شهدت السنغال تحوُّلًا سياسيًّا، بعد انتخابات رئاسية، أُجريت في ظروف استثنائية، كادت أن تُشكِّل نقطةً سوداء في بلد أُطلق عليه “مهد الديمقراطية”؛ نتيجة تجربة سياسية نادرة، حظي بها في تاريخه السياسي.
وعلى الرغم من المخاض العسير للعملية الانتخابية التي أفرزتْ فوزًا كاسحًا لمرشَّح مشروع “بَاسْتِيف”([1]) “بَشِيرُو جُومَاي جَخَار فَاي”؛ إلا أن النتيجة كانت انعكاسًا طبيعيًّا لموقف الشعب، ومتوقعةً أيضًا لمن كان يراقب عن كثب تطورات المشهد السياسي.
ولقد تعددت التحليلات والمقاربات المفسِّرة لهذا التحوّل الذي حدث في سياق عصيب. وكلّ المقاربات حاولت تفسير الظاهرة من خلال دراستها من زاوية محددة. وبالفعل، لقد نجحت العديد من الكتابات في تسليط الضوء على الجوانب المتشعِّبة لواقع الانتخابات ومآلاتها؛ إلا أن إبراز حجم الظاهرة، واستيعابها بشكل أعمق، يقتضي دراسة تُركِّز على سياق الظاهرة وتسلسلاتها، وفحواها، وعنصر التحدي الموجود في خباياها. وهذا ما نحاول الكشف عنه في هذا المقال.
السياق والتسلسل:
على غرار العديد من الدول الإفريقية، التي استقلتْ، وشرعتْ فورًا في البحث عن مقوّمات بناء دولة حديثة لائقة بشعوبها؛ انطلقت مسيرة بناء الدولة السنغالية عقب الاستقلال مباشرةً. وبالفعل، كانت ظروف المرحلة قاسيةً، ومطلب بناء الدولة عاجلًا، والنخب غير مستعدة علميًّا وتكوينيًّا بما فيه الكفاية. لكن على الأقل نجحت النخبة السنغالية؛ بفضل الخبرة الزهيدة عندها آنذاك، في إرساء الحدِّ الأدنى لدعائم دولة حديثة؛ مع ما شابها من بعض الخلل، لأسباب داخلية وخارجية.
تميزت دولة السنغال خلال مرحلة البناء أو التشكُّل، بإجماع نُخْبتها السياسية على قواسم مشتركة، يرجع إليه الفضل الكبير في قدرة الدولة على الصُّمود؛ دون تلاشي مؤسساتها ومكتسباتها الديمقراطية منذ الاستقلال.
وفي وقت وجدت بعض النخب الإفريقية -ضمن سياقات مختلفة- نفسها عاجزةً عن التجاوب مع تحدّيات هذه المرحلة الخطيرة، وانفجرت بسبب ذلك أزماتٌ متعددةٌ، أنطقت صوت بندقيات في بعض الحالات، مع فشل عموم الدول الإفريقية في بناء هوية وطنية حاضنة، تزيل الفروقات الدينية والعرقية والجهوية؛ نجد أن النخبة السياسية في السنغال جنَّبتْ نفسها الوقوع في هذه المفارقة، ووجدت لنفسها معادلةً خاصةً، أمكنتها من تجاوز معضلة الانقسام الاجتماعي. فاستطاعت بناء هوية وطنية مشتركة، جعلت أفراد الشعب واعيةً بشكْل كليّ بمفهوم الوطن، ومقتضى العيش المشترك، وأولوية المصلحة العليا، وحدود العملية السياسية؛ وإن اختلف الأفراد أو الجماعات أحيانًا في بعض الجزئيات. ولعلَّ هذا هو السرُّ في قدرة الدولة على تذليل الأزمات السياسية التي عرفتها في تاريخها: كأزمة “سِنْغُور”، و”مَمَدُو جَاه” عام ١٩٦٢م، وأزمة اغتيال القاضي الدستوري “بَابَكَر سِي” عام ١٩٩٣م، وصولًا إلى أزمة المحاباة ومحاولة توريث الحكم في عهد الرئيس الأسبق “عبد الله وَاد” عام ٢٠١٢م.
