وترتبط مصالحها بمصالح الدول الكبرى، وتلك الدول المتوسطة تقوم مجبرة أو طواعية بتنفيذ أجندات القوى الكبرى من أجل أن تظل مصائرها معلقة بأهدابها المسيطرة على المركز الصناعي الاقتصادي للعالم، في حين تبرز الدول الضعيفة على أقصى الهامش كمصدر للمواد الخام الأساسية للدول الكبرى، وهنا تظل استراتيجية الدول الكبرى هي الإضعاف الدائم لها وإبقاؤها داخل نطاق السيطرة.
لذلك كانت استراتيجية إفراغ المسلمين من مناطق صنع القرار في تلك الدول إستراتيجية ممنهجة ومنظمة، وتكرر ذلك النمط في كل من مالي والنيجر ونيجيريا والمناطق الأخرى حول القارة، كما شاركت بعض أنظمة الشمال الإفريقي في حصار المسلمين بحجة ممارستهم الإرهاب، في حين أن الصراع على الموارد يقع في القلب من ذلك النمط الاستعماري المتكرر، ويتم استخدام بعض التنظيمات المسلحة أو بعض الحركات التي تطالب باستقلالها، مثل حركة أزواد في مالي، من أجل تعزيز التواجد الغربي في منطقة الساحل واستخدامها كفزاعة ومبرر لديمومة الوجود العسكري الغربي في مناطق التماس الإستراتيجية ومعابر الطاقة.
ومن ذلك المنطلق شنت الميليشيات المسيحية في الأجزاء الغربية من جمهورية إفريقيا الوسطى بدعم غربي، عمليات تطهير عرقي واسعة ضد المسلمين المدنيين، (بعد قيام ميليشيات السيليكا التي فيها مسلمون بعمليات نهب ولكن على نطاق محدود)، مع التأخر المتعمد لوصول قوات حفظ السلام الدولية والإفريقية، رغم انتشار التقارير التي تدين الميليشيات المسيحية «أنتي بالاكا»، واكتفت المنظمات الحقوقية بإدانة المجتمع الدولي وبطء تحركه، والذي وصفته بـ «الفاتر»، لتلك الأزمة التي تهدد وجود الأقلية المسلمة بالبلاد[3]، وقالت منظمة العفو الدولية إن تلكؤ قوات حفظ السلام الدولية أدى إلى مذابح دموية وفشلت في وقف العنف في البلاد.
وهذا التباطؤ المريب أدى إلى قيام الميليشيات المسيحية بملء الفراغ الناشئ عن انسحاب المسلمين من مناطق سكنهم، وجمعت منظمة العفو المئات من شهادات مروعة للمسلمين الذين تعرضوا للذبح ولشهود عيان هربوا إلى شمال غرب البلاد في مدن بوالي وبويالي وبوسيمبيلي وبارو، ولم تنتقل قوات حفظ السلام الدولية إلى تلك المناطق، ما ترك المدنيين المسلمين عرضة للتصفية العرقية حتى في مناطق اختبائهم ونزوحهم، وكانت من أبشعها تلك المذبحة التي تعرض لها المسلمون في 18 يناير الماضي وأسفرت عن مقتل مائة مسلم فيهم نساء وأطفال وشيوخ، وبينهم إمام في منتصف السبعينيات من العمر.
ويروي طفل اسمه عبد الرحمن لمنظمة العفو الدولية كيف أنه في 14 يناير أوقفت الميليشيات المسيحية الحافلة التي تقله مع مسلمين آخرين، حيث قامت بذبح الجميع بما فيهم 6 من أعضاء أسرته: ثلاثة نساء وثلاثة أطفال، فيهم طفل رضيع. وتشير التقارير الأممية إلى أن القوات الدولية سمحت للميليشيات المسيحية بملء الفراغ الناشئ عن انسحاب المسلمين، وتركتهم يعيثون في الأرض الفساد ويمارسون التطهير العرقي ضد المسلمين.
إن هذا النمط المتكرر من القوى الكبرى في التعامي عن المذابح ضد المسلمين في كل أنحاء العالم وفي القارة السمراء على وجه الخصوص؛ ينبع بالأساس من الضعف الموروث عن الدول الإسلامية التي انتقلت إلى الهوامش، وفشلت في تكوين رادع لمن يستهدف الأقليات المسلمة أو حتى توفير مظلة حماية جامعة لهم عن طريق مؤسساتهم الإقليمية والدولية، وأصبح الوضع كما وصفه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «ينزع المهابة من قلوب عدوكم»[4]؛ فالآن بات المسلمون أرخص دماء على وجه الأرض، بل إن الأحداث الجارية في العالم الإسلامي تنبئ بانهيار منظومات العمل الجماعي وخفوت فاعليتها، بدءاً بمنظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية، نزولاً حتى مجلس التعاون الخليجي، ما يشير إلى أننا بتنا في حاجة ماسة إلى عكس اتجاه ذلك المنحنى الذي يؤشر إلى مستقبل لا تحمد عقباه.
الهوامش والإحالات:
[1] وزارة الدفاع الفرنسية،
http://www.defense.gouv.fr/ema/forces-prepositionnees.
[2] The French Military in Africa, Andrew Hansen, Council on Foreign Relations, on: http://www.cfr.org/france/french-military-africa/p12578.
[3] تقرير لمنظمة العفو الدولية في 12 فبراير 2014، على الرابط التالي:
http://www.amnesty.org/en/news/central-african-republic-ethnic-cleansing-sectarian-violence-2014-02-12.
[4] جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد بسند حسن عن ثوبان رضي الله عنه.
المصدر : مجلة البيان ، العدد 322