ومع مرور الزمن، تبيَّن أن النخب التي ناضلتْ من أجل الاستقلال، تراخت كثيرًا عن إكمال مهمّتها، واستسلمتْ للواقع طيلة العقود التي استولتْ فيها على مقاليد الحكم. فالشُّعوب التي انضوت مع هذه النخب في نضالها من أجل الاستقلال، كانت تتطلّع إلى النهضة والتنمية الشاملة، وإلى رفاهية العيش؛ بفضل الثروات والإمكانات الهائلة لدولها.
وعند إثارة أسئلة النهضة الشاملة للدول الإفريقية؛ يتبيَّن أن مختلف تجارب الحكم والمشاريع السياسية، لم تُحقق نموذجًا نهضويًّا ناجحًا لتقدم الدول الإفريقية بشكل عام. وفي السنغال خاصةً، رغم التمتُّع بالاستقرار السياسي، بقيت النهضة سؤالًا محوريًّا بدون جواب، ومعضلةً أساسيةً بدون تسوية. وفي كلّ يوم تتضح الصورة أكثر لدى عامة المواطنين، على عجز النخب الحاكمة عن بلورة حلول لمعاناتها، بالإضافة إلى تشكُّل وعي راسخ لدى معظم الشعب، يُفيد تورُّطًا مباشرًا أو غير مباشر للنخبة السياسية، في أسباب التدهور التنموي في المجتمع.
لم يكن الاستقرار السياسي، ووجود المؤسسات السياسية، وقبول الآلية الديمقراطية التمثيلية فقط كافيًا لإحداث تحوُّل سياسيّ، يتبعه تغييرٌ جذريٌّ وإيجابيٌّ في أساسيات حياة المواطن السنغالي. ويرجع السبب في ذلك إلى طبيعة “النظام”([2]) السياسي الذي تميّز بوجود أقلية سياسية متنفِّذة؛ أوجدتْ لنفسها امتيازات خاصة، جعلتها تتحكَّم في تفاصيل النظام، وتراهن على كلِّ شيء لبقائها واستمرارها. وهي لا تستبعد خيانة المبادئ التي تروّج لها إن اقتضت الضرورة، للحفاظ على مصلحتها. عملت هذه الأقلية على إقصاءات متعاقبة لبعض الوجوه التي كانت تمتلك مشاريع سياسية موازية لها، أمثال “مَمَدُ جَاه” و”شِيخ أَنْت جُوب”. ومع ذلك، كانت هذه الأقلية حريصةً على الحفاظ على هامش من الديمقراطية التمثيلية، لحفظ ماء وجهها.
تمثلت الجهود الاقصائية الممنهجة الأخيرة لهذا النظام؛ فيما شهدناه في عهد الرئيس السابق “مَاكِي صَال”. وتميزت هذه المحاولة عن سابقاتها، في كونها تجاوزت حدود العُرف السياسي الذي عهدته السنغال، وأهملت القواسم المشتركة التي كانت موضوع إجماع لدى النخبة السياسية، كما استباحت كلّ الخطوط الحمراء، كانت آخرها جرأة الإقدام على تأجيل انتخابات رئاسيّة لأول مرة في تاريخ البلد؛ رغمًا عن مقتضيات أحكام الدستور. هذه الممارسة القاسية كانت إشارةً واضحةً إلى درجة الاضطراب النفسي والهيكلي لمكوّنات النظام، وشعور أفراده بتهديد مباشر، يُنذر ببداية زواله. كما تفسّر من جانب آخر، سبب المعاملة القاسية والعنيفة التي انتهجها أفراد النظام ضدّ المناوئين له.
إذا كان السياق الداخلي محفوفًا بهذه التعقيدات، فالوضع الإقليمي كان في حال ميؤوس منه؛ نتيجة ثورة الانقلابات العسكرية المتكررة، التي بدأت بعض التيارات المدنية تستسيغها؛ بدعوى أنها طريقة التغيير الأنسب للأنظمة القائمة، وذلك بعد فشل تجارب العمليات السياسية التي قاومت حكم الأقليات المتنفذة في دول المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، ألقت أزمة الانقلابات العسكرية بظلالها على الوضع السياسي للمنطقة، فأدت إلى انقسام حادّ داخل دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إِيكُوَاس”. ففي الوقت الذي راهنت تياراتٌ مهمةٌ وناشئةٌ، وفي طليعتها نخب المعارضة السنغالية، وتحديدًا حزب “بَاسْتِيف” على العمل المدني، لإحداث تغيير سياسيّ جذريّ وراديكاليّ؛ اقتنعت تياراتٌ أخرى –بما فيها نخبٌ مدنيةٌ– بعدم وجود غضاضة في إعطاء الولاء للعسكر في العملية السياسية، للوصول إلى التغيير السياسي المطلوب.
يُضَاف إلى كل ما ذكرنا، تهور الحالة الأمنية في عدد من دول المنطقة؛ نتيجة الفشل السياسي المتوطن في بعض الدول المحورية، الأمر الذي حال دون بلورة صفقات سياسية بين المكونَيْن المدنيّ والعسكريّ، تُفضي إلى استقرار سياسيّ مستدام. وفي هذا السياق المعقَّد بالتحديد أُجريت الانتخابات الرئاسية، وقد تبدو حدثًا عفويًّا؛ ولكن لكونها أجابت عن أسئلة محورية، لسياق وطنيّ وإقليميّ مُفْعَم بتحديات قديمة، وتغيُّرات حديثة؛ سرعان ما تحوَّلت إلى حدث استثنائيّ، وتحوُّل سياسيّ عميق، قد يصلح أن يكون مصدر استلهام لنخب الدول الأخرى في نضالها السياسي.
ثورة الموظفين العموميين:
سبقت الإشارة إلى مشاريع سياسية فردية وجماعية، برزت من الوهلة الأولى بعد الاستقلال؛ لتقديم رؤية سياسية شاملة للحكم على السنغال كدولة حديثة. ولكن بطريقة أو بأخرى، تم وأدها عن بكرة أبيها، أو مضايقتها بشكل منهجيّ، فلم تستطع الصمود فاندثرت، أو فقدت أصالتها وانصهرت في أروقة النظام.
وفي المقابل، كانت رؤى النهضة والتنمية منحصرةً على الرؤية الضيِّقة لزعيم الحزب؛ الذي غالبًا ما يكون أسيرًا لحسابات خارجية. ولم تكتفِ المشاريع التنموية لدى هذه الأقلية المتنفّذة بالقصور فقط عن تلبية حاجات المواطن، والعجز عن سدّ الثغرات الاجتماعية؛ بل صارت آليات استغلال اقتصادية لفرنسا التي تتحكَّم عن بُعْد عن ديناميكيات الاقتصاد الوطني السنغالي.
وعلى مرّ عقود، شكَّل نموذج الدولة المتبناة مِن قِبَل النُّخَب عبئًا ثقيلًا للمجتمع السنغالي، ولم يُورّث له إلا التخلّف. ومع انكشاف عورات النظام يومًا بعد يوم، كانت معادلات التفاعل مع النظام صعبةً؛ حيث كانت خيارات النخب الهادفة إلى التغيير بين اللجوء إلى عملية صفرية مع النظام، أو الشروع إلى نضال نخبويّ مُحكم يمكن توجيهه والسيطرة بتفاصيله. ولا يتحقق الخيار الأول إلا بسلوك راديكاليّ عنيف، ينتهي إلى إسقاط النظام، كأسلوب الثورات الشعبية الجماهيرية، ويكون ثمنه في الغالب باهظًا، بالإضافة إلى عدم اليقين بنتائجه. بينما الخيار الثاني يعتبر أقل تكلفةً، ولكن يحتاج إلى صبر ويقظة في آن واحد، بالإضافة إلى ضرورة تقديم حجج دامغة، تغرس الثقة في نفوس الجماهير التي هي المعول الأخير لنجاح النضال النخبوي.
خلافًا لنماذج التغيير والنضال الذي عهده النظام، تفاجأت الأقلية المتنفذة على واقع جديد، حين انخرطت علنًا ثُلةٌ من مُوظِّفي الدرجة الثانية من الوظيفة العمومية في السياسة. ولقد كان هذا التوجُّه من محظورات الدولة العميقة من الناحية القانونية؛ بدعوى ضرورة الالتزام بمبدأ الحفاظ على أسرار الدولة، الذي تجبر عليها القوانين الأخلاقية للمؤسسات الحكومية العامة. كان هذا القانون بمثابة عقبة تم وضعها بعناية؛ للقضاء على كلِّ مبادرة سياسية تناوئ السلطة من الموظفين العموميين، كما عزز فكرة المحاصصة على نفوذ الدولة بين أفراد المؤسسة الحاكمة. كانت المهمة الأولى لموظِّفي الدرجة الثانية للنجاح في كفاحهم السياسي مع النظام، هي كسر حاجز الخوف لدى أكبر عدد ممكن من الموظّفين العموميين الآخرين لمواجهة النظام بأكمله.
وكان من سوء حظّ النظام، أن تشكَّلت النواة الأولى لثورة الموظفين في إحدى أكثر مؤسسات الدولة حساسيةً. ففي المديرية العامة للضرائب -وهي إدارةٌ تابعةٌ لوزارة المالية والميزانية- برز المفتّش الرئيسي للضرائب “عثمان سُونْكُو” يبحث عن منبر فعَّال يعبّر فيه عن أفكاره السياسية، بعد أن اطّلع بحكم موقعه الإستراتيجي، على حجم الانحرافات السياسية والفضائح المالية المتفشِّية في عموم مؤسسات الدولة.
لم تكن نقابة العمال التي أسَّسها “سُونْكُو” داخل المديرية العامة للضرائب كافيةً لترجمة أفكاره السياسية. كما لم يكتفِ فقط باستخدام وسائل الإعلام المتاحة، لإنذار الجمهور عن حجم الاختلاسات المالية من كبار موظفي الدولة، والتهرب الضريبي للشركات الخاصة؛ بل أسس حزبًا سياسيًّا، استقطب فيه أكبر عدد ممكن من أقرانه الموظفين، لتُشكِّل ذلك الشرارة الأولى لانطلاق ثورته على النظام. وفي فترة وجيزة حظي المشروع بحاضنة شعبية واسعة، تفاعلت معه الجماهير بسرعة تعدُّ سابقةً([3]) في التاريخ السياسي السنغالي. وهي ما عبّرت عنها نتائج الانتخابات الرئاسية، التي عكست حسم السباق الرئاسي مِن قِبَل الشعب في الجولة الأولى، بفوز مرشح مشروع “بَاسْتِيف” بأغلبية مطلقة مع وجود تسعة عشر مرشَّحًا دخلوا السباق بتحالفات أحزاب وحركات سياسية مختلفة.
ثنائية القائد “سُونْكُو” والمهنْدس “جُومَاي”:
يطلق “الوُلُوف” كلمة “بَاسْتِيف” ويقصد بها قوة العزيمة. وثقافيًّا تحمل الكلمة معنًى عميقًا، يُعبِّر عن ميزة وفضيلة، تفرض على صاحبها استحضار قيمة نبيلة يسعى للحصول عليها، وتقتضي منه التضحية، وبذل المجهود بكل إصرار لتحقيق غايته. اتخذها “سُونْكُو” وزملاؤه شعارًا للمشروع؛ ليُنبئ في الحقيقة عن جسامة المسؤولية الفردية والجماعية لأصحاب القضية. وهي الحالة التي سرعان ما تحوَّلت إلى شعور عام لدى الجماهير المتعاطفة مع المشروع.
ولقد كان السرّ في سرعة تبنّي الجماهير للمشروع؛ كونه يحظى بقائد اجتمعت فيه خصائص القيادة المؤثرة. لقد اعتمد “سُونْكُو” نمطًا جديدًا للممارسة السياسية، فتبنَّى خطابًا شعبويًّا، تجرَّد عن الطبقية والنخبوية، ويُعبِّر عن مشاعر الجمهور تجاه المؤسسة الحاكمة، خاليًا عن الأيديولوجيات التقليدية، متضمنًا مصالح ورغبات الناس العاديين.([4]) فهو لم يُقدّم للجمهور حزبًا سياسيًّا تقليدًا، بل عرض لهم مشروعًا استطاع من خلاله مع شركائه، استمالة عطف الجماهير للتضحية من أجله.
وفي المقابل، اشتدت الحاجة إلى دقة تنظيم حركة الجماهير، لتركيزها نحو الهدف، لقد كان “جُومَاي” منذ انطلاقة المشروع، المسؤول عن الهندسة الإدارية للمشروع على المستوى الوطني المتمثل في التنظيمات الهيكلية لفروع الحزب، وعلى المستوى الخارجي المتمثل في تنسيق الهياكل الإدارية للمهاجرين في الشتات. ولقد شكلت ثنائية سُونْكُو – جُومَاي تكاملًا طبيعيًّا للمشروع، تولدت منها ثقةٌ متبادلةٌ بين الطرفين؛ لأن علاقتهما بدأت كروابط صداقة صميمة، قبل أن تمتد إلى البعد السياسي. ولذلك كان من السهل إقناع الجماهير الناخبة بقبول معادلة “جُومَاي” هو “سُونْكُو” كشعار رئيسي في الحملات الانتخابية.
الفهم الصحيح لسياق وتسلسل مشروع “بَاسْتِيف”، ومساهمة موظفي الدولة العموميين فيه، والدور المحوري لقائده ومهندسه يزيل مغالطات كثيرة، وقع فيها بعض الباحثين والدارسين. لقد حاول كثيرون ربط التحول السياسي السنغالي بالإسلام السياسي، وبصراع الأيديولوجيات العلمانية والإسلامية، وهذا يتنافى مع الحقيقة؛ حيث لم تكن أجندات الإسلام السياسي، وجدلية علمانية الدولة أو إسلاميتها حاضرةً في مُحاججَات الفاعلين في عملية التغيير السياسي، سواء على المستوى النخبوي أو الجماهيري. فالتحول السياسي الذي حصل عبارة عن ثورة موظفين، دعمه الشعب بمختلف شرائحه، عندما فقدوا الأمل من نخبة سياسية فاسدة، أذاقته مرارة الحياة طيلة عقود.
فحوى التّغيير:
شكَّل فوز “بَشيرُو جُومَاي فَاي” في السباق الرئاسي، نهاية حقبة سياسية، استحوذ عليها الجيل السياسي الأول للسنغال على حساب الجيل الثاني. ولم يكن حكم السلطة الأخيرة إلا تكرارًا للتاريخ، وامتدادًا لتلك الهيمنة السياسية. هذا ما يُفسّر فحوى الخطاب السياسي الذي تبناه “بَاسْتِيف” في مشروعه؛ حيث عزى التغيير الذي يسعى إليه إلى النظام بشكل مباشر، وليس مقصورًا على البرامج السياسية. فظلت مطالب الحزب مطالب ثورية، استهدف فيها الحزب النظام بشكل شامل، مع التقيُّد بالآلية الديمقراطية؛ حتى وصل إلى السلطة.
وتتجاوز فكرة النظام في مفهوم الحزب شخصًا بعينه لتشمل النمط السياسي، أو طريقة الحكم التي انتهجتها مؤسسة الحكم لخدمة الأقلية المتنفذة. ومع ذلك وضع الحزب في الاعتبار مقتضيات التغيير الاجتماعي، التي تستلزم تصورًا متكاملًا للمشكلات الرئيسية للمجتمع المعنيِّ. ومع وضع اللبنات الأولى لتنفيذ مشروع الحزب مباشرةً بعد الوصول إلى السلطة، يتضح أكثر فحوى التغيير الذي يحتويه الحزب. وشملت أولويات هذا المحتوى مجالي السياسة الداخلية والخارجية.
ففي السياسة الداخلية: حدد الرئيس “جُومَاي” في أول خطاب موجَّه إلى الشعب السنغالي([5]) الأولويات الخمس التي ستكون موضع اهتمام حكومته الجديدة. تمثلت هذه الأولويات في توظيف الشباب، الإصلاحات الاقتصادية، خفض تكاليف المعيشة، الإصلاح المؤسسي، وإنشاء وتفعيل آليات الحكم الرشيد. وللتركيز في هذه الأولويات استقال من كل المناصب التي كان يشغلها في الحزب، وقام بتعيين “سُونْكُو” رئيسًا للوزراء، كما وفَّى بتعهداته فاكتفى بـ٢٥ وزيرًا فقط في التشكيلة الحكومية([6])، اعتمد رئيس الوزراء في تعيينهم معيارَي الخبرة والكفاءة، ما أدى إلى إبعاد قامات سياسية كانوا في تحالفه. واشترط مع الوزراء الاستقالة من كلّ المناصب الانتخابية الأخرى -خلافًا لما كان شائعًا-، وتبنَّى عقيدة التضحية في العمل والتخلي عن فلسفة المحاصصة. وفي أول اجتماع للمجلس الوزاري أعطى الرئيس أوامر لمجلس الوزراء لإعداد مشروعي قانون تمهيدًا لإلغاء مؤسستيْ “المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي” و”المجلس الأعلى للتجمعات المحلية”؛ باعتبارها مؤسسات عديمة الجدوى، وتكلف الدولة ١٨ مليار فرنك إفريقي سنويًّا.
وفي ملف السياسة الخارجية: لا شك أن العلاقات الإقليمية، والعلاقة مع فرنسا، كانت ولا زالت في صلب اهتمامات المشروع. فمن الناحية الإقليمية يتقاطع المشروع النضالي لـ”بَاسْتِيف” مع العديد من التوجهات الشعبية لبعض الدول الإفريقية. كما لا يُخفي “سُونْكُو” دعمه المبدئي للمطالب الشعبية، سواء في غينيا، مالي، النيجر، وبوركنا فاسو؛ مع رفض الانقلاب العسكري أو استخدام القوة وسيلةً للوصول إلى الحكم.([7]) وهذه المواقف تأتي من منطلق إيمان قادة “بَاسْتِيف” بالبانافريقانية، كما صرح به “سُونْكُو” في أوّل خطاب له بعد الخروج من السجن([8])؛ إلا أن مفهوم البانافريقانية الذي يؤمن به “بَاسْتِيف” ليس بالمفهوم الطوباوي الرائج عند العامة، أو حتى عند بعض الناشطين والباحثين، وهو المفهوم الذي يعزوه أصحابه إلى فكرة التحرّر التي كانت تتبناها إحدى مدارس التيارات المناضلة من أجل استقلال الدول الإفريقية من الاستعمار الغربي؛ حيث لم يَعُد ذاك المفهوم واقعيًّا وقابلًا للتحقيق في ظلّ المعطيات السياسية الجديدة للقارة.
يدعم قادة “بَاسْتِيف” الباناقريقانية المُعقلنَة، وهي التي تتطابق مع الوضع الراهن للمنطقة، بعد عقود من الاستقلال، وترسيخ مبدأ المواطنة والسيادة في الشعوب. ولذلك فهم يؤيدون فكرة التمسك المبدئي بالمنظمات الإقليمية، كمنظمة “إِيكُوَاس” باعتبارها خطوةً رئيسيةً لتحقيق التكامل الإقليمي والقاري. وهذا ما يتعارض مع فكرة الانسحاب من المنظمة التي تؤدي إلى تقويض جهود التكامل. فالمنظمة الإقليمية تعكس الوضع السياسي الداخلي للدول المكونة لها مجتمعةً، والإصلاح السياسي الداخلي لدول المنظمة، هو المعول الأول لاستقلال منظمة “إِيكُوَاس” وتمثيلها تمثيلًا حقيقيًّا لشعوب المنطقة.
ومن ناحية العلاقات مع فرنسا، يعتمد “بَاسْتِيف” على معيارَيْ المبدأ والمنطق في بناء العلاقات الخارجية. فالمبدأ يقتضي ضرورة احترام السيادة الوطنية للسنغال، وهو مبدأ غير قابل للتنازل أو التفاوض. بينما المنطق يقتضي عدم اتخاذ أيّ دولة تحترم السيادة السنغالية -بما فيها فرنسا– عدوًّا للسنغال.
وعندما ينتقد “بَاسْتِيف” علاقات فرنسا مع السنغال؛ فلأنها تاريخيًّا تعاملت مع السنغال بالدونية. وينعكس ذلك في عقود الغبن الاقتصادية لصالح فرنسا، سواء تلك المتعلقة بالنفط أو الطاقة أو الصيد أو المعادن الأخرى. وتعهَّد قادة المشروع بتفعيل البنود التي تضمن حق مراجعة كلّ هذه الاتفاقيات مع فرنسا. بينما حذر “سُونْكُو” في أكثر من مرة من الوقوع في فخّ تبديل الأدوار بين القوى العظمى والمتوسطة المتنافسة في المنطقة؛ لأنها تجتمع على نفس الهدف، وهو خدمة شعوبها، ولو على حساب شعوب المنطقة. فيجب أن تكون العلاقات مع هذه القوى مبنيةً على الندّية. وتطبيق هذا المبدأ يجب أن ينسحب على جميع الدول، مع حرية كلِّ دولة من دول المنطقة في اختيار حلفائها الاستراتيجيين وفق مبدأ السيادة والمصلحة.
ومن أكثر الموضوعات حضورًا في علاقات فرنسا بالمنطقة، وتدخل في صميم اهتمامات بـ”بَاسْتِيف” موضوع عملة الفرنك الإفريقي، ومقاربات المشروع في هذا الموضوع متَّزنةٌ وبعيدةٌ عن الحماسة المجرَّدة. رغم الموقف الرافض لعملة الفرنك الإفريقي يبلور “بَاسْتِيف” خيارات منطقيّة متعددِّة للتعامل مع المسألة: أولاها: تكملة مشروع عملة “إِيكُو” الذي قطعت فيه دول “إِيكُواس” أشواطًا مهمةً، وشارك “سُونْكُو” في بلورة هذا المشروع من خلال المشاركة في الورشات مع خبراء اقتصاديين إفريقيين. ثانيتها: إصلاح عملة الفرنك الإفريقي من خلال التخلّص من المبادئ المدرجة على نصوص الاتفاقيات المبرمة مع فرنسا([9])، وهي التي تقلص سيادة دول المنطقة على العملة. ثالثتها: تحمل المسؤولية، ويُفهَم منه إنشاء عملة وطنية تتوافق مع الحقائق الاقتصادية الوطنية.
التَّحدِّي:
على الرغم من أن مشروع “بَاسْتِيف” قد قدّم تضحيات وإستراتيجيات محكمة، تناغمت مع الحسِّ الشعبي، فقبلت الجماهير المشروع، إلا أن تحقيق تطلعات الجماهير وطموح الشعب يبقى طريقًا غير مفروش بالورود. لقد وضع “بَاسْتِيف” حدًّا نهائيًّا لنظام حكم تداول السلطة لمدة عقود، وأعلن الحرب على الفساد، وتحدى القوى العظمى التي استفادت من الوضع الذي كان سائدًا، فأحكمت هيمنتها على الشعب السنغالي. وعليه فإن تحقيق التغيير المطلوب، يُحتِّم عليه التعاطي مع تحديات البقاء في السلطة، وتحييد الدولة العميقة، وخلق علاقة متّزنة مع العالم الخارجي.
الحكم لعبة سياسية كما يرى ميكافيلي، فالعالم السياسي مظلم ومعقَّد، والحكام مجبرون على التعامل مع الواقع الصعب، والمصالح المتنازعة للأفراد والجماعات. فإن الحفاظ على السلطة وتعزيزها يعتبر أمرًا أساسيًّا لاستمرارية المشروع وتحقيق الاستقرار السياسي، والأهداف القريبة وبعيدة المدى. وبالتأكيد، فإن سقوط النظام الذي كان تتحكم في أمره الأقلية المتنفذة من خلال السيطرة على آليات الديمقراطية التمثيلية، شكّل عقدةً نفسيةً عميقةً لأنصار النظام.
ومن المرجَّح أن تحتضن المعارضة بقايا نظام الدولة العميقة، بالإضافات إلى بقية الأحزاب والحركات المحبطة من نتائج الانتخابات، لتشكيل كتلة واحدة شرسة ضد مشروع “بَاسْتِيف”. وتتأكد أهمية التحييد السياسي في أنها ستوفر لـ”بَاسْتِيف” كسب الوقت للتركيز على أولويات المشروع.
وفي السياق الحالي تعتبر معادلة التحييد صعبةً لدى الرئيس “جُومَاي”، لكونها تقتضي غضّ الطرف عن بعض ملفات الفساد، رغم كونها مطلبًا شعبيًّا.
وبالإضافة إلى ما سبق، تتمتّع السنغال بجاذبية قوية للعالم الخارجي؛ بسبب الاكتشافات الهائلة للنفط والغاز على سواحلها، وهي تشكل فرصةً إيجابيةً للمشروع عندما تستطيع السلطة توظيفها بشكل يراعي فيه الحساسيات الجيوسياسية للمنطقة وللعالم.
……………………………………………………………
[1] – أصل كلمة “بَاسْتِيف” أو بالفرنسية “Pastef” اختصار لحزب “وطنيون أفارقة من السنغال للعمل والأخلاق والأخوة”، كما لها معنى خاص باللغة المحلية “وُلُوف” تعني قوة العزيمة.
[2] – استخدامات مصطلح النظام “le système” في أدبيات النخبة السياسية الناشئة في السنغال، تختلف عن الاستخدام التقليدي؛ حيث يقصد بالأول السلطة السياسية التي تشمل كلَّ المكونات المختلفة للأقلية المتنفذة، التي تستميت في حماية مصالحها الضيِّقة على حساب الشعب. وكان هو المستهدف الأول في المشروع السياسي لـ”بَاسْتِيف”، باعتبار التخلّصُ منه شرطًا أساسيًّا لتحقيق التقدم المنشود في السنغال. وهذا المعنى هو المقصود بالمصطلح في ثنايا هذا المقال.
[3] – أنشئ حزب “بَاسْتِيف” في عام ٢٠١٥م، وفي أول استحقاق انتخابي في الانتخابات التشريعية لعام ٢٠١٧م انتخب “سُونْكُو” نائبًا في البرلمان. وفي الانتخابات الرئاسية التي تلتها عام ٢٠١٩م حلَّ “سُونْكُو” في الترتيب الثالث حاصلاً على ١٥٪ من نسبة الأصوات، مع وجود أحزاب وتحالفات بارزة. وفي الانتخابات المحلية لعام ٢٠٢٢م، فاز باكتساح إقليم زيغنشور وانتخب عمدة للإقليم. وفي الانتخابات التشريعية لنفس العام حدثت مفاجئةٌ أخرى؛ حيث فاز تحالفه بنسبة ٣٣٪ من مقاعد المجلس، وبذلك يفقد الحزب الحاكم الأغلبية في المجلس. وتحقيق هذا الإنجاز في هذه الفترة القصيرة يعتبر سابقةً تاريخيةً في السنغال.
[4] – الشعبوية كنمط جديد للحكم التمثيلي ظاهرةُ سياسيةُ تفشَّت مؤخرًا، ويتحدَّى الديمقراطية التمثيلية. ومن أحسن من نظّرت لها “نَادِيَا أورْبِينَاتِي” أستاذة العلوم السياسية في جامعة “كولومبيا” في كتابها “أنا الشعب.. كيف حولت الشعب مسار الديمقراطية”.
[5] – أول خطاب لرئيس الجمهورية إلى الشعب بمناسبة يوم الاستقلال، بتاريخ 4 أبريل ٢٠٢٤م، متوفر في الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=RxsD2S4Dy00&t=699s
[6] – كان عدد الوزراء في الحكومات السابقة يقارب الأربعين وزيرًا، كثيرٌ منها وزاراتٌ بدون أجندات، يعينون فقط لحسابات حزبية ضيقة لا غير.
[7] – ففي أحداث مارس ٢٠٢١م، اشتدَّت المظاهرات الشعبية، وكاد الشعب أن يتمكّن من النظام، وتعالت أصواتٌ تنادي إلى ضرورة استمرار الاحتجاجات حتى سقوط النظام، فأعطى “سُونْكُو” تعليمات مباشرة إلى المتظاهرين، للسماح بتكملة الولاية الرئاسية للرئيس؛ احترامًا للآلية الديمقراطية.
[8] – أول مؤتمر صحفي بعد خروجه من السجن، بتاريخ ١٥ مارس ٢٠٢٤م، متوفر في الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=B9ZICt7F8Zo&t=2631s
[9] – للتّعرف على هذه المبادئ، يمكن الرجوع إلى مقال لي بعنوان: “الفرنك الإفريقي: نموذج التبعية للاستعمار الجديد”. نُشر المقال في موقع “الأفارقة للدراسات والاستشارات” بتاريخ: ٢٤ أبريل ٢٠١٧م. ومتوفر في هذا الرابط: https://n9.cl/dcn4g